عندما نتحدث عن إسرائيل فإننا نتحدث عن صراع بين الدين والدولة، ونتحدث عن شعارات ورموز دينية تحسم الانتخابات رغم أنها دولة تبدو علمانية، وهنا نتذكر فكرة المفكر والكاتب الإسرائيلي تسفي رخلافيسكي عن “حمار المسيح” والتي عرضها في كتابه الشهير “حمار المسيح” (חמורו של משיח)، عندما تحدث عن العلاقة بين الزعيم السياسي البراجماتي وبين التيارات الدينية الصهيونية التي ترى في نفسها أنها تعمل جاهدة على مجيء ماتسميه “مخلّص الشعب اليهودي”.

والحقيقة هي أن نتنياهو يجيد هذه اللعبة وقواعدها جيدًا، ويعرف كيف يخاطب المتلقي، فقد وجد في الأحزاب الحريدية والصهيونية الدينية الطريق الذي يضمن له البقاء في الحكم وحمايته من المساءلة القانونية للقضايا المتهم فيها، وعلى الجانب الآخر وجدت هذه الأحزاب فيه “الحمار” الذي يحمل مشروعها المسيحاني لإقامة دولة، من هنا يصبح الدين أداة سياسية في إدارة الصراع الداخلي والخارجي معًا.
يرى رخلافيسكي أن فكرة الخلاص في الأصولية اليهودية ليست خلاصًا روحيًّا دينيًّا بقدر ما هي مشروع سياسي موشج بالرموز الدينية، يسعى لفرض السيطرة الدينية، وهو ما جعل نتنياهو يدرك أن طريقه للبقاء في السلطة لن يكون من خلال العلمانيين بل من خلال التحالف مع القوى الدينية التي باتت تمثل الكتلة شبه المتماسكة، ولو أن تماسكها مرتبط بشعاراتها الدينية وأهدافها وأطماعها الاستيطانية. من هنا جاءت المصالح المشتركة بين زعيم علماني يستخدم لغة المصلحة والسياسة، وأحزاب دينية تريد أن تصل لأهدافها على حسب أي شيء حتى لو كانت أرواح بشرية.
من هنا لم يكن مستغربا أن يقدّم نتنياهو نفسه للعالم باعتباره المدافع عن الديمقراطية المزعومة، بينما يمنح الأحزاب الدينية المتطرفة أدوات السيطرة على عدد من المجالات مثل التعليم والقضاء والزواج والاستيطان، وهذا التناقض بين النظرية والتطبيق حذّر منه رخلافسكي في كتابه، حينما اعتبر أن الخطر الحقيقي على إسرائيل لا يأتي من خارجها بل من داخلها، من اللحظة التي يتحول فيها السياسي إلى أداة في يد الحاخام، ويصبح الدين غطاءً لتقويض الدولة من داخلها.
ومع هذه التغيرات الداخلية نجد المشروع الصهيوني قد تحوّل من مشروع قومي من وجهة نظرهم إلى مشروع خلاصٍ ديني، يقوده زعيم براجماتي على ظهر الحمار ذاته الذي وصفه رخلافبسكي “حمار يحمل على كتفيه حلمًا توراتيًّا لا يؤمن به، لكنه مضطر للسير به كي لا يسقط عن عرشه”.
وعندما وصلت الأحزاب الدينية إلى الكنيست والحكومة، سعى قاداتها إلى فرض منظومة دينية تستبدل مفهوم “المواطنة” بمفهوم “الاختيار الإلهي”، وتجعل الولاء للدين يتقدّم على الولاء للدولة، ليس لأنهم متدينون ولكن للوصول لأهداف الصهيونية الدينية وهى الاستيطان الكامل وتهجير الفلسطينيين.
ظهر هذا التحول وبوضوح في التعديلات التي تمت في النظام القضائي، والتي فجّرت صراعا جديدا في المجتمع الإسرائيلي بين عامي 2023م – 2024م، حيث حاولت الحكومة تقويض استقلال القضاء بحجة تصحيح المسار الذي يسوده العلمانية من وجهة نظرهم، بينما كانت في الحقيقة تسعى لإخضاعه للسلطة الدينية.
وسبق وحذر رخلافبسكي من هذا النموذج في كتابه، مؤكدًا أن الأصولية حين تكتسب سلطة دنيوية، تتحول من خطاب روحي إلى مشروع إقصائي، يُعيد تعريف “من هو اليهودي؟”، ومن يحق له العيش في أرض الميعاد؟، وهكذا يُعاد تشكيل إسرائيل، لا كدولة ديمقراطية حديثة، بل ككيان ديني يهودي منغلق يستمد شرعيته من تفسير ديني متشدد للتاريخ والنصوص المقدسة.
العدوان على قطاع غزة والبُعد المسيحاني
في ظل العدوان المتواصل على قطاع غزة، ظهر الخطاب الديني المتشدد في إسرائيل بوصفه أداة لتبرير القتل والعنف والتهجير وإضفاء بُعد ديني من خلال اطلاق مصطلحات خاصة ذات طابع ديني مثل ” الخلاص” ، و”التهجير”، و”الإبادة” على الصراع السياسي والعسكري القائم في القطاع. ولم تعُد الحرب تُقدَّم كعملٍ أمني دفاعي فحسب، بل كمعركة دينية، وهي الصيغة التي يستخدمها حاخامات منتمون للتيار الصهيوني الديني في تبرير سياسات الإبادة والتهجير.
وهنا يظهر بوضوح ما أشار إليه رخلافسكي في كتابه حين قال إن الأصولية اليهودية تحوّل فكرة الخلاص إلى مشروعٍ للعنف تحت مبدأ التبرير الديني. ونتنياهو الذي يقدّم نفسه للعالم على أنه زعيم يحارب الإرهاب، يسمح لهذا الخطاب بأن يشكل الغطاء الأخلاقي لحرب لا تُدار فقط بالسلاح، بل بالنبوءات الدينية. فأي عدوان على غزة يتم تبريره على أنه تحقيق لإرادة الرب، وأية معارضة داخلية تُصنف على أنها تمرّد على إرادة الرب في الخلاص.
وبهذا نرجع أيضًا إلى ما حذر منه رخلافسكي، وهو تحوّل الدولة إلى أداة لاهوتية، تُقدّس القوة وتستبدل العقل السياسي بعقيدة الانتقام الإلهي، فيتداخل الدين بالأمن، واللاهوت بالسياسة، في دائرة مغلقة من العنف والقداسة.
إسرائيل بين الدولة العلمانية والدولة الدينية
تعيش إسرائيل اليوم أزمة هوية عميقة بين مشروعين متناقضين، الأول هو مشروع الدولة العلمانية الحديثة التي أُقيمت عام 1948م كمحاولة لبناء كيان، ومشروع الدولة الدينية التوراتية التي تسعى الحركات الدينية إلى إحيائها باعتبارها تحقيقًا لوعدٍ إلهي يتجاوز القوانين الوضعية.
هذا الصراع لم يعد فكريًا أو ثقافيًا فقط بل أصبح مؤسسيًا؛ فالمؤسسات الدينية يزداد نفوذها داخل الجيش والقضاء والتعليم، بينما يضعف تأثير التيارات الليبرالية والعلمانية التي كانت تشكّل العمود الفقري للدولة في بداياتها الأولى.
ووفق رؤية رخلافسكي، فإن هذا التحول يعني أن إسرائيل تتجه نحو نظام مزدوج، واجهته الديمقراطية وجوهره الثيوقراطية. وفي ظل استمرار التحالف بين نتنياهو والأحزاب الصهيونية الدينية، تتحول إسرائيل تدريجيًّا إلى دولة دينية بهيكل مدني.
ختامًا
لا تبدو فكرة تسيفى رخلافيسكي في كتابه “حمار المسيح” مجرد قراءة رمزية للماضي، بل يُعتبر مرآة لمستقبل إسرائيل، وإن التحالف بين نتنياهو والتيارات الصهيونية الدينية لم يعُد مجرد صفقة سياسية مؤقتة، بل تحوّل إلى نموذج حكم قائم على تبادل المصالح بين البراجماتية والدين.