تواجه القيادة الإسرائيلية بشقيها السياسي والأمني، حالة من التخبط الشديد بسبب هول الصدمة التي أحدثتها حركة حماس بعد هجومها النوعي المفاجئ وأسر عشرات الإسرائيليين وقتل المئات من المستوطنين. وما يزيد من تخبط تل أبيب هو التحول النوعي وغير المسبوق بعد  أن أخذت حركة حماس زمام السبق والمفاجأة فأرسلت جنودها إلى عمق الجبهة الداخلية لإسرائيل. ومن هول الصدمة، لم تحدد إسرائيل بعدُ أهدافها المطلوبة من الحرب الحالية، التي لن تقتصر هذه المرة على تعزيز عامل الردع أو توجيه ضربات موجعة لحركة حماس كما جرى في الجولات السابقة.

صحيح أن تل أبيب أعلنت حالة الحرب لأول مرة منذ عام 1973، وهذا الإعلان له مغزاه وتبعاته، لكن إسرائيل باتت تواجه مرحلة جديدة بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر الحالي، وهو ما سيترتب عليه تغيير المفاهيم الأمنية الإسرائيلية في مواجهة الحركات الفلسطينية المسلحة وعلى رأسها حماس.

دوافع حماس:

لعل ما نفذته حركة حماس من هجوم مفاجئ سيغير المعادلة مع إسرائيل بالضبط كما حدث في أعقاب حرب 1973. وربما السبب الأكبر الذي دفع حماس لشن الهجوم وإيقاع أكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين هو إبرام صفقة لإطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين. والآن فقد امتلكت حماس أهم ورقة ضغط على تل أبيب والمتمثلة في احتجاز عشرات الأسرى الإسرائيليين. وتخشى إسرائيل من أن حماس ربما قد تهدد بقتل بعضهم ردا على استمرار الهجمات الإسرائيلية أو لستخدامهم كدروع بشرية لحماية منشآتها وقاداتها.

وهناك دافع استراتيجي آخر لحركة حماس وهو توحيد الجبهات وإشعال فتيل التصعيد ضد الاحتلال في الضفة الغربية والقدس الشرقية بمشاركة فلسطينيي الـ48 .

انتصار المقاومة:

استطاعت حركة حماس مفاجأة إسرائيل التي تملك أجهزة استخباراتية وقدرات عسكرية هائلة. وما زاد من هول الصدمة الإسرائيلية أنها وقعت في ظل تناول إعلام تل أبيب للذكرى الـ50 لحرب أكتوبر المجيدة، وكيف استطاعت القيادة المسلحة المصرية خداع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فكان العبور وتحطيم خط بارليف.

كما أن أصوات الاستغاثة التي أطلقها المستوطنون في جنوب إسرائيل أعادت الذاكرة الإسرائيلية 50 عاما إلى الوراء عندما استغاث جنود الاحتلال داخل النقاط الحصينة في خط بر ليف بعد عبور القوات المصرية لتحرير سيناء.

غير أن تل أبيب ترى أن مفاجأة أكتوبر 1973 قد عرَّضت دولة إسرائيل للانهيار الفعلي، بينما المفجأة الحالية التي أحدثتها حماس – وهي صادمة للغاية وغير مسبوقة- لم تجعل إسرائيل أمام خطر وجودي. لكن ذلك لا يقلل من انتصار حماس التي فاجأت دولة إسرائيل وإربكت كل حساباتها بعد أن قتلت المئات وأسرت العشرات وعاد مقاتلوها للقطاع على ظهر المركبات العسكرية الإسرائيلية.

وتدرك إسرائيل أن الحرب الحالية تختلف أيضا عن حرب 1973 لأن هدف القوات المصرية كان تحرير أرض سيناء، بينما هدف حركة حماس هو القضاء التام على دولة إسرائيل، ورغم أن الحركة لن تتمكن من تحقيق ذلك الهدف خلال الحرب الحالية إلا أنها اتخذت أولى خطواتها نحو الهدف المنشود.

ضعف الجيش الإسرائيلي:

لقد أعلن الجيش الإسرائيلي أنه يركز جُل اهتمامة الآن في ملاحقة المسلحين الفلسطينيين الذين ما زالوا متواجدين داخل المستوطنات الجنوبية، كي يتفرغ بعدها لخوض الحرب مع غزة. وهذا الإعلان يؤكد ضعف الجيش ويُفقده ثقة الإسرائيليين بعدما ادعى في السابق بأنه قادر على الانتصار في حروب متعددة الجبهات وأجرى المناورات استعدادا لذلك. لكن الواقع يُثبت أن الجيش الإسرائيلي رضخ للخصم في جبهة واحدة ولم يُنقذ الإسرائيليين في الجنوب الذين كانوا يستغيثون: “أين الجيش؟.

وما يؤكد ضعف إسرائيل أنها لم تفقد طيلة حروبها 300 قتيل خلال يوم واحد، ولم يتم الاستيلاء على أي من مستوطناتها منذ حرب عام 1948، ولم يحدث أن سيطرت حركة مسلحة على مقرات قياداتها أو أسرت مثل هذا العدد من مواطنيها.

مسؤولية حكومة نتنياهو..

لا يتعلق الخطأ الاستخباراتي الذي تسبب في نجاح الهجوم الفلسطيني، فقط بالجيش الإسرائيلي وإنما أيضا بحكومة نتنياهو التي تجاهلت تحذيرات القيادات العسكرية من احتمال اندلاع حرب متعددة الجبهات في ظل تراجع جاهزية الجيش، واستمرار ممارسات الحكومة الدينية المتطرفة ضد الفلسطينيين، فضلا عن تكثيف الاستيطان واقتحام باحات المسجد الأقصى.

وبعد انتصار حماس من المؤكد أن تل أبيب ستشكل لجنة تحقيق لبحث أسباب فشل الأجهزة الاستخباراتية والقيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، وذلك على غرار “لجنة أجرانات” التي حققت في الإخفاقات الإسرائيلية وانتصار مصر في حرب 1973.

وهذا بالطبع مؤشر خطورة يهدد مستقبل نتنياهو السياسي، الذي فاز في الانتخابات الأخيرة باعتباره “قائدًا أمنيا”، لكنها كانت أكذوبة أفاق عليها الإسرائيليون في صباح السابع من أكتوبر الحالي.

ورغم أن هزيمة إسرائيل عام 73 لم تُسقط الحكومة إلا بعد 4 سنوات، إلا أن الإسرائيليين لن يمكنهم الانتظار، بل سيطالبون باسقاطها باعتبارها المسؤولة عن الهزيمة أمام حماس.

خيارات صعبة:

تواجه إسرائيل الآن خيارات صعبة، لأن فكرة التهدئة مع حماس لم تعد مطروحة، حيث ستتعامل إسرائيل مع قطاع غزة كما تتعامل مع جنوب لبنان، أو كما تتعامل مع إيران ذاتها. وستعمل إسرائيل على تحصين حدودها مع القطاع بعد انتهاء الحرب. أما فيما يخص إمكانية قيام إسرائيل بإعادة احتلال القطاع وإسقاط حكومة حماس فذلك سيكلفها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. كما أن العودة لاحتلال القطاع سيمثل خطأً استراتيجيا، نظرا لكل الاسباب والاعتبارات التي دفعت أريئيل شارون للانسحاب من القطاع عام 2005.

والأسئلة المطروحة الآن: هل ستقيم إسرائيل منطقة عازلة أوسع عند الحدود؟ أم ستواصل تدمير المزيد من المنشآت والبنى التحتية في القطاع؟ أم ستحد من إدخال مواد البناء إلى غزة؟

التداعيات:

1- اتساع رقعة الحرب: تركز إسرائيل في حربها الآن على الجبهة الحنوبية لكن ربما تتسع رقعة الحرب نحو الجبهة الشمالية مع تنظيم حزب الله، وكانت القيادة العسكرية الإسرائيلية قد حذرت من قبل أنها ربما ستواجه حربا متعددة الجبهات قد تشارك فيها ميليشيات شيعية في جبهة هضبة الجولان، إلى جانب اشتعال الأوضاع في مُدن الضفة الغربية، بالإضافة إلى اندلاع اعمال عنف بين الشرطة الإسرائيلية والفلسطينيين داخل حدود الـ 48.

2- عرقلة التطبيع: سيحمل هجوم حماس الأخير تداعيات بعيدة المدى على السياسة الإسرائيلية داخليا وخارجيا، فالانتصار الذي حققته حماس سيعزز محور المقاومة، مما قد يشعل حربا متعددة الجبهات وهذا بالطبع سيصب في صالح إيران وسيعرقل مساعي التطبيع مع المملكة السعودية.

3- انعدام الشعور بالأمن!: بعد غزو مقاتلي حماس واقتحامهم للمستوطنات الإسرائيلية الجنوبية سقطت شعار “التفوق العسكري الإسرائيلي” ولم يعد الإسرائيليون يثقون في قدرة الجيش على حمايتهم، بعد رؤية المسلحين الفلسطينيين يجوبون شوارع المستوطنات ويقتلون ويأسرون ويدمرون، في الوقت الذي تُطلق فيه الصواريخ على مدن إسرائيل.

4– تغير قواعد اللعبة!: خلال السنة الأخيرة بدا أن حماس قررت التمسك بخيار التهدئة في قطاع غزة الذي تسيطر عليه، مع دعم المسلحين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وفي المقابل سمحت إسرائيل لـ 17 ألف غزاوي بدخول أراضيها يوميا للعمل هناك، بل واعتزمت زيادة عدد العاملين مقابل حفظ الاستقرار وعدم الصدام العسكري. وكما اعتقدت إسرائيل بعد نكسة 67 أن مصر لن تتجرأ على شن الحرب، أعتقدت أيضا أن حماس لن تشن الحرب. لكن تل أبيب ذاقت مرارة الصدمة بعد أن غيرت حماس قواعد اللعبة.

5- وفي التقدير تكثيف الجيش جهوده لتصفية الجيوب التي احتلتها عناصر المقاومة في مستوطنات غلاف غزه ، والاستعداد لتنفيذ عملية برية داخل القطاع للضغط على فصائل المقاومة لقبول التفاوض لإطلاق سراح الأسرى ، مع تشديد إجراءات التقييد على قطاع غزة ، فضلا عن عدم السماح باستمرار سيطرة حماس على قطاع غزة، او بوصول المساعدات المالية الإنسانية من قطر للقطاع، مع استئناف إسرائيل لسياسة الاغتيالات للتخلص من  القيادات السياسية والعسكرية في قطاع غزة.

ختاما، من السابق لأوانه استخلاص الدروس والعبر مما حدث خلال الساعات الماضية ولكن الأمر المؤكد هو أن إسرائيل تلقت ضربة موجعة وهزيمة مدوية، ستترك أثرها النفسي والمعنوي لسنوات طويلة. فالمشاهد والصور التي تغمر مواقع التواصل الاجتماعي وتُظهر جثث القتلي والأسرى الإسرائيليين والدبابات المحترقة وعودة المسلحين الفلسطينيين إلى قطاع غزة على ظهر المركبات العسكرية الإسرائيلية ستظل ماثلة في أذهان الإسرائيليين لتخلد الفشل والهزيمة لدي الجيل الحالي والأجيال القادمة ، مع ترجيح إسهام نتائج تلك العمليات في تغيير قواعد الاشتباك، وتغيير الحكومة ومحاكمة العديد من القادة السياسيين والعسكريين على حالة الفوضى التي سببتها العملية ، واعادة القضية الفلسطينية مرة أخرى لدائرة الضوء بالشكل الذي يمهد لبدء عملية سياسية جادة تشارك بها القوى الإقليمية والدولية المؤثرة لإيجاد حلول مقبولة لها.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version