إعداد: حسين محمود التلاوي
لا يمثل إعلان قوات الدعم السريع في السودان حكومةً في المناطق التي تسيطر عليها جنوب السودان وغربه مجرد خطوة رمزية لتكريس سيطرة الدعم السريع، بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، على تلك المناطق، بل إنه في حقيقته تطور يكرس الانقسام السياسي والعسكري في البلاد، ويفتح الباب أمام نشوء كيان سياسي ضعيف الشرعية، ولكنه فاعل ومسيطر على الأرض، بما لذلك من انعكاسات عدة على الداخل السوداني. ولا تقتصر تداعيات هذا الإعلان على الداخل، بل تمتد إلى دول الجوار، وعلى رأسها مصر، في العديد من المسارات؛ من بينها تدفق السلاح والمرتزقة، إلى جانب إمكانية تحول الكيان السياسي المُعلَن عنه إلى منصة للعديد من القوى الاستخبارية والأمنية الدولية المعادية لمصر.
mostbet mostbet giriş mostbet mostbet girişوفي سياق متابعة تلك التداعيات، يتناول الجزء الأول من المتابعة خلفيات الأزمة، وتداعيات خطوة الدعم السريع على الداخل السوداني، وعلى دول الجوار؛ خاصة ليبيا وإثيوبيا. على أن يركز الجزء الثاني من المتابعة على التداعيات المحتملة على الأمن القومي المصري، وما يمكن فعله للقضاء على تلك التداعيات، أو تحجيمها.
كيف بدأت الأزمة؟
نشب المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل عام 2023 على خلفية الخلافات بين الطرفين حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، ضمن ترتيبات المرحلة الانتقالية نحو استعادة السودان المسار الديمقراطي عقب الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019 بعد احتجاجات واسعة في السودان. وقد أدى الصراع بين الجيش السوداني والدعم السريع إلى واحدة من أكبر أزمات اللاجئين في العالم؛ حيث فر ملايين السودانيين خارج البلاد إلى دول الجوار؛ ومن بينها مصر، إلى جانب حركة نزوح واسعة النطاق داخل البلاد بعيدًا عن مناطق الاشتباكات.
وبالإضافة إلى التداعيات الإنسانية، أدت المواجهات إلى انهيار مؤسسات الدولة في العديد من المناطق؛ منها العاصمة الخرطوم نفسها؛ حيث اضطرت الحكومة السودانية إلى اتخاذ مدينة بورتسودان على البحر الأحمر عاصمة إدارية مؤقتة. في المقابل أنشأت قوات الدعم السريع هياكل مدنية وإدارية في المناطق التي تسيطر عليها؛ وبوجه خاص غرب البلاد؛ وهو ما انتهى إلى قرار إعلان الحكومة الذي يكرس حالة الانفصال الفعلي.
أولًا: التداعيات على الداخل السوداني
لهذه الخطوة تداعيات متعددة على الداخل السوداني سواءً من حيث التحالفات الداخلية، أو طبيعة الصراع نفسه، أو التعاطي الدولي مع طرفيه. ويمكن إجمال تلك التداعيات فيما يلي:
1. طبيعة الصراع: كان الصراع بين الجيش والدعم السريع في بدايته صراعًا على النفوذ داخل الدولة؛ حيث أراد الجيش السوداني توحيد القوى المسلحة في البلاد تحت مظلة القوات المسلحة، وأرادت قوات الدعم السريع الحفاظ على المكتسبات التي راكمتها على مدى سنوات سواء باسم الجنجويد أو الدعم السريع. لكن بعد خطوة إعلان حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع، تحول الصراع إلى كيانين سياسيَيْن وعسكريَيْن منفصلين؛ بكل ما يحمل ذلك من انعكاسات على وحدة الدولة نفسها، ويضعها على مسار التقسيم، الفعلي وغير الرسمي (حتى الآن)، الذي قد يفضي في النهاية إلى تحول السودان إلى النموذج الليبي (واليمني كذلك) بوجود كيانين متصارعين يحكم كل منهما جزءً من الدولة؛ بما ينطوي عليه ذلك من تعقيد لجهود وساطة إنهاء النزاع.
2. الواقع الميداني: قد يؤدي إعلان الدعم السريع تشكيل حكومة إلى زيادة حدة المواجهات العسكرية بينه وبين الجيش الوطني؛ فمن المرجح أن يزيد الجيش السوداني من عملياته العسكرية ضد مواقع سيطرة الدعم السريع؛ لأن المعركة لم تعد بين قوات مسلحة وجماعة متمردة وقوى متحالفة معها، ولكن بات الصراع على وحدة الدولة وسلامة أراضيها. وقد يؤدي هذا التوسيع المحتمل للعمليات العسكرية إلى زيادة في حدة الأزمة الإنسانية التي كانت قد بدأت تشهد بوادر انفراجة نجاح الجيش السوداني في طرد قوات الدعم السريع من العاصمة الخرطوم وإحكام السيطرة عليها.
3. التحالفات الداخلية في السودان: قد يؤثر هذا الإعلان على رؤية بعض القوى السياسية والعسكرية للوضع الراهن في البلاد؛ فتعيد صياغة أولوياتها واستراتيجياتها في التعامل مع الصراع الجاري، سواء بفض التحالفات أو عقدها مع أي من الجانبين. لكن الأمر المهم في هذا السياق هو التحالفات القبلية التي من المؤكد أنها سوف تتأثر بخطوة الدعم السريع؛ ومن المرجح أن يؤدي الإعلان إلى تعزيز الدعم الذي يتلقاه الدعم السريع من القبائل المتخالفة معه؛ فالتحالف مع كيان سياسي أكثر في مميزاته من التحالف مع قوة عسكرية متمردة على الجيش الوطني للدولة.
4. مواقف القوى الدولية: على الرغم من أن السودان له حكومة شرعية معترف بها دوليًّا؛ وهي مجلس السيادة برئاسة اللواء عبد الفتاح البرهان، فإن إعلان الدعم السريع إنشاء حكومة، وإن لم يسحب الشرعية الرسمية من مجلس السيادة، فقد يسحب منه بعض الصلاحيات؛ وأبسطها التنسيق في مهمات الإغاثة في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع.
كذلك قد ينعكس الانقسام في المشهد الداخلي السوداني على الانقسام في المشهد الدولي؛ حيث تختلف وجهات النظر بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الملف السوداني إزاء طرفيه؛ فهناك من القوى الدولية ما تدعم الجيش السوداني ووحدة الدولة؛ وعلى رأسها مصر، وهناك ما يدعم الدعم السريع لتحقيق مكتسبات السيطرة على الأرض والثروات. قد يتعزز الانقسام بين القوى الدولية؛ مما يزيد من تعقيد التنسيق الدولي للوصول إلى حل شامل للأزمة السودانية يقضي على جذور الصراع، ويوحِّد جهود المجتمع الدولي لإعادة تهيئة السودان لاستعادة مؤسسات الدولة.
ثانيًا: التداعيات على دول الجوار
لا يمكن أن يمر إعلان الدعم السريع إنشاء حكومة في مناطق سيطرته دون تداعيات على دول الجوار؛ وهي التداعيات التي تتوزع على العديد من المسارات الأمنية والسياسية والعسكرية والإنسانية، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1. ليبيا: على الرغم من أن السودان لا تشترك مع ليبيا في خط حدودي طويل، فإن المنطقة الحدودية بينها ذات أهمية استراتيجية مرتفعة؛ وبوجه خاص للدعم السريع. يحتفظ الدعم السريع بعلاقات وثيقة مع شبكات التهريب في جنوب ليبيا، وكذلك في منطقة الساحل والصحراء، وقد يؤدي إعلان قوات الدعم إنشاء حكومة إلى تعزيز هذه الأنشطة عبر الحدود. تتزايد احتمالات ذلك إذا علمنا بوجود علاقات غير مباشرة بين قوات الدعم السريع وقوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر التي تسيطر على الشرق الليبي. وقد تكونت هذه العلاقات عبر الصلات بين الطرفين وبين شبكات التهريب الناشطة في المنطقة.
قد يعزز ذلك أنشطة تهريب السلاح والبشر بين جانبي الحدود؛ مما قد يفتح المجال أمام تدخل حكومة الوحدة الوطنية الليبية في الصراع السوداني. تتخذ حكومة الوحدة الوطنية الليبية من غرب البلاد مقرًّا لها؛ وهي القوة المنافسة لقوات حفتر المتمركزة في الشرق الليبي. قد تحاول حكومة الوحدة الليبية تعميق الاتصالات مع الجيش السوداني بهدف زيادة الضغط على الدعم السريع؛ مما يحد من نشاطات التهريب في الجنوب الليبي. ولكن يبقى تدخل حكومة الوحدة الوطنية الليبية مرهونًا بالعديد من العوامل؛ من بينها مواقف القوى الدولية الداعمة للأطراف المختلفة في ليبيا والسودان، والتواجد العسكري والأمني والسياسي على الأرض بقدر يساعد على تحقيق الأهداف المرصودة.
وربما تأتي في هذا السياق الزيارةُ الحالية التي يقوم بها صدام حفتر رئيس أركان القوات البرية في الجيش الوطني الليبي ابن المشير خليفة حفتر إلى تشاد؛ حيث التقى بالرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، وبحث معه العديد من الملفات؛ أهمها فتح المعابر بين الدولتين، والتعاون الأمني، وضبط الحدود. وأشارت وسائل الإعلام التابعة لحكومة شرق ليبيا إلى أن الزيارة تأتي في سياق “دعم المساعي الإقليمية لتحقيق الاستقرار”.
2. إثيوبيا: عاد الصراع السوداني على إثيوبيا بالعديد من الفوائد المختلفة سواء في ملفات الحدود مع السودان أو في العلاقة مع مصر. لا تتمتع الحكومة الإثيوبية بعلاقات جيدة مع الجيش السوداني لوجود العديد من النزاعات ذات الصلة بالحدود أبرزها النزاع على منطقة الفشقة الحدودية؛ حيث يتم الجيش السوداني إثيوبيا بتحريك ميليشيات مدعومة من الجيش الإثيوبي للاستيلاء على أراضٍ داخل السودان. وإلى جانب ذلك تأتي أنشطة التهريب عبر الحدود المشتركة وملف سد النهضة ليزيدا توتر العلاقات بين الجانبين.
يمكن أن يؤدي إعلان الدعم السريع لحكومة في مناطق سيطرته شرق السودان وغربها إلى تعزيز التعاون مع الحكومة الإثيوبية في تسوية بعض الملفات الحدودية، إلى جانب غض الطرف عن بعض أنشطة التهريب، والعمليات العسكرية الإثيوبية داخل الأراضي السودانية مقابل بعض الامتيازات المالية. قد يزيد ذلك من وتيرة الأنشطة العسكرية الإثيوبية في الأراضي السودانية الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني؛ بما يزيد الضغط على القوات المسلحة السودانية؛ وهو ما يصب مباشرة في مصلحة الدعم السريع.
كذلك فإن إعلان الدعم السريع حكومة في مناطق سيطرته قد يمثل فرصة سانحة لإثيوبيا من أجل الضغط الأمني على مصر عبر الحدود الجنوبية للبلاد؛ وهو ما سوف يجري تناوله بالتفصيل في الجانب المتعلق بتداعيات خطوة الدعم السريع على الأمن القومي المصري.
3. تشاد: تحتفط تشاد بعلاقات قوية مع إقليم دافور في الغرب السوداني على المستوى القبلي؛ حيث تتوزع القبائل ذات الصلات الاجتماعية والتجارية على جانبي الحدود. هذا الوجود القبلي ليس بمنأى عن تأثيرات الصراع بين الدعم السريع وقوات الجيش السوداني؛ لأنه في الوقت الذي يتمتع فيه الدعم السريع بدعم بعض القبائل في الغرب السوداني وامتداداتها داخل تشاد ضمن شبكة العلاقات الإقليمية للدعم السريع، توجد بعض القبائل داخل تشاد في حالة عداء مع القبائل الداعمة للدعم السريع؛ بما يعني ضمنًا أنها في حالة عداء مع الدعم السريع.
قد يؤدي إعلان الدعم السريع حكومة في مناطق سيطرته إلى زيادة حدة التوترات القبلية في تشاد المأزومة داخليًّا على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية؛ مما يزيد من هشاشة البنية الداخلية للدولة التي تعاني أصلًا من تداعيات الأزمة السودانية ممثلة في تدفق موجات اللجوء عبر الحدود؛ حيث يعبر اللاجئون إلى تشاد حاملين معهم كل تناقضات الصراع الداخلي السوداني.
4. جنوب السودان: لم تكن دولة جنوب السودان بمنأى عن الأزمة الجارية منذ أكثر من عامين في جارتها الشمالية؛ حيث تعاني جنوب السودان على أكثر من مستوى؛ أبرزها موجات اللجوء إلى أراضيها. قد يؤدي تفاقم النزاع في السودان جراء خطوة الدعم السريع إلى زيادة موجات اللجوء إلى جنوب السودان؛ مما قد يزيد بدوره من الضغط على البنية التحتية للدولة، إلى جانب ما تحمله موجات اللجوء من مهددات أمنية واجتماعية لا تنقص جنوب السودان الغارق في النزاعات المسلحة منذ استقلاله.
وبالإضافة إلى موجات اللجوء، قد تجد دولة جنوب السودان نفسها أمام معضلة تمدد الميليشيات الساعية إلى السيطرة على حدود الجارة الشمالية؛ مما قد يدفع بجنوب السودان إلى الدخول على خط المواجهة معها، ولو على سبيل المناوشات، أو الحوادث الحدودية المتفرقة. لذلك قد يؤدي ذلك التطور السياسي في الجارة الشمالية إلى تحفيز جنوب السودان على الدخول على خط الوساطة لتهدئة الصراع بين الجيش السوداني والدعم السريع لوقف امتداده إلى داخل أراضيها المنهكة بصراعاتها الداخلية ونزاعاتها الحدودية مع دول الجوار؛ مثل حادث تبادل إطلاق النار مع الجيش الأوغندي قبل أيام.
لا يزال الصراع بين الجيش السوداني والدعم السريع مفتوحًا أمام المزيد من التصعيد بالنظر إلى استمرار تباين رؤى القوى الإقليمية والدولية إزاء الصراع الذي زادته خطوة الدعم السريع حدة وتعقيدًا؛ بما أسفر عن تداعيات على دول الجوار جرى إجمالها في هذا الجزء الأول. وفي الجزء الثاني من تلك المتابعة حصر لأبرز التداعيات المحتملة على الأمن القومي المصري جراء تلك الخطوة الواسعة من الدعم السريع على طريق تأزيم الوضع في السودان.