تتسم العلاقات التركية الروسية بالتعقيد الشديد، فتركيا العضو في حلف الناتو اشترت أنظمة دفاع جوي روسية S-400، متحدية بذلك علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية. لكنها في ليبيا وسوريا وقرة باغ تقف على الطرف الآخر من روسيا، وعلى الرغم من إسقاط تركيا لطائرة روسية عام 2015، واغتيال السفير الروسي في أنقرة عام 2016، ومقتل 34 جنديًا تركيًا في غارة جوية روسية في عام 2020م، فقد تبادل أردوغان وبوتين الزيارات بانتظام، وتحدثا هاتفيًّا بشكل متكرر. وبينما تنتشر العديد من مقاطع الفيديو التي تظهر الآثار المدمرة التي تحدثها طائرات بيرقدار TB-2 في القوات الروسية، مما أسهم بشكل كبير في إبطاء تقدم القوات الروسية نحو العاصمة كييف، وإعلان تركيا تفعيل اتفاقية مونترو وإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل ومنع عبور السفن البحرية، إلا أن تركيا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي لم تغلق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية ولم تشترك في فرض أي عقوبات على روسيا، وامتنعت أيضًا عن التصويت في مجلس أوروبا أثناء التصويت على تعليق عضوية روسيا. وقد صرح أردوغان معبرًا عن ذلك التوجه بقوله: “لن نتنازل عن مصالحنا الوطنية مع مراعاة التوازنات الإقليمية والعالمية، ولذلك نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا”.
تداعيات إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل على العلاقات التركية الروسية
لا أرى أن إعلان تركيا إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل بمثابة تغيير في سياستها تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، بل هو تكريس لسياستها المتوازنة في الأزمة، فمنذ بدء الأزمة وكييف تلح على أنقرة بضرورة إغلاق المضايق، لكن تركيا لم تتخذ القرار إلا بعد دراسة قانونية متأنية، كما استخدمت لهجة ناعمة في إعلان القرار ملوحة بأنه مجرد احترام لالتزام أنقرة بموجب القانون الدولي، حيث قال وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو إنه تم مخاطبة جميع دول العالم بعدم إرسال سفن حربية إلى البحر الأسود، ولحمل موسكو على تقبل القرار، صرح أوغلو بأن: “لروسيا الحق بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936، في إعادة السفن إلى قواعدها الأصلية، وهي البحر الأسود في هذه الحالة”، مضيفًا أنه: “حتى إذا قررت تركيا بعد عملية قانونية قبول طلب أوكرانيا وإغلاق المضيقين أمام السفن الحربية الروسية، فلن يتم المنع إلا من السفر في الاتجاه الآخر، بعيدا عن قواعدهم الأصلية في البحر المتوسط”.
وبالمقابل أبدت روسيا عدم انزعاجها من قرار الحكومة التركية بشأن إغلاق مضيقي البسفور والدردنيل التركي أمام السفن الحربية، حيث صرّح السفير الروسي في تركيا أليكسي يرخوف في مقابلة تلفزيونية مع قناة “خبر ترك” أن موسكو تقدر القرار التركي، قائلًا: “يجب أن أقول إننا نقدر حماية اتفاقية مونترو وتنفيذها، حيث إنها وثيقة مهمة من وثائق القانون الدولي”.
الإغلاق خطوة رمزية
قبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا حشدت روسيا أسطولًا بحريًّا مجهزًا بالكامل في شبه جزيرة القرم، بنقل العديد من الوحدات من بحر البلطيق، ففي وقت سابق من شهر فبراير عبرت 6 سفن حربية وغواصة روسية مضيق الدردنيل والبوسفور إلى البحر الأسود، لإجراء ما وصفته موسكو بتدريبات بحرية بالقرب من المياه الأوكرانية، وبالتالي فإن روسيا تمتلك موارد كافية للحفاظ على قوتها البحرية في البحر الأسود لنحو شهرين إلى 3 أشهر”.
ومن ثمَّ فإن العديد من المحللين يرون أن إغلاق المضيقين يُعتبر خطوة رمزية للغاية ولن يؤثر على المسار الفعلي للعملية العسكرية الروسية المتواصلة على الأراضي الأوكرانية.
ماذا استفادت أنقرة؟ أظهرت تركيا بإعلانها إغلاق المضيقين التزامها بالمعاهدات الدولية، وذكّرت جميع أطراف النزاع، بالدور الفاعل الذي يمكن أن تلعبه حال تطوّر مسار العمليات العسكرية في الفترة المقبلة، كما ستسهم هذه الخطوة في تحسين علاقة تركيا المتوترة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
مكاسب تركيا من الحرب
1-التغطية على المشكلات الداخلية التي يتعرض لها الرئيس التركي، في ظل تزايد حدة الأزمة الاقتصادية، والتي أدّت إلى تدهور حاد في شعبيته، وهذا ما أظهرته العديد من استطلاعات الرأي التي كانت تُنذر بعدم تمكنه من الفوز بانتخابات 2023م، فكانت الحرب بمثابة طوق النجاة لأردوغان لصرف انتباه الشعب عن الأزمات الداخلية، عن طريق تنشيط السياسة الخارجية، والدخول في طريق حل الأزمة، وإظهار تركيا كدولة فاعلة في المجتمع الدولي.
2-الاستفادة من تطور الصناعات العسكرية التركية وقدرتها على المنافسة العالمية، حيث لعبت الطائرات المسيرة التركية من نوع بيرقدار TB2 دورًا كبيرا في الحرب الروسية الأوكرانية، وقد أسهم ذلك في تعزيز مكانة تركيا عسكريًّا.
3- فتح قنوات التقارب من جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قدّم وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكين الشكر لنظيره التركي على “دعم تركيا القوي في الدفاع عن أوكرانيا وسيادتها وسلامتها الإقليمية”، كما أشاد الجمهوري ماركو روبيو، الذي يشغل منصب نائب الرئيس من لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ، بالطائرات التركية بدون طيار التي تستخدمها أوكرانيا.
4-استغلال الأزمة وتسوية العديد من الخلافات مع الجانب الروسي، فقد حافظ أردوغان على مدى سنوات بعلاقات جيدة مع كل من روسيا والغرب، فأنقرة لا ترى أن أيٍّ من الطرفين يمكن أن يكون بديلًا في علاقته معها عن الآخر.
5-توظيف تركيا هذه الأزمة في إبراز قدرتها للمجتمع الدولي على القيام بدور الوساطة بين الجانبين الروسي والأوكراني، حيث صرح المتحدث باسم أردوغان إبراهيم قالين لقناة “إن تي في” الخاصة بأن “الرئيس أردوغان سيدعو الرئيس بوتين لإعطاء فرصة لوقف إطلاق النار، وإنشاء ممر إنساني وتنفيذ عمليات إجلاء”، مع الدعوة لإجراء محادثات “على مستوى القادة” بين روسيا وأوكرانيا، ويمكن أن تجري في تركيا.
خسائر تركيا من استمرار الحرب
تتمثل أهم الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها تركيا كلما طال أمد الصراع الروسي الأوكراني في الآتي:
أ-صعوبة استمرار تركيا في المسار المتوازن الذي يمكن وصفه “بالاستراتيجي الهش”، وحينئذ سيكون لزاما على أنقرة أن تختار مع أي معسكر ستكون، ولا شك أنها ستدفع ثمنًا لاختيارها.
ب-التعرض لأزمة في الطاقة، حيث تُغطي تركيا احتياجاتها من الطاقة بالكامل عن طريق الاستيراد وهي تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، الذي استوردت منه 33.6 مليار متر مكعب عام 2020، من أصل إجمالي استهلاك في نفس العام وصل إلى أكثر من 48.1 مليار متر مكعب، وفي ترجمة صريحة للأزمة التي يمكن أن يُحدثها استمرار الحرب الروسية الأوكرانية صرح المدير التنفيذي لشركة الغاز التركية “غاز داي”، محمد دوغان، قائلا: “إذا نظرنا لأسوأ الاحتمالات، وتصاعد الصراع (الروسي الأوكراني) خلال الصيف، وقامت روسيا بوقف تصدير الغاز لنا، فإن أسعار الغاز ستقفز بشكل كبير”. لكن إذا وقع ذلك خلال الشتاء، فإنه لن تكون أمام تركيا أي فرصة: “سنكون قد انتهينا”.
ج-خسارة تركيا للسوق السياحي الروسي والأوكراني حال استمرار الحرب، سيكلف قطاع السياحة التركي 10 مليار دولار بفعل التأثير المضاعف الناجم عن تأثير قطاع السياحة على 54 قطاع فرعي حسب تقديرات رئيس اتحاد المرافق السياحية في إيحة محمد إيشلر.
د-توقف عمل مجموعة “روساتوم” النووية الروسية التي تقوم ببناء أول محطة للطاقة النووية “آق قيويو” في تركيا، والذي كان يُعوّل عليه الأتراك بشكل مباشر في تعزيز أمن الطاقة في تركيا، ودعم اقتصادها.
ه-توقف تدشين خط أنابيب “ترك ستريم” الذي يمتد من روسيا إلي تركيا عبر البحر الأسود، ويهدف إلي نقل الغاز لتركيا ودول جنوب وجنوب شرق أوروبا عبر الأراضي التركية، مُتجاوزًا أوكرانيا، لتصبح تركيا بموجبه مركزًا لمبيعات الغاز الطبيعي الروسي في أوروبا.
و-توقف مشروع “قناة اسطنبول”، إذ تبدي روسيا قلقًا تجاه المشروع، وذلك رغم تعهد تركيا المُسبق بعدم تحويل القناة إلى ساحة حربية.
ز-مزيد من التصعيد الروسي ضد مصالح تركيا السياسية والأمنية في شمال سوريا، بشأن إخلاء المُرتزقة والمليشيات المسلحة التابعة لتركيا من إدلب، وتكبيدها المزيد من الخسائر الاقتصادية والاستراتيجية في صفوفها وصفوف القوات الموالية لها.
وختامًا
في الوقت الذي تكبدت فيه العديد من دول العالم خسائر فادحة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، تأتي تركيا كأكبر رابح من هذه الحرب، فقد لعبت الدبلوماسية التركية المتوازنة في إدارة الأزمة دورًا كبيرًا في إصلاح العلاقات التركية الأمريكية والأوربية، مع الإبقاء على عدم توتر العلاقات مع روسيا.
ففي ميدان الحرب يبرز اسم تركيا عبر طائرات بيرقدار التي لعبت دورًا كبيرا في إيقاف الزحف الروسي للسيطرة على العاصمة كييف، وقد بدا هذا واضحا في العديد من الفيديوهات المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والت تظهر العديد من الجنود الأوكرانيين وهم يغنون للطائرات التركية؛ وقد أسهم هذا بشكل كبير في إعادة تقييم حلفاء تركيا من أعضاء حلف الناتو لعلاقاتهم بتركيا، للدرجة التي تجعل الإدارة الأمريكية بعد رفض قاطع لتزويد تركيا بطائرات إف 16 على إثر شراء تركيا منظومة الصواريخ الروسية إس 400، ترى في تزويد تركيا بتلك الطائرات مصلحة للأمن القومي الأمريكي، ويخدم في الوقت نفسه وحدة حلف الناتو على المدى البعيد.
ومن ناحية أخرى استضافت تركيا المحادثات الثنائية الروسية الأوكرانية، وتسعى جاهدة أن يكون لقاء بوتين وزيلينسكي على أراضيها. وهذا إن حدث سيكون انتصارا كبير للدبلوماسية التركية، وسيجعل العديد من دول العالم تعيد تقييم علاقاتها مع تركيا، على أساس أنها أصبحت فاعلا مهما في الأزمات الدولية. وسيلقي هذا بظلاله بلا شك على الشأن الداخلي، ويسهم بشكل كبير في تحسين صورة أردوغان في وقت تنتظر فيه تركيا انتخابات ستشكل فلسفة الحكم لسنوات قادمة.