المقدمة
أجرى وزير الحرب الإسرائيلي يوآف جالانت يوم الأحد 24 مارس 2024 زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة تلبية لدعوة تلقاها من نظيره الأمريكي لويد أوستن، والتقى جالانت خلال الزيارة بنظيره الأميركي ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي كان قد أجرى مؤخرًا جولة في المنطقة، حذّر خلالها من مغبة هجوم إسرائيلي مُحتمل على مدينة رفح في جنوب قطاع غزة، خاصة بعد أن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن حكومته عازمة على اجتياح رفح حتى من دون موافقة واشنطن.
التوقيت الصعب!
تعتبر زيارة جالانت من أهم وأصعب الزيارات التي قام بها مسؤول إسرائيلي للولايات المتحدة خلال العام الأخير، إذ تحَمَّلَ خلالها مهمة حساسة للغاية وهي أن يستمد لإسرائيل الشرعية والوقت اللازم لاستمرار العدوان على قطاع غزة، بل والحصول على الضوء الأخضر لاجتياح مدينة رفح الحدودية والمكتظة بالنازحين، بما يحمله ذلك من كوارث إنسانية وتداعيات إقليمية.
كما جاءت الزيارة في وقت تواجه فيه حكومة نتنياهو تحديات جسيمة داخليا وخارجيا:-
– فعلى مستوى التحديات الداخلية، هناك العديد من المشاكل والخلافات داخل الائتلاف الحكومي نفسه، وخلافات أخرى مع المعارضة حول ملف الحرب على غزة وضرورة إعادة الأسرى الإسرائيليين عبر صفقة تبادلية مع حماس. وهناك أزمة حادة الآن تكاد تعصف بحكومة نتنياهو، والمتمثلة في مشروع قانون إستمرار إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية، وهو ما يلقى معارضة شديدة حتى من بين أعضاء حكومة الطوارئ مثل جانتس وإيزنكوت وكذلك من بعض أعضاء الليكود وعلى رأسهم وزير الحرب جالانت.
– وفيما يخص التحديات الخارجية، فبعد ستة أشهر من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ووقوع عشرات الآلاف من القتلى والجرحى جُلُّهم من النساء والأطفال، بدأت العديد من الدول تتراجع عن دعم إسرائيل وأخذ بعضها يهدد بقطع العلاقات معها، مثل كولومبيا التي هدد رئيسها “جوستافو بيترو” بقطع علاقات بلاده الدبلوماسية مع إسرائيل إذا لم تمتثل لقرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار في غزة وإنفاذ المساعدات. وبعد أن تعرضت إسرائيل للإدانة في محكمة العدل الدولية جراء ما ترتكبه من تطهير عرقي وإبادة جماعية للفلسطينيين، أعلنت إيرلندا أنها ستنضم قريبا إلى الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقا ضد إسرائيل أمام محكمة لاهاي الدولية. كما دعا الرئيس الكولومبي دول العالم إلى مقاطعة إسرائيل إذا لم تنفذ مشروع قرار مجلس الأمن الدولي الأخير بوقف إطلاق النار في غزة. فيما ندد 130 نائبا بريطانيا باستمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، مطالبين حكومتهم بتعليق صادرات السلاح لإسرائيل. هذا وقد أعلنت مسؤولة بالخارجية الأميركية استقالتها احتجاجا على دعم واشنطن لتل أبيب، وأكدت المسؤولة “أنيل شيلين” التي تعمل في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان بوزارة الخارجية الأمريكية، أنها استقالت بعد إدراكها بأنه لا جدوى من محاولة تعزيز حقوق الإنسان بالشرق الأوسط، طالما تصر واشنطن على مواصلة دعمها العسكري لإسرائيل.
أما أخطر التحديات الخارجية فهو ما يتعلق بالموقف الأمريكي الجديد الذي اتخذه الرئيس بايدن مع إسرائيل، ورئيس حكومتها نتنياهو، وهو ما بدا جليا في موقف واشنطن في مجلس الأمن بخصوص غزة، حيث لم تستخدم واشنطن حق الفيتو لوقف القرار 2728 الذي يعتمد وقف إطلاق النار الفوري خلال شهر رمضان في الحرب على غزة.
أهم القضايا:
تركزت مباحثات جالانت في الولايات المتحدة حول العديد من القضايا الأمنية والعسكرية والسياسية،وعلى رأسها:-
1- تطوّرات الحرب الإسرائيلية ضد حركات المقاومة في غزة والجهود المبذولة لإبرام صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس. والتعرف على البدائل التي تقترحها واشنطن لاجتياح مدينة رفح. لاسيما في ظل تحفظات إدارة بايدن على الخطة الإسرائيلية لاجتياح المدينة المكتظة بالنازحين الفلسطينيين.
2- ضمان الحفاظ على التفوق النوعي العسكري الإسرائيلي من أجل تحقيق الأهداف المرجوة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ومواجهة تنظيم حزب الله في الجبهة الشمالية. لذا طلب جالانت تدفق المزيد من بالأسلحة والذخيرةالأمريكيةوالحصول على طائرات إف 35 وإف 15 وطائرات أباتشي، بعد تخوف حكومة نتنياهو من تراخي الدعم العسكري الأمريكي جراء الخلافات بين واشنطن وتل أبيب بشأن تطورات الأزمة الإنسانية في قطاع غزة وغموض الرؤية الإسرائيلية حول مستقبل القطاع بعد انتهاء الحرب.
3- بحث مآلات التصعيد العسكري في الجبهة الشمالية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، وجدوى الدور الذي يقوم به المبعوث الأميركي “عاموس هوخشتاين” لنزع فتيل الأزمة مع لبنان وترسيم الحدود بينهما. وضمان الحصول على الدعم الأمريكي الكامل في حال شنت إسرائيل حربًا على حزب الله.
4- بحث ما يتعلق بموضوع إيران، وما تشكله من تهديدات لإسرائيل سواء كانت مباشرة عبر برنامجها النووي، أو غير مباشرة عبر ميليشياتها الشيعية في سوريا والعراق ولبنان واليمن، فضلا عن دعمها لحركات المقاومة السنية في فلسطين.
5- المطالبة بتخفيف حدة الانتقادات الأمريكية للممارسات الإسرائيلية في مُدن الضفة الغربية، بعدما أبدت الإدارة الأمريكية خشيتها من اندلاع “انتفاضة” جديدة قد تُسقط السلطة الفلسطينية وتهدد اتفاقية السلام مع الأردن وتخلط الأوراق السياسية والأمنية في المنطقة.
6- المطالبة باستمرار الدعم السياسي الأمريكي لحكومة تل أبيب في المحافل الدولية، وخاصةً بعد مثولها للمرة الأولى أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكابها جرائم الحرب والإبادة الجماعية.
الملفات الشائكة!
لا شك أن الحرب الدموية التي تشنها إسرائيل للشهر السادس على قطاع غزة، قد عكست مدى الخلاف بين واشنطن وتل أبيب حول بعض الملفات الشائكة ومنها:
1-مستقبل غزة!
وهو ما تُطلق عليه إسرائيل خطة “اليوم التالي”، وهنا يكمن خلاف شديد بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن التي ترى وجوب عودة السلطة الفلسطينية “المُعدلة” لتولي شؤون الحُكم في قطاع غزة بعد القضاء على حماس، لكن الوزراء المتطرفين في حكومة نتنياهو يرفضون عودة السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس لقطاع غزة، بزعم أنها تتبنى سياسة العداء والتحريض ضد إسرائيل، مُطالبين بإعادة الاستيطان اليهودي من جديد لقطاع غزة، وإخضاع القطاع مرة أخرى للحكم العسكري الإسرئيلي. وبالطبع لن تتمكن إسرائيل من تحقيق ذلك طالما ظلت حركات المقاومة صامدة في غزة.
2-معضلة اجتياح رفح!
رغم ضغوط الإدارة الأمريكية لمنع إسرائيل من اجتياح رفح، إلا أن القيادة العسكرية الإسرائيلية قد أعدت خطتها لاجتياح المدينة، خاصةً إذا فشلت المساعي لإبرام صفقة تبادل الأسرى وفق الشروط الإسرائيلية. وجاءت زيارة جالانت للولايات المتحدة لأخذ الضوء الأخضر من القيادة الأمريكية التي تبدي تحفظا على الخطة الإسرائيلية لاجتياح رفح. وتحاول واشنطن إقناع نتنياهو بعدم اجتياح رفح بالكامل، لأن ذلك سيؤدي حتما لسفك المزيد من دماء الفلسطينيين، وهو ما ترفضه مصر وحذرت من تداعياته.
3-حتمية القضاء على المقاومة:
إن صمود حركات المقاومة المسلحة في قطاع غزة يمثل عقبة أمام سيناريو “التسوية” السياسية الأمريكية في الأراضي الفلسطينية، وعليه فإن من مصلحة واشنطن، ولو على المدى البعيد، أن تتمكن إسرائيل من دحر المقاومة الفلسطينية. ولعل هذا يعكس التوافق بين واشنطن وتل أبيب بشأن حتمية القضاء على المقاومة في رفح، ولكن الخلاف يكمن فقط في طبيعة الخطة العسكرية. ودليل التوافق بين الجانبين يبدو جليا في البيان الذي أصدرته الخارجية الأمريكية بعد لقاء جالانت – بلينكن، وجاء فيه أن الولايات المتحدة ترى أن إسرائيل تفي بالتزاماتها وأنها تستخدم الأسلحة الأمريكية وفقا لضوابط القانون الدولي، وهي لا تمنع وصول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.
زيارة أمنية بصبغة سياسية:
– تعتبر زيارة جالانت للولايات المتحدة زيارة أمنية بالأساس، نظرًا لتوقيتها خلال الحرب، ونظرًا لمَن قام بها وهو وزير الحرب الإسرائيلي. لكن تلك الزيارة لم تخلو من البُعد السياسي الداخلي الذي يعكس حجم الخلافات بين نتنياهو والوزير جالانت. ورغم ان جالانت قد أكد أنه استهل زيارته لواشنطن كممثل لدولة إسرائيل وباسم حكومتها، لكن تصريحاته لا يمكن أن تخفي الخلافات الداخلية بينه وبين نتنياهو.
إذ أتت الزيارة في ذكرى مرور عام على الخطاب الذي ألقاه جالانت ضد “الإصلاحات” القضائية، وحذر فيه من أن إسرائيل تتجه نحو كارثة أمنية ، وقد وقعت بالفعل في السابع من أكتوبر الماضي- مما دفع نتنياهو لإقالته من منصبه، لكنه تراجع وأعاده لمنصبه بعد مظاهرات عارمة خرجت لدعم جالانت. ومنذ ذلك الحين زادت الفُرقة بينهما، ولا يجمعهما الآن سوى اعتزامهما مواصلة الحرب على غزة.
والآن فقد تفاقمت الخلافات بينهما حول قانون تجنيد الحريديم، حيث يرفض جالانت القانون بالصيغة الحالية التي يوافق عليها نتنياهو، مُعلنًا أنه لن يشارك في صياغة قانون جديد إلا بموافقة كافة أعضاء حكومة الطوارئ، في إشارةٍ منه إلى جانتس وأيزنكوت اللذين يعارضان إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية.
كما يتعرض جالانت لانتقادات شديدة من قبل الوزراء المتطرفين في حكومة نتنياهو وعلى رأسهم زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش الذي اعترض على حركة تعيينات الضباط التي أجراها جالانت مؤخرًا، لتولي مناصب عسكرية مهمة. وأكد سموتريتش أن الضباط الأكثر كفاءة وشراسة في المعارك الأخيرة تم استبعادهم عمدا من تولي تلك المناصب، وأن جالانت وكبار قادة الجيش هم المسؤولون عن كارثة “طوفان الاقصى” ولا يحق لهم الاستئثار بتعيين القيادات العسكرية الجديدة.
وفي ظل تلك الخلافات فإن أنصار نتنياهو يتهمون وزير الحرب جالانت والوزير بيني جانتس بأنهما يمثلان “الطابور الخامس” الذي يفتعل الأزمات بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة الرئيس بايدن، والتعاون مع واشنطن لإسقاط حكومة نتنياهو وخوض انتخابات جديدة.
ختاما، فإن حكومة نتنياهو تواجه أصعب التحديات في المرحلة الحالية لكنها تعرقل مساعي وقف القتال وإبرام صفقة لتبادل الأسرى مع حماس، من أجل الاستمرار في السلطة. لكن عامل الوقت ليس في صالح إسرائيل وهو عامل مصيري بالنسبة لحياة أسراها في قطاع غزة. كما أن استمرار العدوان الإسرائيلي دون خطة واضحة بشأن مستقبل القطاع، سوف يشعل الفوضى في الأراضي الفلسطينية، وسيهدد الأمن القومي لدول الجوار وعلى رأسها مصر والأردن.
ولأن مصر لها حدود مع غزة وإسرائيل، فهي تواجه أخطر التحديات الناجمة عن سيناريوهات اجتياح رفح التي يتواجد بها قرابة مليون ونصف نازح فلسطيني. وهنا يتوجب على القاهرة بحث التدابير اللازمة في حال سيطر الجيش الإسرائيلي على رفح واقتحم محور صلاح الدين “فيلاديلفيا”، وعبث بالمنطقة الحدودية مع مصر بحجة اغلاق “أنفاق التهريب” بين سيناء وقطاع غزة. فهل ستهدد مصر بالتصعيد العسكري؟ أم ستضطر لتعليق اتفاقية السلام مع إسرائيل؟ وماذا ستكون مواقف دول السلام والتطبيع؟
أسئلة لا بد من طرحها وتجهيز الردود اللازمة لها بدراسة متأنية ورؤية استشرافية على المديين القريب والبعيد.