سيظل نصر اكتوبر المجيد خالدًا في التاريخ، لأنه طوى صفحة النكسة المريرة، وحرر أرض سيناء الغالية، ورسم ملامح المستقبل للمصريين والعرب، بعدما أعاد لهم كرامتهم وعزتهم. إن الجيش المصري العظيم الذي يؤمن بعدالة قضيته، لم يرفع راية الاستسلام بعد نكسة يونيو 1967م، ولم يترك جيش الاحتلال ينعم بالهدوء والاستقرار، بل شن حرب الاستنزاف التي كلفت جيش العدو خسائر فادحة.
ولم تكتف القيادة المصرية بحرب الاستنزاف بل أرادت إنهاء الاحتلال وتحرير كافة الأراضي المصرية وتحطيم أسطورة ما يُسمى بالجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، فكان قرار شن حرب أكتوبر 1973م.
خطة الخداع..
اختارت القيادة العسكرية المصرية توقيتًا نموذجيا لشن تلك الحرب الخالدة، حيث كان الإسرائيليون لا يتوقعون إمكانية شن هجوم مصري، بعد أن قامت القاهرة بطرد الخبراء السوفييت. كما فضلت القيادة المصرية شن الحرب واجتياح خط بارليف في السادس من أكتوبر الذي صادف حلول شهر رمضان بما يحمل من إيمانيات، وعيد الغفران اليهودى الذي تتوقف فيه الانشطة الحياتية المعتادة.
وفي ظل الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية للمصريين قبل الحرب، لم تكن الأجواء العامة توحي بإمكانية شن هجوم عسكري مصري ضد إسرائيل. لكن القيادة المصرية التي عملت في صمت وسرية وخداعٍ للعدو، استغلت تلك الأجواء وصدَّرت عبر الإعلام والصحافة صورة البلد المنهمك في مشاغله وهمومه الداخلية، ولذا كانت المفاجأة الكبرى التي أذهلت الجميع بما فيهم العدو الإسرائيلي. وبفضل عبقرية فكر القيادة العسكرية وتوقيت شن الحرب، استطاع الجيش المصري تحرير أرض سيناء المقدسة التي مر بها الأنبياء وتجلى عليها رب العزة. وهي المفتاح لموقع مصر بين قارات العالم وحضاراته.
من الانكسار إلى الانتصار
تعرضت القوات المسلحة المصرية لهزيمة غير مستحقة ونكسة غير مُبررة في عام 1967، ولكن تلك القوات المصرية الأبية لم تستسلم للحالة النفسية والمعنوية الصعبة التي مرت بها أيام النكسة، بل تماسكت ولملمت جراحها، وكان للشعب المصري دور مهم في استعادة قوة جيشه، لأنه خرج إلى الشوارع رافضًا حالة الانكسار ومطالبًا بشن الحرب لاسترداد الأرض المحتلة وتحرير تراب الوطن من الاحتلال الإسرائيلي. وبفضل عزيمة الشعب وإرادته وتلاحمه مع جيشه، عبر الجيش المصري قناة السويس ودمر خط بارليف المنيع، ولقن العدو المتغطرس هزيمة قاسية لم ولن ينساها.
حرب استرداد الحقوق..
إن الحرب التي خاضها الجيش المصري منذ 48 عاما لم تكن حربا عدوانية بل كانت دفاعيةً، لاسترداد الحقوق وتطهير أرض سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، ومن الثابت أن العرب عموما لا يقاتلون إلا دفاعا عن حقوقهم. ولذا، فقد حارب الجيش المصري دفاعا عن أرضه ضد جيش إسرائيلي معتدٍ لا يقاتل إلا من أجل الاستمرار فى احتلال أرض الغير.
ولأن حرب أكتوبر كانت مشروعة، فقد حقق المصريون نصرا تحطمت معه أوهام الإسرائيليين بأن العرب باتوا عاجزين عن استرداد حقوقهم أو تحرير أرضهم أو التجرؤ على محاربة الجيش الإسرائيلي. كما أن حرب أكتوبر غيرت معالم الخريطة السياسية الإقليمية والدولية بعدما أدرك المجتمع الدولي أن لمصر جيشًا حديثًا قادرًا على صنع المعجزات، وهذا ما تأكد عمليًا عبر تدمير خط بارليف الحصين، في ظل الفشل الاستخباراتى الإسرائيلى.
وفي ذكرى حرب أكتوبر من كل عام، يتملك الإسرائيليين شعور بالحزن والهزيمة والاكتئاب، حيث يراجعون شريط الأحداث الأليمة التي تتضمن أعدادًا كبيرة من القتلى والأسرى، وهو ما لم تتقبله العقلية الإسرائيلية المتغطرسة.
ثمار النصر..
يُعدُّ نصر أكتوبر 1973 من أعظم إنجازات الدولة المصرية في العصر الحديث، لأنه أعاد ثقة المصريين بأنفسهم وبقواتهم المسلحة، وأعاد للعرب هيبتهم فأصبحوا يمتلكون قرارهم، ويسيطرون على مقدراتهم الاقتصادية، وباتوا يمتلكون القدرة على وقف تصدير النفط، أو رفع أسعاره وقتما يشاؤون.
ولم تكن حرب أكتوبر المجيدة مجرد معركةٍ عسكريةٍ حققت فيها مصر أعظم انتصاراتها، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الشعب المصري على تحويل الحلم إلى واقع ملموس. كما أعادت حرب أكتوبر للمقاتل المصري كبرياءه وشموخه، بعد أن عبر إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، فاستعاد بقعةً غاليةً من تراب وطنه، واستعاد معها كرامته.
كما أكد نصر اكتوبر المجيد قيمة الوحدة الوطنية للمصريين الذين ينبذون الفرقة ويرفضون الفتنة الطائفية، فقاتل المسلم والمسيحي جنبًا إلى جنب، واختلطت الدماء الذكية في ميادين القتال، فرسمت لوحة النصر التي لن يمحوها الدهر.
حرب أكتوبر ووحدة الصف العربي ..
في الذكرى الـ 48 لنصر أكتوبر المجيد، ينبغي أن نستلهم روح التعاون العربي المشترك في السلم والحرب. فمنذ اللحظة الأولى لحرب أكتوبر شاركت غالبية الدول العربية بالأموال والأسلحة والجنود على الجبهتين المصرية والسورية. لذا فإن السادس من أكتوبر هو يوم التضامن الحقيقي الذي شهد وقوف العرب صفًا واحدًا في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، فما أحوجنا اليوم لروح أكتوبر.
ولا شك أن التحولات والتحديات الخطيرة التي تمر بها الأمة العربية في هذه الآونة، تستوجب العودة للتعاون والتنسيق العربي الذي كان قائما أيام حرب أكتوبر المجيدة. ولأن مصر هي قائدة الأمة، وستظل كذلك، فينبغي عليها أن تجمع شتات البيت العربي من الخليج إلى المحيط، لنكون أمة قادرة على إحياء نهضتها واستعادة مجدها، بعدما اجتاح المصريون خط بارليف، ومحوا آثار هزيمة يونيو 1967م.
وختامًا، فإن نصر أكتوبر 73 لم يكن بالأمر السهل الذي تحقق دون مجهود وعناء، بل إن القيادة المصرية عملت، فور وقوع النكسة ولفترة استمرت ست سنوات، على تدريب جيشها وإعادة بنائه وتسليحه، ثم التخطيط الجيد والمُحكم، لعبور خط بارليف الحصين الذي شاركت في بنائه أطراف أجنبية لحماية المستعمر الإسرائيلي. ولكن الجيش المصري تسلح بإيمانه بالله وعدالة قضيته، فانتصر على العدو وحطم حصونه ودفاعاته وأعاد لمصر كرامتها بعدما روى بدمائه الزكية تراب هذا الوطن العظيم.
إن الذكرى السنوية لحرب السادس من أكتوبر، هي محطة تاريخية نتزود منها بالطاقة والأمل في صنع مستقبل أفضل لمصر الحبيبة ولأمتنا الكريمة. وبهذه المناسبة نتوجه بتحية شكر وعرفان إلى جيشنا الوطني الذي أعاد إلى الأمة العربية ثقتها بنفسها، وأثبت أن الجندي المصري قادر على صنع المستحيل، ما دام متمسكا بقيم البطولة والشهادة في سبيل إعلاء شأن الوطن والذود عن أرضه ومقدساته مهما كلفه ذلك من دماء وتضحيات. فتحية لأرواح شهدائنا الأبرار ولجيل أكتوبر العظيم، ولروح قائد الحرب والسلام، الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وعاشت مصر حرة كريمة أبد الدهر.