بعد تمرير “التعديلات” القضائية الأخيرة في الكنيست، انتفض معسكر المعارضة في إسرائيل ضد الائتلاف اليميني الديني المتطرف بقيادة نتنياهو، وسرعان ما اندلعت الاحتجاجات داخل الجيش، وخاصةً بين صفوف جنود الاحتياط، فأعلن الآلاف منهم رفضهم الامتثال للخدمة العسكرية في حال استدعائهم. وهذا الموقف غير المسبوق في تاريخ الدولة العبرية يحمل تداعيات خطيرة على كفاءة الجيش الإسرائيلي ومدى قدرته على أداء مهامه العسكرية. وبعد أن رفض عشرات الطيارين المشاركة في التدريبات احتجاجا منهم على تمرير “التعديلات” الأخيرة فإن ذلك سيؤثر حتمًا على جاهزية سلاح الطيران لشن الغارات ضد أهداف في سوريا وغزة وجنوب لبنان في حال اندلاع حرب مُقبلة.
وكان رئيس الأركان الإسرائيلي “هرتسي هليفي” قد أصدر بيانا خاصا دعا فيه جنود الاحتياط بالعودة للامتثال لأداء الخدمة العسكرية، مؤكدا أن الانقسام السياسي الداخلي يتطلب من جميع أفراد الجيش نبذ الفرقة والتفاني في حماية الدولة العبرية، لا سيما في تلك المرحلة التي تحمل الكثير من التحديات الجسيمة.
أزمة خطيرة!
تبدو الأزمة الحالية التي تواجه جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر مما يعكسها الإعلام، فالأمر لايتعلق فقط باليمين أو اليسار، وإنما بات يتعلق بانهيار منظومة الخدمة الاحتياطية العسكرية، مما يشكل خطرا كبيرا على مستقبل الجيش نفسه، لأنه قد يُصاب بحالة غير مسبوقة من الضعف إذا ما واجه حربا متعددة الجبهات.
ومن المعلوم أن جيش الاحتلال يتبوأ منذ تأسيسه مكانة مرموقة لدى الإسرائيليين لأنه يمثل مرآة المجتمع وبوتقة الانصهار لكل فئاته. لكن ذلك الجيش قد أصابه ما أصاب المجتمع من تمزق وانشقاق جراء تعاقب الخلافات السياسية والثقافية بين العلمانيين والمتدينين.
وخلال الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، سواء على قطاع غزة أو على مُخيم جنين، لم يتغيب أي عنصر من سلاح الاحتياط، سواء الطيارين أو جنود الوحدات القتالية الأخرى، وعليه فإن موجة الاحتجاجات الحالية من جانب شريحة من الطيارين وأفراد الاحتياط تمثل تهديدًا ليس على الجيش وحده بل على مستقبل الدولة وأمنها القومي، لأن فكرة رفض الامتثال للخدمة العسكرية بدأت تنتشر داخل قطاعات الجيش بعد تغوُّل الائتلاف الديني المتطرف على صلاحيات السلطة القضائية.
غضب الجنود..
من المعلوم أن القوة الضاربة للجيش الإسرائيلي تعتمد على منظومة الاحتياط، خاصةً أن قانون التجنيد الإلزامي يستثني مئات الآلاف من المتدينين الذين يرفضون الخدمة العسكرية. وهناك غضب شديد من نظام التجنيد الحالي الذي يستثني المتدينين ويُلقي بعبء الخدمة العسكرية على كاهل الآخرين ثم يعاقبهم إذا رفضوا الامتثال للاستدعاء ضمن الاحتياط، بينما يمنح مخصصات مالية شهرية لأولئك المتدينين المعفيين من الخدمة العسكرية.
وفي ظل تحول المشهد السياسي الإسرائيلي بات المجندون – الذين ينهون خدمتهم الإلزامية ثم يتحولون إلى سلاح الاحتياط ويعملون ويدفعون الضرائب للدولة- يرفضون بشدة تحمل عبء الخدمة العسكرية في ظل تلك الحكومة اليمينية الدينية المتطرفة، وإن أي عقوبة ستُفرض عليهم ستزيد من عزمهم على التصدي لتلك الحكومة.
بين نارين!
بشكل عام، هناك جنود احتياط يدعمون التمرد على الحكومة الدينية الفاشية، ولكنهم في الوقت نفسه، لايرفضون التطوع للخدمة الاحتياطية مخافة الإضرار بكفاءة الجيش. وعلى الجانب الآخر فإن الذين يرفضون التطوع للخدمة الاحتياطية يدركون جيدا خطورة ذلك على الجيش. وعليه فإن أفراد الاحتياط أصبحوا منقسمين على أنفسهم، فإذا توقفوا عن التطوع للخدمة العسكرية سيضرون بالجيش، وإذا لم يتوقفوا سيكون ذلك ضد قناعاتهم، لأن بقاءهم ضمن صفوف الاحتياط سيُحبط أي محاولة لإصلاح مسار الدولة العبرية التي تتجه نحو الهاوية.
تداعيات رفض الخدمة..
لن تقتصر الأزمة الحالية على قوات الاحتياط، بل ستؤثر تدريجيا على قناعات جميع أفراد جيش الاحتلال سواء الدائمين منهم أو الإلزاميين، وإذا استمر ذلك ستتراجع كفاءة الجيش وسيُخفق في تحقيق مهامه العسكرية. ولا شك أن رفض أداء الخدمة الاحتياطية ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي سيحمل تبعات خطيرة على مستقبل إسرائيل داخليا وخارجيا.
أولا: التداعيات الداخلية..
لعل ما يزيد من غضب أفراد الاحتياط والعسكريين عموما، هو أن التشريعات البرلمانية التي تحد من نفوذ القضاء – فضلا عن قانون التجنيد الذي سيُطرح قريبا- تصدر عن قيادات سياسية دينية متطرفة لم تلتحق أصلا بالخدمة العسكرية، لكنها باتت تسيطر على اتخاذ القرار وتُحدد أين ومتى تُشن العمليات العسكرية.
ولقد أدت “التعديلات” القضائية الأخيرة إلى وقوف الكثير من الجنود والقادة العسكريين في صف المعارضة، وما تشهده النقاشات داخل الكنيست يمثل نقطة اللاعودة، بعد فشل حوارات المصالحة برعاية الرئيس هرتسوج. فيما اتخذت الأزمة السياسية بعدا عسكريا خطيرا، بعد إعلان الآلاف من جنود الاحتياط من معظم الأسلحة، وعلى رأسهم سلاح الطيران، عدم المشاركة في العمليات العسكرية تحت تلك الحكومة الدكتاتورية. وبذلك فقد الجيش كثيرا من قدراته وكفاءاته بما يشكل تهديدا خطيرا على مستقبل إسرائيل.
وهناك مخاوف أخرى من إمكانية انتشار ظاهرة التمرد داخل صفوف الاحتياط العاملين وليس فقط المتطوعين. أما إذا انتشر التمرد داخل صفوف القوات النظامية فستكون تلك هي الطامة الكُبرى على جيش الاحتلال.
ثانيا: التداعيات الخارجية
هناك قلق شديد داخل إسرائيل من تداعيات تمرد أفراد الاحتياط على جاهزية جيش الاحتلال وقدراته القتالية، وهو قلق له مبرراته لأن قوات الاحتياط وحتى القوات الدائمة والإلزامية تواجه مخاطر شديدة في ظل التحولات الاستراتيجية الإقليمية والدولية.
وبحسب شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”، فإن المسؤولين في إيران وتنظيم حزب الله اللبناني يراقبون تداعيات الأزمة السياسية والعسكرية في إسرائيل، ويفضلون رؤية إسرائيل تنزف من الداخل دون أي صدام خارجي. لذا فمن المتوقع ألا تُقدم إيران أو الميليشيات التابعة لها على أي عملية عسكرية ضد إسرائيل حتى لا تستغلها حكومة نتنياهو للخروج من أزمتها الداخلية.
وتدرك إيران وكل التنظيمات المناوئة لإسرائيل بأن أزمتها الحالية تصب في مصلحتهم، إذ يصعب عليهم جميعا إضعاف إسرائيل بنفس القدر الذي يحدثه الائتلاف الحكومي الحالي بقيادة نتنياهو. فالأزمة الداخلية الحالية خلفت تداعيات خطيرة اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا فضلا عن الإضرار بالعلاقات تل أبيب الخارجية؛ لأن الأجندة السياسية لحكومة نتنياهو أدت إلى تراجع علاقات إسرائيل بالعديد من الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.