سعد عبد العزيز محمد

تعيش المؤسسة العسكرية الإسرائيلية واحدة من أكثر مراحل التوتر خطورة منذ سنوات، إثر تفجّر الخلاف بين وزير الدفاع يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير حول نتائج تحقيقات الجيش بشأن إخفاقاته خلال عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023. وقد أعاد هذا الاشتباك فتح ملف العلاقة الحساسة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية، ليكشف أزمات تراكمت بصمت حتى انفجرت دفعة واحدة في ظل تداتعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

جذور الأزمة..

بدأت العلاقة بين وزير الدفاع كاتس ورئيس الأركان زامير بإيجابية لافتة؛ فكاتس هو من دعم تعيين زامير رئيسًا للأركان رغم معارضة نتنياهو الذي فضّل اللواء دافيد زيني. كما عمل زامير سابقًا وكيلاً لوزارة الدفاع تحت قيادة كاتس.

غير أنّ هذا الانسجام سرعان ما تبدّد، إذ تصاعدت الخلافات حول إدارة العمليات العسكرية في قطاع غزة، قبل أن يبلغ التوتر ذروته عندما أعلن كاتس تجميد التعيينات العسكرية وتكليف مفتش وزارة الدفاع بإعادة فحص نتائج لجنة التحقيقات العسكرية برئاسة سامي تُرجمان، وهي اللجنة التي شكّلها زامير للتحقيق في إخفاقات السابع من أكتوبر 2023. والأدهى أنّ زامير علم بالقرار عبر وسائل الإعلام أثناء مشاركته في مناورة عسكرية بالجولان، ما أثار غضبه ودفعه إلى مواجهة علنية مع وزير الدفاع.

وفي خلفية المشهد يقف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الرافض منذ البداية لتشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث السابع من أكتوبر، على خلاف مواقفه السابقة حين حمّل سلفه “إيهود أولمرت” مسؤولية إخفاقات حرب لبنان الثانية فور توليه الحكم.

أسباب تفاقم الخلاف

يرى كثيرون أن كاتس يواجه صعوبة في التفاهم مع القيادة العسكرية، خلافًا لسلفه يوآف جالانت الذي حافظ على انسجام كبير مع قيادة الجيش واصطدم سياسيًا بنتنياهو. ويرى زامير أن تكليف جهة رقابية مدنية بمراجعة لجنة عسكرية رفيعة يسيء لمهنية الجيش ويقوّض استقلاله. كما يرى أنّ تجميد التعيينات وتعطيل الترقيات يمثل تقويضا لجهوزية الجيش في ذروة العمليات العسكرية. لذا كان ردّ زامير قاسيًا، حيث أصدر بيانًا أكّد فيه أن الجيش وحده تحمّل المسؤولية عن إخفاقاته، بينما لم تُجرِ القيادة السياسية أي تحقيق في تقصيرها. ويمثل هذا البيان تحدّيًاٍ مباشرًا لسلطة الحكومة برئاسة نتنياهو.

التشكيك في تحقيقات الجيش

يميل التوجه السياسي الحاكم في إسرائيل إلى تحميل الجيش وحده تبعات فشل 7 أكتوبر. ومن هنا جاءت محاولة مراجعة لجنة تُرجمان، التي ضمّت 12 جنرالًا وعملت سبعة أشهر. ويرى مسؤولون عسكريون أن هدف الحكومة هو تقويض ثقة الجمهور بالجيش، وتسييس التعيينات، وإضعاف رئيس الأركان زامير الذي أظهر استقلالية واضحة منذ اليوم الأول لتوليه منصبه.

زامير يتحدى الحكومة

في خطاب حاد خلال مراسم إحياء ذكرى دافيد بن جوريون في الأسبوع الماضي، أكّد زامير أنه لن يسمح بتسييس الجيش. وقد ردت القيادة السياسية باتهامه بتجاوز الخطوط الحمراء و”التمرد” على السلطة المدنية، وإن كانت شددت على عدم وجود نية لإقالته، لأن إقالة رئيس الأركان في وقت حرب يمثل مغامرة مكلفة وربما مستحيلة سياسيًا.

غضب عائلات الضحايا

لم يقتصر الهجوم على زامير من جانب السياسيين، بل وجّهت عائلات ضحايا 7 أكتوبر رسالة غاضبة إلى الجيش اتهمته فيها بطمس الحقائق والاكتفاء بإجراءات انضباطية شكلية بحق فئة قليلة من كبار الضباط، دون محاكمتهم أو سحب رتبهم.

 وزير بلا نفوذ

يرى خصوم كاتس أنه أصبح عبئًا على المنظومة الأمنية، إذ فقد تأثيره في القرارات الجوهرية المتعلقة بغزة، ولم يظهر دورًا فعّالًا في ملف قانون التجنيد أو في مفاوضات الأسرى، بينما استأثر نتنياهو ورون ديرمر بالقرارات المصيرية. ويعتبر هؤلاء أن رئيس الحكومة هو وزير الدفاع “الحقيقي”، فيما يكتفي كاتس بدور محدود وغير مؤثر. كما يرى خصوم كاتس أن تصعيده ضد زامير يُعدُّ محاولة لاستعادة مكانته داخل الليكود، تمهيدًا لمنافسة محتملة على قيادة الحزب ورئاسة الحكومة بعد عهد نتنياهو.

 كاتس بين المطرقة والسندان

يجد وزير الدفاع نفسه في موقف لا يُحسد عليه، فالمواجهة مع الجيش قد تضر بسمعته داخل المؤسسة العسكرية. وبينما يدعو كاتس لتقليص صلاحيات زامير وعدم التجاوز في القيادة السياسية، إذا برئيس الحكومة نتنياهو يتجنب المواجهة المباشرة مع زامير بسبب مسؤوليته عن الملفات الاستراتيجية. وعلى الجانب الآخر يخشى كاتس الصدام مع نتنياهو في عام انتخابي، مدركًا أن منصب وزير الدفاع الذي اعتقد أنه سيقربه من رئاسة الحكومة قد يُصبح بوابة محتملة لعزله سياسيًا.

يتضح مما سبق أن:

1. الأزمة بين كاتس وزامير ليست شخصية فقط، بل جزء من محاولة سياسية أوسع للهيمنة على المؤسسة العسكرية، مع استهداف واضح لاستقلالية الجيش.

2. زامير يرسّخ استقلالية المؤسسة العسكرية ويعيد هيكلة الجيش بعد إخفاق 7 أكتوبر، بينما يحاول كاتس تطويع الجيش لخدمة حساباته السياسية.

3. الحكومة تثير مخاوف خطيرة داخل الجيش بمحاولتها دفع عدد كبير من الضباط إلى الاستقالة، في خطوة يراها قادة عسكريون “تطهيرًا سياسيًا” يهدد استقرار المؤسسة العسكرية. وبينما يحاول رئيس الأركان إنهاء ملف التحقيقات الداخلية، فإن الحكومة، مدفوعة باعتبارات سياسية وشخصية، تسير في اتجاه مختلف قد يعمّق الانقسام ويفاقم أزمة الثقة بين الجيش والقيادة السياسية.

4. لم يعد الصراع مجرد خلاف مهني، بل تحوّل إلى معركة إرادات بين القيادة السياسية، ورئيس الأركان. وهذا الصدام يهدّد وحدة الجيش في لحظة حرجة تتسع فيها الجبهات المشتعلة. وسيؤدي استمرار الخلاف إلى إضعاف منظومة اتخاذ القرار، ويجعل الجيش عرضة لتجاذبات سياسية غير مسبوقة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version