أضحت إشكالية الأمن في القارة الأفريقية من أهم الإشكاليات، التي تواجهها في ظل تصاعد أنشطة العديد من الجماعات الإرهابية، وسعي الدول المركزية وتطوير سياساتها لمجابهة الأطر الجديدة في مكافحة الإرهاب، وفي ظل الزخم الإرهابي، الذي تعج به العديد من الدول الأفريقية، يظهر تنافس العديد من التنظيمات الإرهابية مثل حركة شباب المجاهدين في الصومال، وجماعة بوكو حرام في نيجيريا، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وداعش ليبيا، وهي أكثر التنظيمات الإرهابية نشاطا على الساحة الأفريقية في اللحظة الراهنة.
وبالتالي فإن معضلة الأمن في افريقيا لا تُشكِّل تهديدًا لإفريقيا فحسب، بل أصبحت آثارها غير المباشرة مصدرًا لتهديد أمن دول الجوار العربية وما وراءها، ولا سيما بالنسبة إلى أوروبا، ومن ثَم تسعى هذه الورقة لقراءة تحليلية لمعرفة طبيعة المركب الأمني المعقد في أفريقيا، ورصد الهجمات الإرهابية خلال الشهور الماضية في أفريقيا مع تمدد نشاط الجماعات الإرهابية في أفريقيا، والمقاربة بين طالبان والقاعدة في أفريقيا وهل يتكرر المشهد الأفغاني في افريقيا؟
أفريقيا مركَّب أمني بالغ التعقيد
تظهر أفريقيا من بين أكثر المناطق في العالم التي تشهد حالة من الانهيار والانفلات الأمني وما يخلفه من أثار سلبية على سكان القارة حيث أصبحت القارة وخاصة منطقة الساحل المصدر الأساسي لكثير من المشاكل التي ترتبط في الغالب بعدم توفر أدنى مستويات الحياة للأفراد بالإضافة إلى غياب مفهوم الدولة وحالة الهشاشة و الانكشاف الأمني و الاقتصادي وخصوصا الاجتماعي الذي غالبا ما ينتج عنه أزمة هوية التي ينتج عنها تفكك المجتمع وبالتالي الدولة مما يؤدي إلى ظهور الدولة الفاشلة أمنيا و مجتمعيا.
وتوجد في أفريقيا العديد من الجماعات المسلحة التي تشمل: حركات التمرد، والميليشيات العرقية، والعصابات الإجرامية، والتجار العاملون في التهريب، وفوق ذلك كله، جماعات التطرف الإرهابية، وعادة لا تكون الخطوط بين هؤلاء الفاعلين واضحة دائمًا؛ حيث يمكن أن تكون العضوية متقلبة ومتداخلة، وتظهر تحالفات المصالح وتتفكك اعتمادًا على طبيعة المصالح، والشخصيات، والسياق السياسي الأوسع، ونادرًا ما تكون التجمعات العرقية متجانسة أو موحدة، فإن أبرز القواسم المشتركة بين هذه المجموعات المتباينة هو كراهية ومقاومة سيطرة وسلطة الدولة الوطنية، يعني ذلك أن الجماعات المتطرفة العنيفة في أفريقيا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبنية التحتية الأوسع للمنافسة والصراع والأمن، ولا يمكن فهمها -أو معالجتها- بمعزل عن ذلك.
وتشهد منطقة الساحل كذلك العديد من الجماعات المسلحة التي تشكَّلت حول الهويات العرقية والعشائرية والطبقية، أو حول أجندات سياسية وطنية أوسع، في حين أن الغارات على الماشية، والصراعات بين الرعاة والمزارعين كانت سمة دائمة للحياة في منطقة الساحل، فقد اشتدت الاشتباكات على الأرض، والمياه، وحق المرور، مع نمو السكان وتنقلهم وتضاؤل الموارد، ولذلك فأن الخطوط الفاصلة بين التجار والمهربين والمتمردين والميليشيات المتطرفة العنيفة ليست ثابتة ولا واضحة، قد ينتقل الأفراد من نشاط أو ولاء إلى آخر، أو قد ينتمون إلى عدة فئات في وقت واحد.
تمدد الإرهاب في أفريقيا
يكشف أحدث مؤشر لشدة الإرهاب في العالم، عن تصاعد العنف في بؤر الإرهاب الساخنة في إفريقيا، بالإضافة إلى زيادة خطر وقوع هجمات إرهابية في العديد من البلدان في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك بعض البلدان التي كانت تُعتبر آمنة نسبيًا في السابق، لقد أضحت إفريقيا جنوب الصحراء اليوم موطنًا لسبعة من أكثر عشرة مواقع خطرة في العالم، وذلك استنادًا إلى بيانات تم جمعها عن 198 دولة، مما يجعلها المنطقة الأسوأ أداءً في محاربة الإرهاب على مستوى العالم.
وتُشير هذه البيانات -كذلك- إلى أن تمدد وفعالية الجماعات الإرهابية في إفريقيا آخذان في الازدياد. فقد شهد الربع الأخير من العام الماضي -على الرغم من جائحة (كوفيد-19)- ارتفاعًا بنسبة 13٪ في الحوادث الإرهابية عبر القارة مقارنة بالفترة السابقة، ولا شك أن مسار هذه الاتجاهات يعد سببًا رئيسيًا للقلق حول نجاح استراتيجيات محاربة الإرهاب على مختلف الأصعدة الوطنية والإقليمية والدولية، ولعل أبرز مثال على التمدد الإرهابي في العمق الإفريقي، وخلق بؤر ملتهبة جديدة، قيام الولايات المتحدة في 11 مارس 2021، بوضع الجماعة المسلحة الأوغندية، المعروفة باسم القوات الديمقراطية المتحالفة والتي تنشط في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ منتصف التسعينيات، على قائمة الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم “داعش”. تقول وزارة الخارجية الأمريكية إن “داعش (فرع جمهورية الكونغو الديمقراطية) مسؤول عن العديد من الهجمات في مقاطعات شمال كيفو وإيتوري، في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
فإن الإرهاب في القارة بدأ يتخذ وتيرة متسارعة، مستغلاً ضعف التنمية لدى عواصم عدة بالقارة، وكذلك ضعف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ما مكّن جماعات العنف والتطرف، سواء المحلية أم الإقليمية من التواجد بصورة كبيرة داخل عدد من الدول، وأغلب تلك التنظيمات – على غرار تنظيم بوكو حرام في نيجيريا – سبق وأعلنت مبايعتها لـ «داعش»، ومنها تنظيمات تبايع «القاعدة» مثل حركة الشباب الصومالية.
ومنذ وقت قريب، أكدت تقارير أممية أن الجماعات الإرهابية استغلت جائحة كورونا للتمدد وتوسعة نفوذها فى شمال مالى وتشاد ودول غرب إفريقيا خلال النصف الأول من العام الجارى 2021، ودخلت الآن فى مرحلة توسيع دائرة التمركز والتمدد داخل دول الساحل الإفريقى، ومن الواضح أن العنف الجهادي أدى إلى تدمير الاقتصادات المحلية الهشة، وأعاق جهود المساعدات الإنسانية في المنطقة، وتوجد في المنطقة بؤرتان ملتهبتان للتطرف العنيف وعدم الاستقرار، الأولى: تشمل مالي وجوارها المباشر؛ بوركينا فاسو والنيجر، في الساحل الغربي، حيث تنشط العديد من الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والتي بايع بعضها في السنوات الأخيرة تنظيم “داعش”.
أما البؤرة الثانية: فإنها تشمل حوض بحيرة تشاد، الذي يضم نيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون، التي تعاني منذ البداية – خاصة نيجيريا- من إرهاب جماعة بوكو حرام، ولقد اكتسبت الجماعات الإرهابية عبر الزمن مقدرة وكفاءة فنية عالية، ومن ناحية أخرى يبدو -كما تُظهر خبرة بوركينا فاسو- أن هناك تطابقًا في الوسائل والتكتيكات المتبعة بين الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة، وتلك المرتبطة بتنظيم “داعش”، ولعل ذلك يعني وجود نوع من التنسيق المتبادل، وأنهم يمدون يد العون لبعضهما البعض، وثمّة مقاتلون قد جاءوا إلى الساحل بعد ان سقطت خلافتهم في كل من سوريا والعراق.
وفي ظل هذا التطور النوعي في التكتيكات التي تتبناها الجماعات الإرهابية تصبح الحلول العسكرية شرًا لا بد منه، لوقف التهديدات المتزايدة، وتقديم العون للبلدان الواقعة تحت ضغوط أمنية شديدة، والحقائق اليومية على الأرض في المناطق الحدودية تُظهر أن هذه الحلول الأمنية في نهاية المطاف ليست ناجحة ، وعلاوة على ذلك، فإن الإفراط في استخدام القوة، ووجود عناصر أجنبية، عادة ما يُلهم ويغذي الدعاية الإرهابية؛ فالجماعات الإرهابية تعمد إلى استخدام الرموز والروايات الدينية لبث رسائلها، وفي ظل حالة الفوضى وانعدام الأمن في المجتمعات المحلية يتم استقبال رسائل التطرف التي تبث روح الكراهية والغلو بين الناس، ولا سيما الشباب منهم.
الهجمات الإرهابية خلال الشهور الماضية في أفريقيا
شهدت قارة أفريقيا سلسلة من الهجمات المسلحة المروعة، والتي راح ضحيتها الآلاف بين مدنيين وعسكريين في الأقاليم المختلفة للقارة وبالأخص في نيجيريا، وفي هذا الصدد نرصد الهجمات المسلحة في قارة أفريقيا خلال الشهور الماضية :
315 هجوما إرهابيا
وبلغ إجمالي عدد الهجمات الدامية في القارة خلال الشهور الماضية، حوالي 315 هجوما، وما يزيد عن 5236 قتيلا، بخلاف المصابين والمختطفين و تشرد مئات الآلاف في العديد من الدول
وكان أكثر شهر شهد سلسلة من العمليات الإرهابية هو شهر يناير، بواقع 66 عملية إرهابية مسلحة، والآن أفريقيا تتوافر بها الظروف الملائمة لنمو تلك التنظيمات وانتشارها، ويأتي إقليم غرب أفريقيا كأكثر أقاليم القارة تأثرا بالهجمات الإرهابية.
66 هجوما إرهابيا في يناير
وشهدت 15 دولة أفريقية، 66 هجوما إرهابيا في شهر يناير، خلف 642 قتيلا و96 مصابا والسودان تصدر قائمة الأكثر تضررا من حيث عدد الضحايا، فيما شهد الصومال عددا أكبر من الهجمات، وجاء إقليم شرق أفريقيا كأكثر الأقاليم تعرضا لعمليات دامية.
نيجيريا أكثر الدول تضررا
وسقط ما لا يقل عن 413 شخصا جراء 56 هجوما إرهابيا شهدته القارة، وجاء إقليم غرب أفريقيا كأكثر الأقاليم تضررا، وتصدرت نيجيريا قائمة أكثر الدول الأفريقية تضررا بالعمليات الإرهابية لجهة عدد الضحايا.
وفي مارس 2021 سقط ما لا يقل عن 1835 شخصا على أثر 45 هجوما دمويا، وجاء إقليم شرق أفريقيا كأكثر الأقاليم تضررا، بينما في أبريل سقط ما لا يقل عن 886 ضحية في 59 عملية دموية خلال الشهر.
هل يتكرر السيناريو الأفغاني في أفريقيا؟
مثلما كانت إمارة «طالبان» الأولى مصدر إلهام للحركات الإسلامية الراديكالية العنيفة في أفريقيا، كما كان الحال بالنسبة لـ«بوكو حرام»، فإن سقوط أفغانستان في أيدي «طالبان» مرة أخرى بعد الانسحاب الأميركي، سوف يغير يقينًا من خريطة الحركات الإرهابية العنيفة في أفريقيا. لقد أشاد أحد كبار القادة الجهاديين المتطرفين في غرب أفريقيا بانتصار «طالبان»، وما وصفه باستراتيجيتهم الناجحة.
أقدمت أيضا المنصات الإعلامية التابعة للقاعدة في أفريقيا على وجه الخصوص بالاحتفال بالنصر ، حيث خرج زعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي إياد أغ غالي وأعلن عن مباركته لانتصار طالبان، داعيًا ما اسماهم “المجاهدين” إلى استخلاص الدروس من التجربة الأفغانية من أجل تحقيق نصر مشابه.
وأوضح البيان العلني النادر كيف أسهم انتصار «طالبان» في أفغانستان في رفع الروح المعنوية، وأنه قدم حافزًا جديدًا للجماعات المتشددة التي تقود حركات التمرد المتزايدة بسرعة عبر إقليم الساحل وغرب أفريقيا، لم يقتصر الأمر على منطقة الساحل فقط؛ حيث احتفل المقاتلون في جميع أنحاء القارة -وكثير منهم أعلنوا الولاء لـ«القاعدة» و«داعش»- علنًا باستيلاء «طالبان» على السلطة، كنتيجة للمثابرة ضد الولايات المتحدة والقوات الغربية الأخرى المتحالفة معها.
وربما تكتمل معالم الصورة من حيث تكرار المشهد الأفغاني مرة أخرى في السياق الأفريقي، بعد أن أعلنت فرنسا عن خطط لبدء تقليص وجودها العسكري في غرب أفريقيا بمقدار النصف تقريبًا خلال العام المقبل، لا شك أن أوجه التشابه مخيفة بين الحالتين.
وتعتبر القاعدة أحد التنظيمات التي تؤيد حركة طالبان منذ البدايات الأولى لنشأة القاعدة في عام 1989، ولعل أبرز مقاتلي وقادة القاعدة الكبار الحاليين كانوا من الذين شاركوا في الحرب الأفغانية السوفيتية سابقًا، لذلك فإن سيطرة طالبان على أفغانستان كان لها صدى واسع لدى أفرع تنظيم القاعدة بشكل عام وفي أفريقيا بشكل خاص.
تشير تصريحات مختصين في الحالة الأفريقية بأنه في حالة انسحاب فرنسا من غرب أفريقيا بالطريقة نفسها للولايات المتحدة في أفغانستان، فإنه من المتوقع أن يتغير ميزان القوى لصالح المتطرفين في المنطقة، حيث مثل انتصار طالبان هدية للآلة الدعائية الخاصة بالجماعات المتطرفة في أفريقيا .
و بالنظر إلى رؤية وموقف حركة الشباب من التقدم الذي حققته طالبان يمكن القول إن هذا التقدم قد يدفعها لشن حرب طويلة الأمد على الأنظمة السياسية في كل من كينيا والصومال على أمل تحقيق نصر مشابة خاصة أن الظروف التي تعيش فيها حركة الشباب تتشابه مع حركة طالبان من حيث أن حركة الشباب تسيطر بالفعل على بعض المحافظات في البلاد .
هذه الإشارات تعطي انطباع قوي بأن الانتصار الذي تحقق في أفغانستان بالنسبة لطالبان سيؤدى إلى رفع الروح المعنوية، وقدم حافزًا جديدًا للجماعات ، التي تقود حركات التمرد المتصاعدة بشكل سريع في منطقة غرب أفريقيا
وختامًا، يمكن القول إنه على غرار حالة الأمن في أفغانستان هناك حالة من النقاط الساخنة التي تعاني منها القارة الأفريقية خاصة في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تتعرض النيجر ومالي وبوركينا فاسو ونيجيريا لهجمات كثيرة من قبل عناصر القاعدة وداعش في الوقت الذي تشهد فيه هذه المنطقة تغيرات جيوسياسية بداية من الأوضاع الأمنية والسياسية في مالي وتشاد مرورًا بموقف فرنسا من الحرب على الإرهاب هناك والعودة نحو تشكيل استراتيجية جديدة.
أيضا شهدت أفريقيا نجاح تنظيم داعش في التوسع بشكل كبير منذ النصف الأول من عام 2021 وتمكن من ألحاق ضرر كبير للقوات الأمنية هناك، وهو مستمر في التمدد بشكل أوسع في كلًا من مالي والنيجر ونيجيريا وبوركينافاسو والكاميرون وتشاد وموزمبيق وتنزانيا، لذلك فإن تنظيم داعش قد يتجه نحو تصعيد عملياته في أفريقيا لقطع الطريق أمام القاعدة هناك في استغلال حالة نشوة الانتصار لدي طالبان ومحاولة استثمارها في أفريقيا.