شهدت سوريا أوائل شهر ديسمبر الجاري عدة تغيرات، نتج عنها سقوط نظام بشار الأسد الذي جاهد لمدة 13 عامًا للحفاظ على حكمه بدعم خارجي. ما شهدته سوريا منذ نهاية شهر نوفمبر الماضي، جرى الإعداد له على مدار عام كامل من قبل المعارضة السورية؛ لتحدث تغيرات ملموسة في خريطة النفوذ على أرض الواقع في أيام معدودة . وقد جرت هذه التغيرات بمباركة المجتمع الدولي على اختلاف توجهاته في إشارة واضحة إلى التالي:
- تخل حلفاء النظام السوري (روسيا، وإيران) عن دعمه؛ اعترافًا منهم بالمتغيرات الدولية التي شهدها العالم والمنطقة تحديدًا خلال العامين الماضيين.
- رغبة تركيا في إيجاد حل نهائي لعلاقتها مع سوريا، في ظل مماطلة الأسد ونظامه لقبول المصالحة التركية، والتي استمر التفاوض حولها جهرًا وسرًا خلف الأبواب المغلقة عامين كاملين.
- إدراك شركاء (أستانا) أن صيغة الاتفاق منتهية فعليًا، وعاجزة عن إقناع نظام الأسد بضرورة إدراك المستجدات والمتغيرات التي شهدتها المنطقة، في أعقاب عملية طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان.
ما سبق يطرح لنا تساؤلات حول ماهية الدور التركي في سوريا في الوقت الراهن؟ وما هي القضايا الرئيسية التي تسعى تركيا لفرض هيمنتها فيها في ظل النظام الجديد؟
تشترك تركيا في أطول حدود برية لها مع سوريا بطول أكثر من 900 كيلومتر. وبالتالي فإن سوريا ليست مجرد قضية تتعلق بالسياسة الخارجية بالنسبة لتركيا، بل هي أيضًا قضية داخلية. وتقدم المناطق الواسعة التي احتلها الجيش التركي والفصائل المتمردة المدعومة من تركيا في شمال وشمال شرق سوريا صورة مصغرة وواضحة بالأدلة حول رؤية تركيا لمستقبل سوريا.
ففي مدن مثل تل أبيض ورأس العين، حيث سيطرت القوات العسكرية التركية تم تعيين نواب محافظين أتراك من المحافظات الحدودية كحكام فعليين، بالإضافة إلى إقرار الأمن في هذه المناطق من خلال الجهود المشتركة للجيش التركي والمخابرات التركية والجماعات الجهادية والمتمردة التابعة لها. بالإضافة إلى سرعة تركيا في إعادة بناء الخدمات العامة الأساسية، بما في ذلك المياه والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم والاتصالات والبنية التحتية، من أجل ضمان ولاء السكان المحليين. إلى جانب نشر مئات الخبراء والمستشارين من الحكومة التركية للإشراف على هذه الجهود في مختلف القطاعات، وتوفير الإمدادات اللوجستية والتمويل.
وتتمحور الرؤية التركية لمستقبل وجودها في سوريا في النقاط التالية:
- الساحل السوري:
في إطار سعيها إلى تأسيس مرحلة جديدة من التعاون والنفوذ في المنطقة، تهدف أنقرة إلى توقيع سلسلة من الاتفاقيات العسكرية مع سوريا، على غرار اتفاقها السابق لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، مما يشير إلى إمكانية تعاون أوسع في البحر المتوسط.
وضح ذلك من خلال تصريحات خلوصي آكار، رئيس لجنة الدفاع في مجلس الأمة التركي ووزير الدفاع السابق، الذي ألمح إلى إمكانية إبرام اتفاقية بحرية مع سوريا خلال مقابلة على قناة البرلمان التركية. وشدد أكار على أن مثل هذه الصفقة سينعكس على تركيا على النحو التالي:
- إمكانية تحديد مناطق الولاية البحرية في البحر المتوسط، مما يمهد الطريق لتعزيز التعاون الإقليمي.
- الاستفادة من المطارات السورية والمرافق البحرية والبنية التحتية اللوجستية من شأنها أن تسرع من جهود تركيا في إعادة إعمار سوريا وتنميتها.
- أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المحتملة ستكون بمثابة حجر الزاوية لتعميق العلاقات، ووضع تركيا كلاعب رئيسي في عملية إعادة بناء سوريا والاستقرار الإقليمي.
بصفة عامة فإن أهمية الساحل السوري لا تتوقف عند المنافع الاقتصادية لتركيا، وإنما تمتد لكونه منطقة تمركز العلويين السوريين ذات الامتداد التركي، ما يعني أن تركيا لن تسمح بخروجه عن سيطرتها تجنبًا لتحالفات مستقبلية قد تؤثر عليها.
- القوات التركية في سوريا:
في الوقت الذي ترفض فيه تركيا استمرار وجود قوات سوريا الديموقراطية (قسد) صراحة، نجد أنها شنت هجومًا على مناطق تمركزها في ثاني أيام سقوط نظام الأسد، وسيطرت على بعض مناطق نفوذها،ا إلا أنه ووفق تصريحات وزير الدفاع التركي يشار جولر للصحفيين 15 ديسمبر الجاري، فإن تركيا تدرس خطة للتوصل إلى اتفاق سريع مع الحكومة الانتقالية الحالية في سوريا لإضفاء الشرعية على وجود قواتها في الأراضي السورية. وسيعقب ذلك اتفاقًا شاملا للتدريب العسكري والتعاون الدفاعي، مما يمكن تركيا من المساعدة في إعادة تشكيل الجيش السوري. ويتمثل جزء مهم من الخطة في دمج قوات الجيش السوري مع قوات المعارضة، بما في ذلك الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وجماعات أخرى مثل هيئة تحرير الشام.
- قضية الأكراد:
تعد القضية الكردية أكبر القضايا التي تخشاها تركيا، في سوريا ما بعد الأسد، فتركيا التي نجحت منذ بداية الأزمة السورية في 2011، بتغيير ديموغرافية المناطق الحدودية المجاورة لها في سوريا، من خلال إعادة تسكين عائلات القوات الموالية لها، وتهجير السكان الأصليين من الأكراد، والذين نزحوا شرقًا، من خلال العمليات العسكرية المباشرة على تلك المناطق، بالإضافة إلى تسريع عملية إعادة الأعمار في نفس المناطق، وتسكين العائدين من اللاجئين السوريين فيها، بالرغم من كل ما سبق فإن المخاوف التركية من توجهات الأكراد الانفصالية تتواصل من منطلق رؤيتها أن قوات سوريا الديموقراطية، ووحدات حماية الشعب ما هم إلا امتداد لقوات حزب العمال الكردستاني، ولن تسمح تركيا بوجود فصيل كردي على حدودها مباشرة مخافة النزعة الانفصالية لدى الأكراد.
وفي هذا الإطار فإن استمرار بقاء قوات سوريا الديموقراطية من عدمه مرهون حاليًا بالتوافقات الدولية، سواء نجحت تركيا في توحيد الصف الدولي إلى جانبها، أو غيرت الإدارة الأمريكية الجديدة سياساتها تجاه سوريا وسحبت دعمها المقدم لقوات قسد.
- ملف اللاجئين:
يعتبر ملف اللاجئين من أكثر الملفات الشائكة، فتركيا التي فتحت أبوابها للاجئين السوريين منذ بدء الأزمة السورية عانت خلال العامين الماضيين نتيجة لموجة التدهور التي أصيب بها الاقتصاد التركي، في ضوء ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة الليرة التركية، العوامل الاقتصادية لم تلعب وحدها دورًا رئيسيًا في أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، بل إن موجات العنف والعنصرية التي تفشت وبشدة خلال نفس الفترة، أثرت على نتائج الانتخابات العامة والبلدية بشكل مباشر، ما ترتب عليه سياسات تركية مشددة تجاه اللاجئين، الذين وصفت عودتهم إلى سوريا على أنها “عودة طوعية”، في الوقت الذي واجه فيه السوريين قرارات ترحيل تعسفية ردًا على مخالفات لا يمكن وصفها بالبسيطة، ويتبلور منهج ترحيل السوريين من تركيا من خلال تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن مخطط إعادة أكثر من مليوني لاجئ سوري وإعادة تسكينهم في المناطق الحدودية ذات السيطرة التركية.
ووفق تصريحات وزير الداخلية التركي علي يارلي كايا السبت 21 ديسمبر الجاري، فإنه ومنذ يناير 2024 الماضي وحتى سقوط نظام بشار الأسد عاد نحو 124 ألف لاجئ سوري بمعدل نحو 11 ألف لاجئ شهريًا، وأوضح أن أعداد العائدين بعد سقوط الأسد في الفترة من 9- 13 ديسمبر الجاري تجاوزت الـ 7 آلاف لاجئ، وأكد أن أعداد العائدين في تزايد مستمر.
وتؤكد السياسات التي اتخذتها تركيا عقب سقوط النظام لتسهيل عودة اللاجئين حجم العبء الذي يمثله اللاجئين السوريين على كاهل تركيا مثل:
- تبسيط الإجراءات الروتينية أمام المواطنين السوريين الذين ينقلون ممتلكاتهم إلى الجانب الآخر من الحدود.
- تخفيض الوزارة أيضًا الإجراءات الورقية للاجئين السوريين الذين وصلوا إلى تركيا بلوحات أرقامهم المسجلة في سوريا ويغادرون الآن بسياراتهم الخاصة. وستنطبق نفس العملية على المركبات التي اشتراها السوريون في تركيا.
- قيام وزارة التجارة التركية، بتسريع عملية نقل الشركات التي أنشأها السوريون في تركيا.
- إعفاء المواطنين السوريين من استمارة إقرار شراء المجوهرات التي تم شراوءها من تركيا أو سبق جلبها من بلدهم الأصلي. بالإضافة إلى ذلك، لن يُطلب منهم تقديم مستندات إضافية للإعلان عن العملة التركية والأجنبية التي بحوزتهم.
ختامًا….. تركيا التي فشلت في التصالح مع نظام الأسد، وتمهلت في إعلان دعمها المباشر في بداية الأحداث في سوريا، تدرك تمامًا خطواتها القادمة في سوريا، ولا دلالة أكبر على ذلك من الخطوات التي سبقت تركيا بها غيرها من الدول، وهو ما وضح من خلال زيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركية إبراهيم قالين وتجوله في شوارع سوريا رفقة أحمد الشرع، وإعادة فتح السفارة التركية في دمشق، وزيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وفي حال اجتازت سوريا الفترة الانتقالية بسلام فإن تركيا ستعد هي الشريك الأساسي في مرحلة إعادة الإعمار.