بعد أكثر من عامين من الإطاحة بالرئيس السودانى الأسبق عمر البشير، وفى خضم تطبيق عملية انتقال السلطة نحو حكم مدنى، سيطر الجيش السودانى مرة أخرى على مقاليد الحكم، من خلال حل مجلسى السيادة والوزراء وفرض حالة الطوارئ، وتعليق العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية، وذلك وفق ما أعلن عنه الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة فى بيان تلفزيونى.
ملامح المرحلة الانتقالية الجديدة التى أعلن عنها البرهان قد تمتد لعام ونصف العام، فضلًا عن تشكيل مؤسسات بينها مجلس للوزراء، ومجلس سيادة، إضافة إلى مجلس تشريعى، واستكمال هياكل العدالة، بما فيها المحكمة الدستورية ومجلسي القضاء العالى والنيابة، كما أن الحكومة المقبلة لن تشمل أى قوى سياسية، وستتشكل من كفاءات وطنية مستقلة، فيما قد يُسمح بانضمام شباب شاركوا فى الثورة إلى المجلس التشريعى المرتقب.
وبالرغم من محاولات البرهان إضفاء طابع إصلاحى للتحركات التى قام بها، ووصفها بإجراءات تصحيح الثورة وطرح المبررات لذلك، من أن التشاكس على السلطة والتحريض على الفوضى دون النظر إلى المهددات الاقتصادية والأمنية، هو ما تسبب فى القيام بما يحفظ السودان وثورته، وأن الانقسامات شكلت إنذار خطر يهدد البلاد، إلا أن هذه الخطوة واجهت انتقاد واسع من قبل الأوساط الدولية.
أما الشعب السودانى فقد انقسمت ارائه بين مؤيد لما قام به البرهان، وذلك بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وفشل الحكومة المدنية فى إيجاد حلول للأزمات التى عانت منها السودان والخوف من تفكك السودان، وبين معارض لما حدث ووصفه بالانقلاب العسكرى والدعوة للتظاهر والاعتصام فى الشوارع، وذلك مثل تجمع المهنيين السودانيين، وعدة قوى مهنية وحزبية أخرى، كما أعلنت نقابة الأطباء، الإضراب العام فى المستشفيات باستثناء الحالات الطارئة، وقررت الانسحاب من المستشفيات العسكرية، وطالبت القطاعات المهنية بالنزول إلى الشارع، كما أعلن تجمع المصرفيين، أن موظفى القطاع، دخلوا فى إضراب وعصيان مدنى مفتوح، احتجاجًا على الاعتقالات التى تمت بحق عدد من المسؤولين المدنيين.
وبعد أن تعالت الأصوات فى العالم خلال الأيام الماضية للمطالبة بالإفراج الفورى عن رئيس الوزراء المقال عبد الله حمدوك، عاد حمدوك إلى منزله بعد أن كان معتقلا فى مكان مجهول مع زوجته، ولكن لا يزال عددا من الوزراء والقادة السياسيين قيد الاعتقال فى أماكن مجهولة، وهى الخطوة التى رحبت بها الولايات المتحدة الأمريكية وطالبت بالإفراج عن باقى المعتقلين.
جذور الخلاف بين المكون العسكرى والمدنى فى السودان
منذ الإعلان عن تشكيل المجلس السيادى فى السودان فى أغسطس 2019، بحسب الوثيقة الدستورية الموقعة بين المجلس العسكرى الانتقالى وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير الذى يمثل أحزاب المعارضة السودانية، والذى كان من صلاحياته تولى قيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية التى ستمتد لمدة 39 شهرا من تاريخ التوقيع عليها، ليعقبها إجراء انتخابات عامة، شهدت السودان حالة من الاحتقان السياسى والخلاف بين المكون العسكرى والمدنى فى المجلس وتبادل التهم المختلفة.
حيث رأى المكون المدنى أن العسكريين لا يرغبون فى تسليم رئاسة المجلس السيادى للمدنيين بعد انتهاء فترة ولايته، وفقا للوثيقة الدستورية، كما أنه يعمل على إفشالهم وذلك للتقليل من شعبيتهم وإثارة غضب الموطنين من تدهور الأوضاع الاقتصادية، بينما رأى المكون العسكرى أن هذه مبررات يرددها المكون المدنى لتبرير فشله فى إدارة البلاد وسوء الأحوال الاقتصادية وعدم الحفاظ على السودان من التفكك.
إلا أن حدة هذا الخلاف تصاعدت بشكل كبير منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، التى أعلنت عنها السلطات السودانية، فى سبتمبر 2021 ، وتبادل المدنيون والعسكريون الاتهامات، بالسعى للانفراد بالسلطة، كما أن الفريق البرهان، قد تحدث عقب هذه المحاولة وقال إن القوات النظامية هى التى أجهضتها، وأن الجيش هو الوصى على البلاد، وأن شعارات الثورة ضاعت وسط صراع السياسيين على السلطة، وقد أثارت تصريحات البرهان، بشأن وصاية الجيش على البلاد، ومهاجمته للمدنيين فى مجلس السيادة الحاكم، اعتراضات ومخاوف كثيرة بشأن نوايا المكون العسكرى فى المجلس، الذى يقود المرحلة الانتقالية.
ردود الفعل الدولية تدين الأحداث فى السودان.. والدول العربية تقف على الحياد
أعلن الاتحاد الإفريقى تعليق عضوية السودان حتى الاستعادة الفعلية للسلطات الانتقالية بقيادة مدنيين بحسب ما ذكر الاتحاد، كما أدان سيطرة الجيش السودانى على السلطة وحل الحكومة الانتقالية والرفض بشكل كامل تغيير الحكومة غير الدستورى، الذى اعتبره أمراً “غير مقبول” وإهانة للقيم المشتركة والمعايير الديمقراطية للاتحاد الإفريقى.
وقد أدانت الولايات المتحدة الأمريكية الأحداث فى السودان، وأعلنت أنها تشعر بقلق عميق إزاء التقارير التى تحدثت عن استيلاء الجيش السودانى على الحكومة الانتقالية، وهذه الإجراءات تتعارض بشدة مع إرادة الشعب السودانى، كما اعتبرت الحكومة البريطانية أن “الانقلاب” فى السودان خيانة غير مقبولة للشعب السودانى وانتقاله الديمقراطى، وفى فرنسا، أكد الرئيس إيمانويل ماكرون، أن فرنسا تدين “بأشد العبارات” الانقلاب فى السودان، وأعلن عن دعمه للحكومة الانتقالية السودانية والدعوة إلى الإفراج الفورى واحترام نزاهة رئيس الوزراء والقادة المدنيين.
وأدان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ما حدث فى السودان، ودعا إلى إطلاق سراح رئيس الوزراء ومسؤولين آخرين، وقال إن الأمم المتحدة ستواصل الوقوف إلى جانب شعب السودان، ويجب أن يكون هناك احترام كامل للميثاق الدستورى لحماية الانتقال السياسى الذى تم تحقيقه بشق الأنفس، كما حذر وزير خارجية الاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل فى تصريح باسم الدول الـ27 الأعضاء فى التكتل، من أن هذه المحاولة لتقويض الانتقال نحو الديمقراطية فى السودان، غير مقبولة وإذا لم يُعاد الوضع فوراً إلى ما كان عليه، ستكون هناك تداعيات خطيرة لالتزام الاتحاد الأوروبى، بما فى ذلك دعمه المالى للسودان.
أما إسرائيل فانه لم يصدر عنها موقف رسمى بشأن الأوضاع فى السودان، حيث تعيش حالة من القلق والترقب بشأن اتفاقية التطبيع والتي تم توقيعها العام الماضى بموجب الاتفاقيات الإبراهيمية، إلا أنه لم يتم إلى الان القيام بمراسم هذا التوقيع، إلا أنه من المتوقع أن يستمر التطبيع مع إسرائيل خاصة أن الفريق عبدالفتاح البرهان لم يكن ضد إقامة العلاقات معها بل كان من المؤيدين لذلك.
وأكدت ألمانيا دعمها لرئيس الوزراء السودانى عبد الله حمدوك، ووصفت الأحداث الأخيرة فى السودان بأنها “انقلاب عسكرى وتطور كارثى”.
وبالرغم من هذه اللهجة المتصاعدة والرافضة لتطورات الأوضاع فى السودان ، إلا أن مجلس الأمن فى جلسته الطارئة التى عقدها بشأن مناقشة الأوضاع فى السودان بطلب من المملكة المتحدة وإيرلندا والنرويج والولايات المتحدة وإستونيا وفرنسا، لم يستطع الخروج ببيان مشترك أو وصف ما حدث فى السودان بالانقلاب، وذلك بسبب الموقف الروسى والصينى.
ومع ذلك فى تطور أخير دعا مجلس الأمن الدولى فى بيان صادر عنه، القوات المسلحة السودانية، إلى إعادة الحكومة الانتقالية المدنية، بناء على ما جاء فى الوثيقة الدستورية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى رئاسة الحكومة الانتقالية.
على الجانب الاخر اتسمت ردود الأفعال العربية بالحياد وعدم التدخل فى شؤون السودان، حيث شددت وزارة الخارجية المصرية على أهمية تحقيق الاستقرار والأمن للشعب السودانى، والحفاظ على مقدراته والتعامل مع التحديات الراهنة بالشكل الذى يضمن سلامته.
فى الوقت نفسه، أكدت وزارة الخارجية السعودية أن “المملكة تتابع بقلق واهتمام بالغ الأحداث الجارية، وتدعو إلى أهمية ضبط النفس وعدم التصعيد، والحفاظ على كل ما تحقق من مكتسبات سياسية واقتصادية، وكل ما يهدف إلى حماية وحدة الصف بين جميع المكونات السياسية، كما أكدت وزارة الخارجية الإماراتية أن الإمارات “تتابع عن كثب التطورات الأخيرة فى السودان، داعية إلى التهدئة وتفادى التصعيد، كما أكدت وزارة الخارجية القطرية أنها تتابع بقلق التطورات الحالية فى السودان، ودعت كافة الأطراف إلى عدم التصعيد، مطلعة لضرورة إعادة العملية السياسية إلى المسار الصحيح تحقيقًا لتطلعات الشعب السودانى.
واختلف موقف جامعة الدول العربية التى دعت إلى التقيد بترتيبات المرحلة الانتقالية التى تقضى بتقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين إلى حين إجراء انتخابات عامة فى البلاد
مستقبل الاقتصاد السودانى بعد تعليق المساعدات
بذلت السودان جهودا كبيرة للعودة إلى المجتمع الدولى، والحصول على الدعم الاقتصادى من الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الكبرى كصندوق النقد الدولى، وبعد إعلان قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، عن إجراءات استثنائية أصبح مصير السودان مع واشنطن والمؤسسات المالية على المحك، خاصة بعد أن أعلنت الخارجية الأميركية، تجميد واشنطن لمساعدات بقيمة 700 مليون دولار المقدمة للدعم الطارئ للاقتصاد السودانى، وذلك على الرغم أن الإدارة الأميركية لم تطلق تسمية “انقلاب” بعد على الأحداث الأخيرة فى السودان، ووصفت الخارجية الأميركية ما يحصل بـ “استيلاء عسكرى على السلطة، وذلك تحسباً من جذب الصين للسودان فى إطار صراع البلدين على الشرق الافريقى.
كما أعلن البنك الدولى تعليق مساعدته للسودان، وقال رئيسه ديفيد مالباس إن “مجموعة البنك الدولى علقت صرف أموال كافة عملياتها فى السودان وتوقفت عن البت بأى عملية جديدة فى وقت نراقب ونقيم الوضع عن كثب، ويعتبر البنك الدولى من الداعمين للمرحلة الانتقالية فى السودان والمشاركين فى تخفيف ديون السودان.
لذلك فأنه من المتوقع الفترة القادمة أن تشرع المؤسسات الدولية الكبرى، مثل صندوق النقد الدولى، فى وقف تقديم المساعدات للسودان وهو الأمر الذى سيكون له تأثير على الاقتصاد ، فى ظل استمرار ردود الفعل الدولية المنددة بـما حدث فى السودان، والصراع الأمريكى الروسى، لكن المساعدات الإنسانية ستتواصل وذلك لعدم زيادة معاناة الشعب السودانى، كما أكد المتحدث باسم الخارجية الأميركية إلى أن الدعم الإنسانى لوكالات المعونة غير الحكومية العاملة فى السودان سيستمر، وأن الولايات المتحدة قد أوقفت المساعدات الاقتصادية، وليس الإنسانية.
ختامًا… ما حدث فى السودان يعتبر أخطر أزمة سياسية وأمنية منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، حيث من المتوقع أن تتزايد التظاهرات الرافضة لقرارات البرهان ووجود مقاومة مدنية شديدة الفترة القادمة، وسقوط المزيد من الضحايا والقتلى بالشكل الذى يساهم فى تعقيد الأزمة السياسية، فضلًا عن زيادة السلاح المنتشر فى البلاد بصورة كبيرة، ليس لدى الحكومة والحركات المسلحة فقط، فهو منتشر بين القبائل أيضا.
ويعزز تعقد الأوضاع حالة الانقسام السودانية بين العسكريين وقوى إعلان الحرية وتيار الميثاق الوطنى الذى يضم حزب البعث وحركة تحرير السودان منى أركو مناوى، والعدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم من جهة ، وذلك فى مواجهة قوى إعلان الحرية بقيادة المجلس المركزى التى تضم تحالفات وأحزاب ذات ثقل مثل التجمع الاتحادى وحزب الأمة، وكذلك حركات مسلحة مثل الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار وحركتى الطاهر حجر والهادى إدريس العضوين فى مجلس السيادة، التى تريد تسليم السلطات للمدنيين، والحكومة المقالة من جهة أخرى.
تعليق واحد
ربنا يحفظ السودان من كل سوء