انخرطت العديد من القوى الإقليمية والدولية في الحرب الروسية – الأوكرانية منذ بدايتها ولا زالت في تزايد مستمر في ضوء طول أمد تلك الحرب، متباينةٍ مواقفها طبقًا لترتيب أولوياتها ومصالحها وتوجهاتها، فالمسألة في الوقت الراهن لم تعد تخص روسيا أو أوكرانيا فحسب، بل امتدت إلى ما هو أبعد من ذلك، ومن هذا المنطلق ليست القارة الأفريقية بمنأى عما يدور في أفلاك تلك الحرب، وأصبحت إحدى أهم ساحات التنافس الإقليمي والدولي، لاسيما والصراع وتصفية الحسابات من جانب آخر، وقد انعكست تداعيات تلك الحرب ومواقف القوى والأطراف الإقليمية والدولية على القارة الأفريقية بشكل ملحوظ، والتي أدت إلى وجود حالة من الاستقطاب من قِبل القوى الإقليمية والدولية للتهافت على القارة والتعاون مع دولها، ولعل الوضع على الأراض السودانية الآن من تسارع للأحداث بصورة واضحة للجميع، حتى بات يصفونها المحليين بـ “الحرب النموذجية بالوكالة”، من كثرة الأطراف الإقليمية والدولية التي تتشابك مصالحها، وكذا نقل حلبة الصراعات الدولية إلى مكان آخر.
علاقة روسيا بقوات الدعم السريع
أرشيفية
تحولت القارة الأفريقية في منطقة وسط وغرب أفريقيا والسودان تحديدًا إلى ساحة صراع بين روسيا وأوكرانيا، ذلك نتيجة للصراع الشرس والدائر حتى وقتنا هذا على السلطة في السودان بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبدالفتاح البرهان، ومليشيات قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو ” حميدتي”، حيث توغلت روسيا في الغرب الأفريقي، داعمة الحركات الانقلابية التي حدثت في دول بوركينافاسو ومالي والنيجر والجابون خلال الفتر ة الأخيرة، وهذا كان واضح جدًا بتواجد عناصر قوات “فاجنر” الروسية في تلك المناطق، ولعل روسيا لها من الدوافع لتواجدها التي تعول عليها تحقيق أهدافها والتي تتمثل في الآتي:
- منافسة التواجد الأوروبي في أفريقيا خاصًة النفوذ الفرنسي في الغرب.
- تخفيف الضغط السياسي والعسكري الواقع عليها من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في حربها ضد أوكرانيا.
- محاولة استغلال الموارد الطبيعية والمواد الخام من نفط وغاز وذهب لتخفيف وطأة العقوبات الغربية التي فرضت عليها من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
- وقف السيطرة الأوروبية على منافذ الغاز الطبيعي التي تبحث عنه كبديل للغاز الروسي بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
- انتزاع الهيمنة الأوروبية على منطقة غرب أفريقيا في الساحل والصحراء.
وبطبيعة الحال نجد منطقية تواجد قوات “فاجنر” الروسية في السودان داعمةً لمليشيات قوات الدعم السريع، وهذا يرجع لعلاقة التحالف القوية بين “حميدتي” وروسيا، بسبب سيطرته على مناجم الذهب والذي يُعد المصدر الرئيس لتمويل قوات “فاجنر” الروسية، حيث أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى تورط “حميدتي” في نقل الذهب من السودان إلى روسيا، وليست روسيا وحدها من تدعم “حميدتي” فحسب، بل هناك عديد من القوى الإقليمية تقوم بدعم “حميدتي” بدافع الحصول على بعض المكاسب السياسية والاقتصادية.
دعم أوكرانيا للقوات المسلحة السودانية
وفي المقابل قامت أوكرانيا – بدعم أوروبي وأمريكي – في التواجد في أفريقيا وفي مناطق قريبة من مناطق النفوذ الروسي، خاصةً في السودان لمواجهة الجانب الروسي ونقل دائرة الحرب خارج أراضيها، مستغلةً الصراع الدائر منذ أكثر من عام بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات قوات الدعم السريع، فقد قامت بدعم الجانب الأول في مواجهته للجانب الثاني الذي يُدعمه مجموعة “فاجنر” الروسية، وقد فسّر المحللين والخبراء دوافع دعم أوكرانيا للقوات المسلحة السودانية، كنوع من رد الجميل لـ”عبدالفتاح البرهان” ومساندته لـ”فولوديمير زيلينسكي” عندما طلب تزويده بكميات كبيرة من الأسلحة لتدعيم موقفه العسكري في حربه ضد روسيا، وهذا ما يُفسر اهتمام أوكرانيا بسوق السلاح السوداني المتنام عبر عقود وحتى الآن والمتنوع بالأسلحة المختلفة من الصيني والأمريكي والأوروبي، وعلى أثر ذلك ساعدت أوكرانيا “البرهان” من الفرار من العاصمة الخرطوم في أغسطس 2023 أثناء محاصرته من قِبل مليشيات قوات الدعم السريع، وذلك من خلال دعمه بجنود من وحدة تابعة للاستخبارات العسكرية الأوكرانية تُدعى “تيمور”، وقد ساهمت تلك الوحدة في تدريب عناصر في القوات المسلحة السودانية، وتدعيمها بأجهزة ومعدات حربية منها مسيرات متقدمة تقوم بشن هجوم مباغت على مليشيات قوات الدعم السريع حتى في أثناء الليل، وتتخذ أوكرانيا منهج التنسيق المتبادل مع أطراف إقليمية منخرطة في الأزمة السودانية، وذلك لتوحيد الجهود حول آليات دعم القوات المسلحة السودانية في مواجهة قوات “فاجنر” الروسية، وبالتأكيد هناك من الدوافع الأوكرانية التي من خلالها تسعى لتحقيق أهدافها في تلك الحرب ومنها:
- إرسال رسالة مُهمة إلى روسيا مفادها أنها قادرة على تهديد قواتها ليس داخل الديار فحسب، بل وخارجها أيضًا.
- الحصول على مصدر تمويل هام ورئيس لأنشطة “كييف” وهو الذهب السوداني.
- محاولة كسب تأييد أطراف أخرى في حربها ضد روسيا.
ولذلك فإن النتيجة المنطقية لاستراتيجية أوكرانيا ستكون القيام بعمليات مماثلة ضد الروس في سوريا أو ليبيا أو أجزاء أخرى من أفريقيا لتحقيق هدفها الاستراتيجي.
المخاوف المصرية
ترتكز السياسة الخارجية المصرية على ثوابت راسخة، تستهدف إرساء السلم والأمن وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، مع الحفاظ على مقررات الأمن القومي المصري والمصالح المصرية، ومع طول أمد الصراع الدائر في السودان دون حسم واضح لأي طرف على حساب الطرف الآخر قد يُنذر بعواقب وخيمة، ولها من الإشارات التي يجب عن نلتفت إليها في خضم انشغال السلطات السودانية بالصراع مع ميلشيات قوات الدعم السريع، وقد يجعلها أقل اهتمامًا بموضوعات أخرى، فهناك تخوفات من:
- تراجع موقف السلطة السودانية في مسألة سد النهضة الإثيوبي وضعف تحفظاتها تجاه الأزمة، والتي تعول عليها القاهرة في موقفها المشترك مع الخرطوم لحل الأزمة، مما يزيد من العبء على الدولة المصرية في مسارات التحرك الإقليمي والدولي لحل القضية.
- محاولات أديس أبابا لعب دور الوسيط في إيجاد حلًا للأزمة السودانية، والمؤشرات تدل على أن موقفها حتى الآن محايدًا، وإن كان تقاربها نحو مليشيات قوات الدعم السريع ودعمها على حساب القوات المسلحة السودانية هو أقرب للواقع، محاولة منها استغلال ما يحدث والعمل على زيادة حدة التوتير بين الجانبين في السودان، لتحقيق مكاسب في ملفات عدة منها التأثير على القرار السوداني في ملف سد النهضة وإضعاف موقفها، وإيجاد نهاية لأزمة الحدود مع السودان لصالحها والحصول على أرض الفشقة.
- قد ينجم خلافات في الرؤى والمصالح بين مصر وبعض الدول الإقليمية التي تقوم بدعم مليشيات قوات الدعم السريع، وفي نفس الوقت تربطها بمصر علاقات سياسية واقتصادية كبرى وعديدة، مما يضع موقف الدولة المصرية في حرج.
- إمكانية اتباع سياسة خارجية مستقلة لـ”حميدتي” مما له من شبكة علاقات خارجية قوية قد لا تتماشى مع المصالح المصرية في المنطقة.
- ثمة مطامح إقليمية جمة لتوسيع النفوذ الخارجي ضمن استراتيجيات تُمكّنها من أن تصبح قوة إقليمية مؤثرة في ملف الصراع السوداني.
أرشيفية
وهناك تهديدًا آخر ينبغي أن ننتبه إليه وهو إحياء التيارات الإسلامية في السودان خاصة في الشرق، وذلك بعد المحاولات الإيرانية للتقارب مع الجانب السوداني ودعم القوات المسلحة السودانية، وإسهامها في دعم الحركة الانفصالية شرق السودان، فإيران خلال حكم البشير نجحت في تشييد علاقات تعاون خاصة مع قبيلة «البجا»، التي تتمركز ما بين ساحل كسلا والبحر الأحمر ونهر النيل في السودان، وتضم ولايات (كسلا – البحر الأحمر – القضارف)، وبها ميناء بورتسودان الذي نُقل إليه مركز قيادة الدولة في الوقت الراهن، فتلك القبيلة عانت من التهميش السياسي والاقتصادي في عهد البشير، وحصلت من إيران على بعض الدعم التنموي، وشاركت بفعاليات ضمن الاحتجاجات السودانية التي اندلعت عام 2018، وأطاحت بالنظام في أبريل2019، وسبق وأن رفضت مسار السلام في اتفاق جوبا بين الحكومة الانتقالية السابقة والحركات المسلحة اعتراضًا على تهميشهم، واختيار جهات لا تمثل الإقليم للتفاوض معها، وقد أغلقت ميناء بورتسودان في سبتمبر 2022 وقطعت الطريق إلى الخرطوم احتجاجًا على توقيع “الاتفاق الإطاري” وهددت بتأسيس دولة “البجا”، لكنها بعد تمرد ميليشيات قوات الدعم السريع انحازت إلى القوات المسلحة، وهذا توجه وطني يُحسب لها، لكنهم يأملون في النظر لمطالبهم بعين الاعتبار فيما بعد.
وقد يتجاوز خطر ميل الإسلاميين لإيران قبيلة “البجا”، ويصل إلى مجموعة من الكتائب العسكرية التابعة للقوات المسلحة السودانية المعروفة بميولها الإسلامية، على سبيل المثال (قوات العمل الخاص) التي تضم الاستخبارات والصاعقة والقوات الخاصة، وكذا تكتلات إسلامية نشطة بـ (كسلا – الخرطوم – أم درمان – شندي – المقاومة الشعبية في ولاية البحر الأحمر).
الخلاصة
لقد أظهر الصراع المسلح بين القوات المسلحة السودانية ومليشيات قوات الدعم السريع في السودان إرهاصات حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، عبر وكلاء من نوع خاص وفي مناطق قد تكون نوعًا ما غير تقليدية لساحة صراع، كما ظهر نوع من التعاون بين مليشيات قوات الدعم السريع وقوات “فاجنر” الروسية من ناحية، وبين القوات المسلحة السودانية ووحدة “تيمور” التابعة للاستخبارات الأوكرانية من ناحية أخرى، كأحد أذرع طرفا الحرب الروسية – الأوكرانية ولكن على أرض السودان، وذلك من خلال تقديم أسلحة أو القتال بجوارها في مواجهة الطرف الآخر، وإذا ما طالت مدة الصراع بين الجانبين السودانيين، كلما زاد فترة تواجد الأطراف الإقليمية (فاجنر الروسية – تيمور الأوكرانية) في السودان، وارتفعت معها وتيرة الصراع وطبيعة المعارك التي قد تحدث بينهما، وربما قد تجر معها أطرافًا أخرى سواء بصورة مباشرة كدول أو بصورة غير مباشرة كجهات فاعلة تابعة لدولة أو منظمة، لاسيما في ظل التنافس الدولي والإقليمي على السودان مؤخرًا، وهذا ما يجعلنا من الصعب التنبؤ بمستقبل الأوضاع الراهنة في السودان في ضوء ما يحدث طالما أن الأزمة السودانية لم تُحل إلى الآن، وهو المحدد الأساسي لخروج كافة الأطراف المتواجدة في السودان.