أثارت عملية المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، فيما سمي بعملية “طوفان الأقصى” ومسارعة دول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإنجلترا ودول أخرى، لنجدة إسرائيل بدعوى مساعدتها في مواجهة المقاومة الفلسطينية، حديث البعض عن علاقة عضوية بين الصهيونية اليهودية وما يسمى بالصهيونية المسيحية، فما طبيعة العلاقة بينهما؟ وماهي الصهيونية المسيحية ومحدداتها؟ وما نقاط الاتفاق بينهما؟ وما نقاط الاختلاف بينهما؟

في محاولة لفهم هذه العلاقة تظهر اتجاهات تفسيرية متعددة، فيرى البعض أن المصالح المشتركة والتوازن الإستراتيجي بين الدول- وعلى رأسها الولايات المتحدرة الأمريكية والدول الأوربية، التي تقف وراء الصهيونية المسيحية من ناحية والصهيونية اليهودية والتي تمثلها إسرائيل من ناحية أخرى- تلعب دورًا حاسمًا في هذا الأمر، بينما يعزو آخرون هذا الدعم إلى رغبة الولايات المتحدة في تعزيز هيمنتها على الشرق الأوسط.

ومع هذه الأطروحات المتنوعة، يظهر أن هناك جانبًا اساسياً لم يحظ بالاهتمام الكافي، وهو دور الصهيونية المسيحية في دعم الصهيونية اليهودية وتعزيز ما تمثله على الأرض.

ومن خلال النظر إلى محددات الصهيونية المسيحية، يمكن أن نكتشف أبعادا مختلفة عما نعرفه، ظاهريا على الأقل، لتلك العلاقة. إنها أبعاد تكشف أن الصهيونية المسيحية تلقي بظلالها على التوجهات الأمريكية وسياساتها نحو إسرائيل، ليظهر أن هناك دوافعًا دينية تلعب دورًا حيويًا في تشكيل العلاقة بين البلدين.

النشأة

 عود أصول الصهيونية المسيحية الى رجل الدين البروتستانتي الانجليزي “جون نيلسون داربي” (1800 م- 1882م) الذي أسس “الحركة التدبيرية” Dispensationalism

في القرن التاسع عشر في انجلترا، وهي إطار لاهوتي لتفسير الكتاب المقدس يؤكد أن التاريخ منقسم إلى عصور متعددة أو “تدبيرات” يتصرف فيها الله مع شعبه المختار بطرق مختلفة. يستخدم أنصار التدبيرية تفسيرًا حرفيًا للكتاب المقدس ويعتقدون أن الإعلان الإلهي يتكشف في جميع أنحاء الكتاب المقدس وقد تطور فكر المسيحية الصهيونية من هذه الحركة. ورغم أن الصهيونية المسيحية تعتبر انجليزية المنشأ إلا أن انتشارها الكبير حدث في الولايات المتحدة الأمريكية. وقاد انتشار هذه الحركة في أمريكا القس سايروس سكوفيلد (1843 م- 1921م)، الذي تأثر بأفكار ديربي ونشر مبادئه المسيحية عام 1909 في “الكتاب المقدس المرجعي” The Scofield Reference Bible والذي أصبح من أشهر الكتب في المسيحية الأصولية البروتستانتية (1).

ويعود البعض بأفكار هذه الحركة إلى القرن السادس عشر، وتحديدا إلى “مارتن لوتر كينج” (1483م -1546م) مؤسس المذهب البروتستانتي، والذي لم ير في البداية أن اليهود المتهمون بما عرف بـ “صلب السيد المسيح” هم أعداء للمسيحية قبل أن ينقلب عليهم. أخذت الافكار المسيحية البروتستانتية الداعية إلى إقامة “وطن لليهود” تتطور حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. ومرت أثناء تطورها بمراحل مختلفة من الحركة “البيوريتانية التطهيرية” في القرن السادس عشر، وهي مذهب ديني، يعتبر جزء من حركات الإصلاح الديني التي شهدها الغرب الأوروبي ووصف أتباعها بـ “”البيوريتانيون” أي “المتطهرون”، حيث ترتكز تعاليمهم على الإيمان بالكتاب المقدس كمصدر وحيد للعقيدة الدينية، دون الاعتماد على تعاليم القديسين أو رجال الكنيسة. الى “الحركة التدبيرية” في العصر الحديث.

ترتكز المسيحية الصهيونية على النبوءات الواردة في الكتاب المقدس حول نهاية الكون وعودة المسيح الثانية، خاصة النبوءات الواردة في سفر حزقيال، وزكريا، والرؤيا، ويوحنا. (2)، هذا على عكس الكنيسة الكاثوليكية التي ترى بأن الرب طرد اليهود عقابا لهم على ما يسمى “صلب المسيح”. فلكي تتحقق ما تسمى “عودة المسيح الثانية” لابد أن يتجمع اليهود فيما يسمى “أرض صهيون” وبعدها ستقع حرب نووية عظيمة “هرمجدون” يقتل فيها معظم سكان الارض، ويُقتل فيها معظم اليهود ولا تنجوا سوى قلة منهم  وحينها سينزل المسيح على الأرض ليؤمن به اليهود ومن بقي من السكان ويحكم الارض بسلام لمدة 1000 سنة. (3)

وانطلاقا من هذا الإيمان دعى المؤيدون لهذه التوجه إلى ضرورة تهجير اليهود إلى الأرض المقدسة تمهيدا لظهور المسيح، ورأوا في إنشاء ما سمي بـ “وطن قومي لليهود” عام 1948 خطوة مهمة في قرب تحقيق نبوءة الرب، وحدوث الحرب الكبرى وظهور المسيح للمرة الثانية. كما يؤمن أنصار الصهيونية المسيحية بضرورة اعادة بناء الهيكل وانه سيشكل الاحداث المؤدية لظهور الرب.

تأثير الصهيونية المسيحية

ما يميز هذه الحركة هو أنها لم تكن مجرد أفكار وحسب، بل أن تأثيرها الكبير تغلغل في الدوائر السياسية والاعلامية والمؤسسات التعليمية والدينية الأمريكية بشكل منظم. كما أن العقيدة البروتستانتية الأصولية، التي اعتنقها غالبية المهاجرين الأوروبيين إلى أمريكا والتي تأثرت كثيرًا بالديانة اليهودية، شكلت بيئة مناسبة لنمو هذا الفكر وانتشاره. هذا علاوة على طبيعة الشعب الأمريكي المتدينة.

وفقا لمؤسسة جالوب لاستطلاع الرأي عام 2023 فإن 47% من الأمريكيين يعرفون أنفسهم بمتدينين. ووفقا لاستطلاع رأي أجري عام 2022 فإن 34% عرفوا أنفسهم بأنهم بروتستانت في حين كانت في عام 1956 70%. وفي عام 2019 نشرت نفس المؤسسة إحصائية تحت عنوان “آراء الأميركيين بشأن إسرائيل لا تزال مرتبطة بالمعتقدات الدينية” أظهر أن 70% من البروتستانت الامريكيين متعاطفون مع إسرائيل مقابل 60% من الامريكيين الكاثوليك (4). ولا توجد إحصائيات دقيقة لعدد المنتمين لهذه الحركة، ووفقا لعالم اللاهوت “ستيفن سيزر” (1953م) ، فان كل يهودي صهيوني واحد يقابله من 20 ل 30 مسيحي صهيوني (5). وقد يصل عددهم إلى حوالي 70 مليون أمريكي، وقد يقدر عددهم بحوالي 130 مليون من كل قارات العالم (6).

تتمتع هذه الحركة بانتشار واسع في الإعلام الامريكي حيث توجد أكثر من 100 محطة تلفزيونية مسيحية، ومنها محطات كبيرة ومؤثرة مثل CBN وTBN وvictory news  واكثر من 1000 محطة اذاعية (7).

وبرز منهم وعاظ وقساوسة وخطباء مؤثرون مثل جون هاجي (1940م – ….) وبات روبرتسون (1930م -2023م)  وجيري فالويل (1933م -2007م) وجيمي سواغرت (1935م – ….) وغيرهم، وتصل برامجهم إلى الملايين من السكان الأمريكيين يوميا.

تقول غريس هالسل في كتابها “النبوءة والسياسية” Prophecy and Politics ان روبرتستون وسواغرت وبيكر وغيرهم من الانجيليين التلفزيونيين، يجعلون من تأييد اسرائيل نوعا من العبادة. وعلينا ان نخوض معركة هرمجدون، وأن المسيح يعود بذلك فقط الى القدس، وأن إسرائيل اليوم تتبارك من الرب بأنها في نفسها صهيون التوراتية (7). ولم يكن لهذه الحركة تأثير على صناعة القرار السياسي في امريكا وحسب، بل كان لهم نفوذ كبير في الكونجرس الأمريكي، فظهر منهم سياسيون ونواب كونجرس خاصة من الحزب الجمهوري، بل ورؤساء أيضا مثل جيمي كارتر ورونالد ريجان.

استفادة الصهيونية اليهودية

 رغم رفض اليهود بالطبع لهذه الأفكار، التي تقول بـ “مجيء المسيح” واعتناق اليهود للمسيحية في آخر الزمان، وبل قد يرى اليهود بعض رموز هذه الحركة بأنهم معادون للسامية، إلا أن الصهيونيون اليهود كانوا بالمرونة الكافية التي جعلتهم يؤيدون هذا الفكر تحقيقا لهدف “إنشاء وطن قومي لليهود”. فتيودور هرتسل (1860م – 1904م) الاب الروحي للصهيونية السياسية اليهودية، لم تكن له دوافع دينية حين وضع فكرة إنشاء وطن لليهود، لذلك وافق على أن تكون الدولة في أوغندا أو كندا أو الأرجنتين، إلا أن الصهيونية المسيحية، من منطلق إيمانها رأت أن يكون “وطن اليهود” في فلسطين حتى تتحقق نبوءات الرب. ومن هنا يشار إلى أن الصهيونية المسيحية سبقت الصهيونية اليهودية بـ 50 عام على أقل تقدير.

تقول غريس هالسل في كتاب النبوءة والسياسة عن الصهيونية المسيحية: “إنهم يعبرون عن حبهم لليهود، ليس لأنهم يهود، ولكن يرون فيهم الممثلين الذين لا بد منهم، على مسرح النظام الديني الذي يقوم على أساس تحقيق المسيحية الكاملة” (9).

في السادس من فبراير عام 1985 ألقى سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة بنيامين نتنياهو خطابا أمام المسيحيين الصهاينة، قال فيه “لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى “أرض إسرائيل”، وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين. إن المسيحية الصهيونية لم تكن مجرد تيار من الأفكار، إنما مخططات عملية وضعت فعلا من أجل عودة اليهود”(10).

تحققت استفادة اسرائيل من دعم الصهيونية المسيحية على مستويين، الأول هو الدعم المالي والثاني عدم الالتزام بالقانون بالدولي والتهرب من تبعاته. فقد حظيت إسرائيل بدعم مالي كبير من الولايات المتحدة الامريكية أكثر من اي دولة اخرى. وقد يعتقد البعض بان هذا بسبب تأثير اللوبي اليهودي القوي في امريكا فقط، إلا أن المسيحيين الصهيونيين هم من يشكلون غالبية قاعدة قوة هذا اللوبي، فجون هاجي (1940م) أحد أشهر قساوسة الصهيونية المسيحية جمع ما يقرب من 100 مليون دولار دعما لإسرائيل خلال فترة خدمته، وهو من أسس منظمة “مسيحيون متوحدون من أجل إسرائيل” وهي منظمة امريكية داعمة لإسرائيل تأسست عام 1975 وتعتبر أكبر منظمة صهيونية في امريكا، وجزء كبير من هذه الاموال يذهب لدعم المستوطنات المقامة على الاراضي الفلسطينية المحتلة. ولا تقوم الصهيونية المسيحية بإرسال الاموال الى اسرائيل فقط، بل تنظم رحلات سياحية كل عام إلى هناك، والكثير من هذه الجولات تتضمن زيارة المستوطنات الاسرائيلية التي تستفيد من أموال التبرعات. وقد وصلت هذه التبرعات الى حد تمويل عمليات إرهابية هدفها تفجير قبة الصخرة.  (11)

وقد نشرت صحيفة “هآرتس” مقالة بقلم (بارونة قرا) تذكر فيها أن حملة التبرعات التي تقوم بها المنظمات المسيحية البروتستانتية في الولايات المتحدة وأوروبا وبلدان الشرق الأقصى، أسفرت عن بناء خمس وأربعين مستوطنة، من بينها مستوطنة عيناف التي تكلفت خمسة وأربعين مليون دولار (12)

ومن أهم مؤسسات الدعم الصهيونية المسيحية مؤسسة الصداقةInternational Fellowship of Christians and Jews، تقوم في الأساس على جمع تبرعات الصهيونيين المسيحيين، وتحظى بدعم من قادتها مثل “بات روبرتسون”, و”جيري فولويل”، وقد وصلت تبرعاتها منذ إنشائها حوالي 1.3 مليار شيكل (13).

وبما أن “وجود اليهود في الأرض المقدسة هو أمر إلهي”، فإن أي حرب تقوم بها إسرائيل هي بمثابة مشيئة إلهية. وفي ضوء هذا المعتقد، تُعتبر حروب إسرائيل مصيرية ومقدسة. هذا التصوّر يجعل الصهيونيين المسيحيين يرون أن إسرائيل لا تخضع للقوانين الدولية في نزاعها، وبالتالي تبرر كل العمليات العسكرية والاستيلاء على الأراضي في حروب مثل عام 1967 و1982، ووجوب الدفاع عنها في الساحة السياسية والدولية.

موقف الكنائس الاخرى

لابد من الاشارة بانه ليست جميع الكنائس الإنجيلية مؤيدة لهذا التيار في الولايات المتحدة، فهناك المجلس الوطني لكنائس المسيح، والذي يضم 34 طائفة بروتستانتية يرفض الصهيونية اللاهوتية. هذا بالإضافة لمعارضة الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية.

في الختام، يظهر بوضوح أن الصهيونية المسيحية تلعب دورًا حيويًا في توجيه السياسة الغربية عموما والأمريكية خصوصا نحو إسرائيل، حيث تتجاوز هذه العلاقة حدود المصالح المشتركة، وتثير تفاعلا دينيًا مُعقدًا ومتعدد الجوانب في سياق الدعم الغربي والأمريكي لإسرائيل.

المراجع

 

 

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version