تستعد تركيا للدخول فى معركة انتخابية آخرى فى مارس المقبل وهى معركة انتخابات البلديات ، وتمثل هذه الانتخابات تحدياً كبيراً أمام القوى والأحزاب السياسية ولا تقل أهميتها عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى تمت فى مايو الماضى ، ذلك لدلالتها السياسية والحزبية فى الخارج والداخل التركى بالأخص ، كما وسترسم ملامح التفاعلات السياسية الداخلية لتركيا فى المرحلة المقبلة ، وفى هذه السطور سنحاول إلقاء الضوء على ملامح الحياة السياسية الحزبية للداخل التركى من خلال انتخابات البلديات .
- نقطة تحول :
بعد مرور شهور قليلة وربما أسابيع قليلة بدأت الأحزاب السياسية فى تركيا تعيد بناء نفسها وفق متغيرات الأوضاع على ضوء فوز الرئيس أردوغان بمقعد الرئاسة ، فشهد حزب الشعب الجمهورى أكبر أحزاب المعارضة والحزب المؤسس للجمهورية التركية انتخابات رئاسة الحزب والتى نتج عنها إزاحة “كمال كليتشدار أوغلو” المرشح الرئاسى السابق ، وفوز “أوزجور أوزيل ” برئاسة الحزب . ولم يغيب حزب الجيد عن المشهد الحزبى ، فعقد الحزب مؤتمره العام وفازت “ميرال آكشينار” للمرة الثالثة برئاسة الحزب ،وكذلك اٌعيد انتخاب أردوغان رئيساً لحزب العدالة والتنمية الحاكم بالإجماع مع عدم وجود مرشحين منافسين له .
- أهمية الانتخابات المحلية :
تأتى هذه الانتخابات فى ظل حالة من التوتر السياسى على المستوى الداخلى بتركيا فى ظل تنافس قوى للأحزاب السياسية وتنامى الخلاف السياسى بينها فى ظل متغيرات متعددة أهمها بقاء الرئيس أردوغان فى مقعد الرئاسة واحتفاظه بكتلة تصويتية كبيرة داخل البرلمان ما يزيد صعوبة هذا الاستحقاق الانتخابى الذى يمكن تحليله من خلال مفهوم صراع مفاهيم العلمانية التركية لمؤسس الجمهورية كمال أتاتورك مع مفاهيم الإسلام السياسى لأردوغان ، ولذلك تتمثل الأهمية المحورية لهذه الانتخابات فيما يلى :
- مستقبل أحزاب المعارضة وتحالفها :
- سوف تحدد هذه الانتخابات هيكل أحزاب المعارضة ودورها المستقبلى على الساحة الداخلية بتركيا لاسيما بعد نشوب خلافات بينها بعد فوز أردوغان بالرئاسة ، فما إن انتهت العملية الانتخابية الرئاسية والبرلمانية فى مايو الماضى إلا وبدأت “ميرال آكشينار ” بمهاجمة رئيس حزب الشعب الجمهورى السابق ” كمال كليتشدار أوغلو ” مرة آخرى وإلقاء المسئولية عليه لتمسكه بالترشح أمام أردوغان وسوء إدارته للعملية الانتخابية برمتها ، وهو ما اتضح من خلال إزاحته من رئاسته للحزب وإعادة هيكلته على الرغم من وجود كتلة تصويتيه لصالحه حتى بعد الهجوم الذى طاله .
- تهديد مكانة وصورة شخصيات مؤثرة فى حزب الشعب الجمهورى ” أكرم إمام أوغلو ” رئيس بلدية أسطنبول ، و”منصور يافاش” رئيس بلدية أنقرة واللذان أصطفوا وراء رئيس الحزب الجديد فى محاولة لهيكلة الحزب وتغيير صورته الذهنية لدى الناخب التركى خاصة وأن اسم أكرم إمام أوغلو كان مطروحاً للترشح أمام أردوغان فى الإنتخابات العامة وهو ما يضيف عبئ إضافى على مكانته السياسية والحزبية حال خسارته بمقعد رئاسة البلدية .
- تصاعد الخلاف السياسى بين تكتل أحزاب المعارضة المعروف بالطاولة السداسية بعد إعلان ميرال آكشينار إنشقاقها عن التحالف مجدداً وتفضيل شخصيات حزبية استخدام مصطلح ” تعاون ” بدلا من تحالف فيما يتعلق بانتخابات البلديات ، فقد اعلن حزب الجيد عن دخوله الانتخابات بنظام القوائم الفردية ودون التحالف مع حزب الشعب الجمهورى كما حدث سابقاً فى انتخابات 2019 والتى مكنت الشعب الجمهورى من انتزاع رئاسة بلدتى أسطنبول وأنقرة من العدالة والتنمية لأول مرة وهو ما يهدد فرص أحزاب المعارضة من الفوز مجدداً فى تلك البلديات .
- إعادة تشكيل “الديموغرافيا الحزبية” من خلال التفاعلات السياسية داخل الأحزاب حيث تستمر الشخصيات السياسية الحزبية من إعادة تموضعها من حزب لآخر وهو ما سيحدد رؤية كل حزب بناء على هيكله الجديد فى حال فوزه بالانتخابات من عدمه ، حيث يمكن أن نرى تصاعد تأثير أحزاب جديدة على المشهد السياسى فى تركيا وتراجع تأثير أحزاب آخرى كبيرة منها الشعب الجمهورى فى حال خسارته البلديات أسطنبول وأنقرة .
- مستقبل العدالة والتنمية :
تنطلق رؤية العدالة والتنمية والأحزاب المتحالفه معه من خلال رسم رؤية وهوية جديدة لتركيا وذلك وفق محددات السياسية الداخلية والخارجية بالإضافة إلى البعد الاقتصادى للدولة التركية ، وعلى الرغم من فوز أردوغان وحزبه فى الانتخابات العامة الأخيرة إلا أن انتخابات البلديات تحمل فى طياتها مؤشرات ورسائل مهمة يمكنها أن تحدد مستقبل العدالة والتنمية وإمكانية تحقيق رؤيته للدولة التركية من عدمه ، ومن أهم تلك المؤشرات :
- رمزية أسطنبول ومئوية تركيا حيث تأتى هذه الانتخابات بعد شهور قليلة من احتفال تركيا بعيد تأسيسها المئوى على يد مؤسسها كمال أتاتورك ، وهو ما يحمل دلالات واضحة أشار إليها أردوغان نفسه عن إعادة بناء تركيا وفق نظم مغايرة للمبادىء التى قامت عليها الجمهورية التركية ولذلك يسعى أردوغان للفوز بهذه الانتخابات لما تحمله من إشارات واضحة حول مكانته السياسية والتاريخية فى حال فوزه وإحكام نفوذه السياسى على مفاصل السلطات التنفيذية فى تركيا ، كما وأنه هو صاحب مقولة ” من يحكم أسطنبول يحكم تركيا” ولذلك فهذه الانتخابات للبلديات تحمل إشارات حول مستقبل العدالة والتنمية .
- تمثل هذه الانتخابات نقطة محورية من ناحية هوية تركيا التى ربما تتشكل من جديد من خلال التعديلات الدستورية المقترحة من حزب العدالة والتنمية ، فالحزب الحاكم يريد أن يمرر تعديلات دستورية مختلفة فى النواحى الاجتماعية والسياسية والعسكرية أيضاً ولكنه وعلى الرغم من فوزه فى الانتخابات العامة الأخيرة لايمكنه تمرير هذه التعديلات إلا من خلال استفتاء شعبى نظراً لعدم امتلاكه أغلبية تمكنه من تغيير الدستور من خلال البرلمان فضلا على تراجع شعبيته والذى ظهر واضحا من خلال ذهاب الانتخابات لجولة إعادة وفوزه فى الجولة الثانية بهامش بسيط ، ولهذا فإن هذه الانتخابات بمثابة استفتاء شعبى حول شعبية التحالف الحاكم واستعادة ثقة الناخب التركى .
من خلال ما سبق ،، يتضح أهمية تلك الانتخابات فى تحديد الهوية التركية ومستقبل الأحزاب السياسية وشكلها ودورها مع الآخذ فى الاعتبار كذلك دور الأحزاب السياسية فى تحجيم دور العدالة والتنمية فى حال فازت هى بالانتخابات وخاصة بلدتى أسطنبول وأنقرة ، وقدرتها على استعادة ثقتها بنفسها وثقة الناخب التركى وفتح قنوات التواصل السياسى لرسم سياسة تركيا الخارجية وفق رؤيتها لا لرؤية العدالة والتنمية منفردا ، لذلك يقف أمام رئيس حزب الشعب الجمهورى تحديات هائلة فى توقيت صعب من عمر الدولة التركية وفى منافسة شرسه مع خصومه فى العدالة والتنمية ، ولذلك ربما يقع مصير هوية تركيا وتفاعلها السياسى والحفاظ على المبادىء التى قامت عليها على قدرة ” أوزجور أوزيل ” على التعاطى مع ملفات شائكة وإدارة الخلافات البينية بين أحزاب المعارضة فضلا على إحكام سيطرته على الحزب من الداخل وتحقيق الفوز فى انتخابات البلديات لتمكنه بعد ذلك من إعادة رسم سياسات المعارضة التركية .