شهدت سوريا في السنوات الأخيرة أحد أعنف الصراعات في العصر الحديث، والذي أسفر عن انهيار النظام الذي حكم البلاد لعقود. هذا الحدث التاريخي سيترك بصمات عميقة على المنطقة والعالم أجمع، وأثار تساؤلات عديدة حول أسباب هذا السقوط، وتداعياته على المستوى الإنساني والسياسي، وآفاق المستقبل في سوريا والمنطقة.
القوى السورية المتصارعة داخليًا وخارجيًا
أولاً: القوى الداخلية
- الحكومة السورية: قادها الرئيس السوري بشار الأسد، وتدعمها القوات المسلحة السورية وأجهزة الأمن، وتعمل بدعم من حلفاء خارجيين.
- المعارضة المسلحة: وتشمل مجموعة متنوعة من الفصائل والجماعات، تختلف في أيديولوجياتها وأهدافها وتحالفاتها. يمكن تقسيم هذه الأطياف إلى الفئات التالية:
-الجيش السوري الحر (FSA): تأسس في عام 2011 من منشقين عن الجيش السوري.
كان يهدف إلى الإطاحة بالنظام وإقامة دولة ديمقراطية، مدعوم من تركيا والولايات المتحدة في مراحل معينة.
-هيئة تحرير الشام (HTS): كانت تُعرف سابقًا بجبهة النصرة، وهي فرع القاعدة في سوريا قبل أن تعلن فك الارتباط، تسيطر على مناطق واسعة في إدلب. تعتبرها الأمم المتحدة منظمة إرهابية.
- القوات الكردية: قوات سوريا الديمقراطية قسد (SDF): تحالف تقوده وحدات حماية الشعب الكردية (YPG). يحظى بدعم الولايات المتحدة، خصوصًا في مواجهة تنظيم داعش، ويسيطر على مناطق شمال شرق سوريا.
4-الميليشيات التركمانية: تنشط في المناطق الحدودية، وتعمل غالبًا ضمن “الجيش الوطني السوري”، وهو تحالف مدعوم من تركيا.
- تنظيم الدولة الإسلامية (داعش): رغم فقدان معظم الأراضي، ما زال التنظيم يقوم بعمليات محدودة في مناطق متفرقة.
ثانياً: القوى الخارجية
- روسيا: الحليف الأقوى للنظام السوري، تقدم دعمًا عسكريًا وسياسيًا، وتشغل قواعد عسكرية مثل قاعدة حميميم الجوية.
- إيران: تدعم النظام السوري من خلال الحرس الثوري الإيراني وميليشيات مثل حزب الله اللبناني. ويعاونها لواءات الفاطمي والزينبي التابعان لقوات الحشد الشعبي.
- تركيا: تدعم فصائل المعارضة المسلحة وتنفذ عمليات عسكرية في الشمال ضد القوات الكردية.
- الولايات المتحدة: تركز على محاربة تنظيم داعش وتدعم قوات سوريا الديمقراطية.
كيف بدأت الأزمة؟
بدأت الأحداث في سوريا في 15 مارس 2011 متأثرة بموجة ما يسمى “الربيع العربي” التي اجتاحت العديد من الدول العربية. انطلقت الاحتجاجات في البداية كدعوات سلمية للإصلاح السياسي، وإنهاء الفساد، وتحقيق الحرية والكرامة، لكنها سرعان ما تحولت إلى مطالب بإسقاط النظام بسبب القمع العنيف الذي واجهت به السلطات هذه التحركات.
أبرز محطات البداية
- احتجاجات درعا: كانت البداية الحقيقية للأحداث في مدينة درعا، حيث اعتقلت السلطات الأمنية مجموعة من الأطفال بسبب كتابتهم شعارات مناهضة للنظام على الجدران. أدى ذلك إلى احتجاجات شعبية واسعة قوبلت باستخدام القوة المفرطة، ما أثار غضبًا شعبيًّا متزايدًا.
- القمع العنيف: ردت الحكومة السورية بالقوة المفرطة على المحتجين، بما في ذلك إطلاق النار الحي على المحتجين السلميين واعتقالهم وتعذيبهم، مما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى.
- توسّع الاحتجاجات: مع زيادة القمع، امتدت الاحتجاجات إلى مدن أخرى مثل دمشق، حمص، حماة، وإدلب، حيث خرج الناس للمطالبة بإسقاط النظام.
- التطور إلى نزاع مسلح: بحلول نهاية 2011، ومع استمرار القمع وعدم استجابة النظام لمطالب الإصلاح، بدأت بعض المجموعات بتنظيم نفسها في مواجهات مسلحة، ما أدى إلى تحول الاحتجاجات إلى نزاع شامل.
تحول الصراع إلى حرب أهلية: 2012، مع تصاعد القمع، بدأ بعض المنشقين عن الجيش السوري بتشكيل مجموعات مسلحة للدفاع عن المتظاهرين، مما أدى إلى ظهور ما يُعرف بـ”الجيش السوري الحر”، شهد العام اشتباكات كبيرة في حمص وحلب وريف دمشق.
تصاعد العنف والتدخل الدولي2013: استخدام الأسلحة الكيميائية في غوطة دمشق أدى إلى إدانات دولية، مع اتهامات للنظام السوري، “جبهة النصرة” وفصائل أخرى متطرفة بدأت في الظهور على الساحة.
صعود تنظيم داعش2014: توسعت سيطرة تنظيم داعش في سوريا والعراق، مما أضاف تعقيدًا جديدًا إلى الصراع، أعلنت الولايات المتحدة تشكيل تحالف دولي لمحاربة داعش، مع بدء غارات جوية في سوريا.
التدخل الروسي2015: تدخلت روسيا عسكريًا لدعم النظام السوري في سبتمبر 2015، مما قلب موازين القوى لصالح النظام، المعارضة المسلحة خسرت مناطق استراتيجية مثل حلب وريف دمشق تدريجياً.
تراجع المعارضة2016-2018: النظام السوري، بدعم من روسيا وإيران، استعاد السيطرة على معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة، بما في ذلك حلب والغوطة الشرقية.
محادثات أستانا: في 20 ديسمبر 2016، وافق وزراء خارجية إيران وتركيا وروسيا، بناءً على قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 2254 (ديسمبر 2015)، على عقد محادثات سلام سورية في أستانا، عاصمة كازاخستان التي اعتبرتها جميع الأطراف المعنية، محايدة.
ونص قرار مجلس الأمن على صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وممارسة الحكم بطريقة شفافة وخاضعة للمساءلة، لإنهاء الصراع.
وفي 28 ديسمبر 2016، وافقت تركيا وروسيا على خطة وقف إطلاق نار على كامل الأراضي السورية، على أن تدخل حيز التنفيذ منتصف ليلة 30 ديسمبر 2016.
التهدئة أو خفض التصعيد مايو 2017: خلال الجولة الرابعة من محادثات أستانا، وقّع ممثلو روسيا وإيران وتركيا مذكرة لخلق 4 “مناطق خفض التصعيد”
المنطقة الأولى: كامل محافظة إدلب، وأجزاء من محافظات اللاذقية وحماة وحلب.
المنطقة الثانية: أجزاء من ريف محافظة حمص الشمالي. المنطقة الثالثة: الغوطة الشرقية.
المنطقة الرابعة: أجزاء من محافظتي درعا والقنيطرة.
لم يلتزم النظام السوري بالاتفاق وشن وحلفاؤه بشكل متواصل هجوما على منطقة الغوطة الشرقية بريف دمشق، مما أدى إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى، وتقسيم المنطقة إلى 3 قطاعات محاصرة، والتضييق على قوات المعارضة.
أصدر مجلس الأمن الدولي يوم 24 فبراير/شباط 2018 القرار رقم 2401، وطالب فيه جميع الأطراف بوقف إطلاق النار فورا مدة 30 يوما بهدف إيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين في المناطق المحاصرة، وإجلاء الجرحى.
لكن الحكومة السورية وحلفاؤه لم يلتزموا بالقرار، وواصلوا قصف الغوطة الشرقية التي تقع ضمن مناطق خفض التوتر المتفق عليها عام 2017
من 2018 إلى 2024 بدت الأوضاع مجمدة ميدانيا وسياسيا، وبقيت محافظة إدلب المعقل الرئيسي للمعارضة المسلحة، حيث تجمعت فيها معظم الفصائل.
قصة سقوط النظام: انطلاق عملية ردع العدوان
وفي الساعات الأولى من صباح يوم الأربعاء الموافق 27 نوفمبر، شنت فصائل المعارضة السورية، عملية عسكرية ضد القوات الحكومية السورية وحلفائها باسم “ردع العدوان”، عقب مواجهات عنيفة شهدتها مناطق الاشتباك في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي.
خلال الساعات الأولى من هجومها المفاجئ، حققت المعارضة المسلحة تقدما كبيرا وظهرت في ثوب أكثر تماسكا وتنظيما من خلال “غرفة عمليات عملية ردع العدوان”، حيث سيطرت على 20 بلدة وقرية في ريفي حلب وإدلب، إلى جانب قاعدة الفوج 46، النقطة الإستراتيجية الأهم في الطريق إلى حلب.
وفي اليوم التالي، 28 نوفمبر، سيطرت المعارضة على قرى إضافية في ريف إدلب الشرقي، ما جعلها على بُعد كيلومترات قليلة من طريق M5 السريع، الرابط بين شمال سوريا وجنوبها والواصل بين مدن إستراتيجية أهمها حلب وحمص وحماة. وفي الصباح التالي، استمر تقدم القوات في ريفي إدلب وحلب، مستحوذة على قرى ومدن جديدة، أهمها مدينة سراقب في ريف إدلب الواقعة على ملتقى طريقين دوليين.
حلب أولى المحطات
في اليوم نفسه، 29 نوفمبر، شنت المعارضة هجوما مكثفا على مدينة حلب، وخلال ساعات نجحت في السيطرة على عدة أحياء رئيسية، منها الحمدانية، والجميلية، وصلاح الدين، وبحلول نهاية اليوم وصلت القوات إلى الساحة الرئيسية وسط المدينة.
وفي الساعات الأولى من يوم 30 نوفمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على قلعة حلب ومقر المحافظ، وأمام هذا التقدم انسحبت القوات الحكومية إلى معاقل محدودة في إدلب، بينما تراجعت في حلب أيضا.
حماة المحطة التالية
بحلول مساء 30 نوفمبر، حققت المعارضة تقدما سريعا نحو محافظة حماة، وسيطرت على عشرات البلدات والقرى الرئيسية، كما تمكنت المعارضة من الاستيلاء على مطار حلب الدولي الذي وقع في البداية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
كان سقوط حماة بمثابة شهادة وفاة مبكرة للنظام الذي لم يفقد السيطرة على المدينة منذ عام 2011، وهو ما فتح الطريق للمعارضة للاستيلاء على بلدتين لهما أهمية رمزية دون قتال، هما محردة التي يقطنها الكثير من المسيحيين والسلمية التي تعد أحد مواطن الطائفة الإسماعيلية والتي دخلتها المعارضة بفضل اتفاق مع شيوخ المدينة ومجلسها الديني الإسماعيلي.
السيطرة على حمص ودمشق وسقوط الأسد
في يوم 7 ديسمبر أيضا، وأمام انسحابات قوات النظام المتتالية أمام تقدم المعارضة تمكنت هذه الأخيرة من التغلب على بقايا قوات النظام في مدينة حمص ودخولها في مساء ذلك اليوم، حيث احتفلت بتأكيد سيطرتها على أبرز ميادينها وجامع الصحابي خالد بن الوليد.
وفي نفس اليوم، تقدمت قوات المعارضة إلى ريف دمشق الجنوبي، ومن جديد انسحبت قوات النظام من عدد من البلدات الهامة لتصبح المعارضة على بعد 10 كيلومترات فقط من ضواحي دمشق، في تطور مثير يعكس حجم الضغط العسكري الذي واجهته القوات السورية في تلك المناطق.
وبعد حصار المعارضة للعاصمة وخاصة القادمين من جبهة درعا والسويداء من الجنوب، ومن ريفي دمشق الشرقي والغربي، وبقدوم فجر يوم 8 ديسمبر تمكنت المعارضة من السيطرة على العاصمة دمشق، ودخول كل المؤسسات الإستراتيجية والحيوية مثل مطار المزة العسكري، وقصر الشعب، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ورئاسة الأركان.
أسباب السقوط السريع
1-التخطيط العسكري المسبق: الذي تم إعداده بدقة عالية من قبل المعارضة المسلحة على مدى عام مضى، كان هدفه الأولى هو إحداث تغيير فعلى على الأرض فى خريطة النفوذ بينها وبين قوات النظام خارج منطقة تمركز المعارضة فى إدلب.
2-انسحاب الجيش المنهك: جاء الانسحاب المتخاذل والسريع من قبل قوات النظام أمام تقدم المعارضة فى محاور استراتيجية داخل محافظة حمص الاستراتيجية ليفتح الباب أمامها لتحقق هدفها الرئيسى فى إسقاط حكم بشار الأسد فعلياً.
3-انشغال حلفاء النظام: أتت هذه الأحداث وقت ما زالت فيه روسيا غارقة في حربها ضد أوكرانيا، كما أن ضرباتها الجوية فشلت هذه المرة في صدّ المقاتلين الذين اجتاحوا مساحات واسعة من الأراضي، أما إيران، فلطالما أرسلت مستشارين عسكريين للجيش السوري، ودعمت الجماعات المسلحة الموالية للحكومة على الأرض، لكن إيران والمجموعات المتحالفة معها، لا سيما «حزب الله» اللبناني، تعرّضت خلال السنة الماضية لضربات كبيرة من إسرائيل على خلفية الحرب في قطاع غزة، ثم بين إسرائيل و«حزب الله» المدعوم من إيران في لبنان، كما سحب «حزب الله» العديد من مقاتليه من ضواحي دمشق ومنطقة حمص القريبة من الحدود ما أضعف وجوده في البلد المجاور.
4-أخطاء نظام بشار فى التقدير الاستراتيجي: سواء لموقف قواته على الأرض – اعتماداً على دعم الحلفاء- فى مواجهة زحف قوات المعارضة السورية من إدلب نحو حلب وحماة وحمص وصولاً إلى دمشق، أو في مماطلة النظام السوري تجاه مطالب أردوغان في التطبيع، وهو المطلب الذى كان مخططاً له حل إشكاليات “مزدوجة” لدى الطرفين التركي والسوري تمكنهما من إجراء مقايضات سياسية على الأرض وتجاه ملفات سياسية مهمة.
5-الأسلحة المتطورة والمسيرات: منذ عام 2013، لم يعد من الممكن وصف فصائل المعارضة في سوريا بأنها “خفيفة التسليح”، فقد حصل العديد منها على مدافع رشاشة ثقيلة وقذائف مضادة للطائرات وقذائف هاون وبنادق من أنواع متعددة، كما امتلكت دبابات ومركبات قتالية للمشاة، حصلت على معظمها من مخازن الحكومة، كما لا يمكن إغفال الدعم الخارجي ولا سيما التركي، وخلال الهجوم الأخير، استخدمت فصائل المعارضة مجموعة متنوعة من الأسلحة لوحظت في فيديوهات انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مثل البنادق الهجومية “إيه كيه 47” (AK-47) و”إم 16″ (M16)، إلى جانب مدافع رشاشة أعلى مثل “رشاش بيكا” الذي يجمع صفات كلٍّ من الكلاشنكوف والديكتريوف والغرينوجوف، إلى جانب بعض بنادق القناصة من الحقبة السوفيتية. بالإضافة إلى الأسلحة المحلية.
حرب المسيرات وكتائب شاهين
ما كان واضحا منذ بدء انطلاق عملية “ردع العدوان” هو استخدام فصائل المعارضة سلاح الطائرات المسيرة بمنهجية أتاحت لها استهداف مروحيات تابعة للحكومة السورية في مطار النيرب بحلب، وقتل قائد الأمن العسكري في محافظة حماة، ومهاجمة مقرات حساسة ومعدات عسكرية وتجمعات لقوات الحكومة السورية، ولا يخفى على أحد الدور التركي في إمداد المعارضة بهذه المسيرات.
6- تكتيكات مختلفة
ساعد هذا التنوع في الأسلحة فصائل المعارضة على بناء تكتيكات هجومية فعالة، في سياق ضعف واضح لقوات الحكومة السورية، وانشغال الحلفاء (إيران وروسيا) بمعارك خارج سوريا. من هذه التكتيكات أن يحاصر مقاتلو فصائل المعارضة منشآت الحكومة السورية الرئيسية (المطارات والمقرات والثكنات والمدارس العسكرية ومواقع الدفاع الجوي)، ويعزلوها ويقصفوها، وفي النهاية يهاجموها بعد أن يستهلكوا قدراتها على الصد.