تبدو العلاقات بين القيادتين العسكرية والسياسية في إسرائيل, معقدة ومتعددة الأوجه, سواء من الناحية النظرية أو العملية. فيما تُظهر الخلافات بين القيادتين مدى الفجوة في تطلعات الجانبين خاصة فيما يتعلق بأهداف العدوان العسكري على قطاع غزة بعد هجوم طوفان الاقصى. ولقد أدت الخلافات المعهودة بين القيادتين إلى عدم فاعلية العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد العرب والفلسطينيين في كثير من الأحيان.
هذا وقد دبت الخلافات الشديدة مؤخرا بين القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل, عقب هجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر الماضي، فأسقطت به هيبة الردع الإسرائيلي وأسطورة الجيش الذي لا يُقهر. ثم تفاقمت تلك الخلافات بعد فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه رغم توغله في قطاع غزه وقتله لعشرات الآلاف من الفلسطينيين العزل.
انتقاد القيادة العسكرية:
رغم مُضي أكثر من ثلاثة أشهر على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يحقق أهم أهدافه وعلى رأسها إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين أو القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة. وبسبب صمود المقاومة الفلسطينية واستمرار سقوط العديد من الجنود الإسرائيليين بين قتيل وجريح، اشتعل الخلاف والصدام بين القيادتين السياسية والعسكرية. إذ يحاول كل طرف إلقاء تهمة الفشل العسكري والأمني على الطرف الآخر، وهذا ما نراه جليًا كلما انعقد المجلس الأمني المُصغر، حيث تتعرض القيادة العسكرية متمثلةً في رئيس الأركان هرتسي هليفي لهجوم حاد من قبل قادة أحزاب الإئتلاف وعلى رأسهم الوزيرين المتطرفين بن جفير وسموتريتش.
فيما أشعل الهجوم حالة من الغضب لدي الكثيرين من القادة العسكريين السابقين الذين أعربوا عن دعمهم لرئيس الأركان، ونددوا بموقف وزراء حكومة نتنياهو الذين يتهمون المؤسسة العسكرية بالتقصير. وكان الخلاف قد تفاقم بين القيادتين بعدما أعلن هليفي عن تشكيل لجنة تحقيق لبحث أسباب الفشل الذريع في التصدي لعملية “طوفان الأقصى”.
تحذير القيادة العسكرية!
سبق للقيادة العسكرية أن حذرت القيادة السياسية من تراجع جاهزية الجيش الإسرائيلي، جراء اشتعال الجبهة الداخلية ورفض الكثير من قوات الاحتياط الامتثال للخدمة العسكرية حال استدعائهم، وذلك بسبب رفضهم لأجندة الحكومة اليمينية الدينية التي أصرت على إجراء “التعديلات” القضائية. وترى القيادة العسكرية أن انقسام الجبهة الداخلية هو الذي شجع حركات المقاومة الفلسطينية في غزة على شن هجوم “طوفان الأقصى” المفاجئ على إسرائيل في أكتوبر الماضي. وما زالت القيادة العسكرية تحذر حكومة نتنياهو من أن الأوضاع الحالية في الضفة الغربية باتت على حافة الانفجار، وأن إسرائيل قد تواجه قريبا انتفاضة فلسطينية ثالثة، وهو ما سيجعل الجيش الإسرائيلي يواجه جبهة قتالية جديدة.
مراقب الدولة يتحرك!
سارع مراقب الدولة في إسرائيل “متتياهو أنجلمان” باتخاذ خطوة استباقية نحو إجراء تحقيق حول إخفاقات مواجهة هجوم “طوفان الأقصى”. إذ أبلغ أنجلمان كلا من وزير الدفاع يوآف جالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي، بأنه بدأ العمل لإجراء تحقيق حول الفشل الأمني والعسكري الذي تعرضت له إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي. وهنا يُثبت أنجلمان أنه لا يرغب في الانتظار حتى انتهاء الحرب أو تشكيل لجنة رسمية لبحث الإخفاقات الأمنية. وبحسب القانون الإسرائيلي، فإن من صلاحيات مراقب الدولة القيام بإجراءات رقابية على الجيش.
هذا وقد طلب أنجلمان من رئيس الأركان الاطلاع على وثائق وملفات سرية تتعلق بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وسبق له أن اتهم الحكومة الإسرائيلية في أكتوبر الماضي بـالفشل في حماية الجبهة الداخلية، بعد أن اضطرت لإخلاء الآلاف من المستوطنين اليهود المقيمين في منطقة غلاف غزة وفي المنطقة الشمالية. وكان مراقب الدولة قد تلقى مئات الشكاوى من المستوطنين -الذين تم إجلاؤهم من غلاف غزة وشمال إسرائيل- بعدما اتهموا المؤسسات الحكومية بالتقصير في حمايتهم وعدم تقديم الخدمات اللازمة لهم في ظل حالة الحرب.
خلاف دائم!
إن إشكالية توتر العلاقات بين القيادتين السياسيةوالعسكرية، ليست جديدة في إسرائيل التي شهدت العديد منها خلال معظم الحروب والمعارك الكبرى ضد العرب والفلسطينيين, وهو ما أسفر عن تشكيل العديد من لجان التحقيق. إذ ألقت لجنة أجرانات بالمسؤولية كاملة على القيادة العسكرية وأغفلت مسئولية القيادة السياسية عن حرب 1973. ولقد رفض اسحق رابين بعض توصيات اللجنة وأكد على مسؤولية كل من القيادتين وعلى خطورة تهرب القيادة السياسية من مسؤوليتها.
كما أظهرت حرب لبنان الأولى خلافا شديدا بين القيادتين السياسية والعسكرية, حيث أمر شارون قائد القيادة الشمالية بالتحرك لمواجهة الجيش السوري وفعل ذلك دون التشاور مع الحكومة التي سعت إلى تجنب المواجهة مع السوريين وبذلك خالف شارون دوره باعتباره خاضع لسلطة الحكومة.
وخلال الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000 لم تحرص القيادة السياسية على تنفيذ توجيهاتها من خلال الجيش, ومع استمرار الانتفاضة تجاهل رئيس الأركان شاؤول موفاز تعليمات القيادة السياسية، لإخلاء منطقة حي أبو سنينة في الخليل، بعد اتفاق تفاهم بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية. فيما أثبتت حرب لبنان الثانية خلال عام 2006 مدى إشكالية العلاقات بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية في إسرائيل. أما عملية “الرصاص المصبوب”، التي جرت في الفترة, بين نهاية عام 2008 وبداية عام 2009 فقد أظهرت أيضا إشكالية العلاقة بين القيادتين، بسبب عجز القيادة السياسية عن إصدار توجيهات واضحة للجيش.
كما أثبت تعامل اسرائيل مع التهديد النووي الإيراني وجود خلافات بين القيادتين، حيث أصدرت القيادة السياسية (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع ايهود باراك) في عام 2010 تعليماتها للقيادة الأمنية (رئيس الأركان جابي أشكنازي ورئيس الموساد مئير داجان) للإعلان عن حالة التأهب تمهيدا لشن هجوم على إيران. لكن إشكنازي وداجان خالفا موقف نتنياهو وباراك. فيما اتسمت عملية “الجرف الصامد” في صيف عام 2014 بالغموض في أداء القيادة السياسية، وانساق الجيش الإسرائيلي لمعركة لم يتأهب لها. ولا زال الخلاف قائما حتى الآن بين القيادتين السياسية والعسكرية ولقد بلغ مداه في الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
تداعيات الخلاف بين القيادتين:
من المؤكد أن استمرار الخلاف بين القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل سيكون له العديد من التداعيات مثل:
1- التأثير بالسلب على أداء الجيش الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وضد حزب الله في جنوب لبنان. مما سيعزز صمود المقاومة وسيطيل من أمد الحرب، مع إيقاع المزيد من الخسائر الإسرائيلية في الأرواح والعتاد.
2- انهيار ثقة الشارع الإسرائيلي في مؤسساته الأمنية، حيث تشير الاستطلاعات بأنه كلما مر الوقت دون هزيمة حماس، كلما ارتفعت نسبة الإسرائيليين الذين يفقدون ثقتهم بالجيش، إضافةً إلى تراجع ثقتهم بحكومة نتنياهو.
3- ارتفاع شعبية أحزاب المعارضة على حساب شعبية أحزاب الائتلاف بما فيها الليكود بزعامة نتنياهو والقوة اليهودية بزعامة بن جفير والصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش. وهو ما يعني سقوط الحكومة مع الانتخابات المقبلة.
4- اشتعال غضب الجبهة الداخلية في إسرائيل وانطلاق المظاهرات الداعية لإسقاط حكومة نتنياهو وإجراء انتخابات جديدة حتى قبل انتهاء الحرب على غزة وجنوب لبنان.
5- ضعف موقف حكومة نتنياهو في محادثات الوساطة لتبادل الاسرى ووقف إطلاق النار. وزيادة الضغوط الخارجية على حكومة تل أبيب لإجراء صفقة شاملة لتبادل الأسرى وإنهاء الحرب على غزة.
6- تمسك قادة المقاومة الفلسطينية بشروطهم لإبرام صفقات تبادل الأسرى والإصرار على وقف العدوان قبل أي محادثات، والتمس بوجودهم كطرف فاعل ضمن السلطة القادمة في غزة بعد انتهاء الحرب.