شهدت الجولة الأخيرة من أزمة سد النهضة عدة تطورات سياسية وفنية وقانونية هامة تستلزم التوقف عندها لتقييم المخرجات ورصد أية تغييرات فى إسلوب الأطراف المشاركة وأهدافها المرحلية، وذلك قبل الانخراط فى الجولة القادمة الهامة التى ستكون على مستوى قادة الدول المعنية، وبالتالى ستكون المناقشات سياسية أكثر منها فنية وستفضى كالمعتاد إلى توجهات سيكلف الخبراء بمحاولة ترجمتها حول طاولة المباحثات كل وفق محدداته، وفى هذا الإطار سنتناول نتائج الجولة الأخيرة لتقييم مدى التقدم المحرز وحجم العراقيل العالقة، وما تبع الجولة من تصريحات رسمية إثيوبية ببدء أديس أبابا بالملء الأول وما أعقبها من نفى.      

* أبدت مصر فى جولة المفاوضات الأخيرة التى عقدت خلال الفترة من ٣-١٣/٧/٢٠٢٠ بمشاركة المراقبين الدوليين بعض المرونة فى الصياغات سواء بالملف الفنى أو القانونى دون التنازل عن الثوابت المصرية، وذلك بهدف إحراج الجانب الإثيوبى أمام الاتحاد الإفريقى فى الأساس وباقى المراقبين، مما أدى لتضييق مساحة المناورة أمام المفاوض الإثيوبى، وأفضت نتائج تلك الجولة الشاقة إلى حدوث تقارب نسبى فى مواقف الدول الثلاث فى الملفين الفنى والقانونى، لاسيما ما يتعلق بمسألة التشغيل خلال فترات الجفاف و الجفاف الممتد، وإن كان من المتوقع إستكمال مناقشة تلك النقطة لاحقاً لتضييق فجوة الخلاف بشكل يسهم فى تلاشى المخاوف المصرية، وفيما يتعلق بالشق القانونى أقرت إثيوبيا بأن تكون وسيلة فض النزاعات ملزمة لكافة الأطراف من خلال التوصل لإتفاق قانونى ملزم شأنه مثل أى اتفاق دولى، وذلك بدلاً من الطرح الإثيوبى السابق الذى كان يسعى لإحالة الخلافات لقادة الدول الثلاث للتشاور والتسوية.      

 *  يعد ماسبق تقدماً  ملموساً ويضاف لما تحقق فى كل من الجولة السابقة وواشنطن، حيث أشار البيان الإثيوبى إلى إحراز تقدم فى مواقف الدول الثلاث، وأكد ذلك أيضاً البيان السودانى مضيفاً بعض التفصيلات الفنية والقانونية، فى حين فضلت مصر عدم الترويج له إعلامياً لتجنب إحراج النظام الإثيوبى أمام الرأى العام الداخلى وما قد يستتبعه ذلك من إمكانية دفعه للتشدد مرة أخرى خلال الجولة القادمة، بجانب الإبقاء على حجم الضغوط المفروضة على الجانب الإثيوبى من المجتمع الدولى والرأى العام.                                                           

* وعلى المستوى الميدانى، عكست تصريحات وزير الرى الإثيوبى الخاصة ببدء “أديس أبابا” فى الملء الأول لبحيرة السد، رغبة النظام الإثيوبى فى إستثمار الصور التى تداولتها بعض وكالات الإعلام الغربية عبر الأقمار الصناعية للبحيرة  والتى تشير إلى تزايد حجم المياه خلف السد، وذلك فى محاولة للتعرف على حدود ردود فعل دول المصب، بجانب السعى لاحتواء الضغوط الداخلية، فى ظل تصاعد الاضطرابات والانتقادات المتتالية للنظام مؤخراً، والتأكيد على قدرة الدولة على تنفيذ وعودها لاسيما مع زيادة حجم التدفقات الضخمة منذ الأسبوع الأول من شهر يوليو الحالى وحتى الآن، ووجود مشاكل يومية تواجه تحركات الأفراد من شدة السيول، وتساؤل الرأى العام عن  موقف الحكومة التى فضلت الصبر حتى إنتهاء الجولة الأخيرة، فضلاً عن محاولة تحويل المفاوضات القادمة التى سيشارك فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي من فنية إلى سياسية، والتلويح بإمكانية إتخاذ إثيوبيا إجراءات أحادية وفرض الأمر الواقع، وبالتالى خوض الجولة القادمة من موقف قوة.                                                                                              

* وفى المقابل ، ارتبط النفى الإثيوبى للملء بسرعة وقوة رد الفعل المصرى والسودانى، حيث وجهت كل من القاهرة والخرطوم رسالة فورية للاتحاد الإفريقى، كما طالبت مصر إثيوبيا بتقديم إيضاحات بالشأن، بالإضافة إلى رغبة إثيوبيا فى تجنب تعرض البلاد لمزيد من الضغوط والإنتقادات الدولية خاصة مع متابعة مجلس الأمن الدولى لكافة التطورات، وتجدر الإشارة إلى أن النفى لم ينشر فى الداخل الإثيوبى فى حينه لتجنب إثارة الرأى العام، إلا أنه تزامن مع إعادة الدولة لخدمة شبكة الإنترنت التى سبق وأن أوقفتها فى وقت سابق على خلفية الإضطرابات الداخلية، الأمر الذى أدى إلى تزايد حدة الانتقادات الموجهة للنظام من قبل قوى المعارضة خاصة قومية “الأورومو”.                                                                                            

* وتتمثل أبرز ملامح المرحلة المقبلة، فى صياغة اللجنة الثلاثية بمشاركة المراقبين ما تم التوصل إليه لعرضها على الاتحاد الإفريقى، ومن المتوقع أن تكون الصياغة أيضاً معقدة وشاقة لانعدام الثقة بين أطراف الأزمة، مع دعوة رئيس جمهورية جنوب إفريقيا رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقى لعقد قمة إفريقية مصغرة لإستكمال المناقشات حول ما تبقى من قضايا عالقة، ومنها التحديث الذى اقترحه السودان على مسودة الاتفاق السابق مناقشته خلال الجولة الأخيرة الخاص بملء وتشغيل السد خلال فترات الجفاف والجفاف الممتد.                       

الخلاصة

 * إضفاء صور الأقمار الصناعية  المشار إليها والتى استند إليها وزير الرى الإثيوبى فى الإعلان عن بدء الملء الأول مزيدًا من المشروعية على شواغل دولتى المعبر والمصب، بالنظر لما أوضحته من تزايد حجم الطمى المتراكم خلف السد خلال إسبوعين فقط من بدء موسم الأمطار، ومدى الحاجة الملحة لتجاوب إثيوبيا مع المطالب الخاصة بضرورة إعداد دراسات فنية خاصة بسلامة السد.                                                                                             

* تعزيز الموقف الإثيوبى الأخير دوافع دول المصب فى عدم الثقة فى النظام الإثيوبى – خاصة فى ظل متابعة المراقبين الدوليين وتزامنه مع إستمرار المفاوضات – وبما يفسر أيضاً أسباب سعيهما للحصول على الضمانات الفنية والقانونية خلال فترة الملء والتشغيل.                  

* توقع ظهور تغير ملموس فى نظرة وتعامل الاتحاد الإفريقى ودولة جنوب افريقيا مع دول المصب بعد أن أحرجتهما إثيوبيا مراراً من خلال التصريحات و المواقف المتكررة، وضعاً فى الاعتبار رصد تعامل الرئيس “رامافوزا” مع الملف كوسيط بشكل أكثر جدية عقب لجوء مصر لمجلس الأمن الدولى، وبالتالى أهمية التوظيف الإيجابى لتلميحات الجانب الروسى بإستعداده للوساطة لدفع إثيوبيا وبعض المراقبين لتحمل مسئولياتهم خلال الفترة القادمة، فى الوقت الذى  قد يسهم تضمين الملف المصرى الذى سيعرض على مجلس الأمن الدولى التصريحات والمواقف الإثيوبية الأخيرة الأحادية والمعلنة، وتسريب الإجراء المصرى المرتقب مسبقاً لدفع اثيوبيا نحو ترشيد سلوكها خلال المرحلة المقبلة.                                                            

* ثبات سياسات “أديس أبابا” الراغبة فى فرض الأمر الواقع منذ بداية الإعلان عن المشروع، وهو ما وضح من خلال عرضها خلال الجولة التفاوضية الأخيرة إبرام اتفاق جزئى حول الملء الأول مع دولتى المعبر والمصب وإرجاء باقى المسائل العالقة للتفاوض لاحقاً، فضلاً عن إبرامها اتفاقًا مع الخرطوم خلال شهر يوليو الحالى لتزويد السودان بنحو ٣٠٠٠ ميجاوات من مخرجات السد فى محاولة لاستقطابها بعيداً عن مصر ، وضعاً فى الاعتبار سابق محاولتها إبرام إتفاق ثنائى خلال شهر مايو الماضى مع السودان ورفض الأخيرة.                                         

* توقع حجز الجزء الأوسط من السد الذى ارتفع من ٤٠ متر العام الماضى إلى ٧٠ متر هذا العام لنحو خمسة مليارات متر مكعب من المياه خلال موسم الفيضان الحالى، حتى في حال عدم اختيار إثيوبيا بدء التخزين، وهو ما أوضحته الصور وما ستؤكده المتابعة خلال الفترة القريبة القادمة، وذلك حتى انتهاء الأمطار الموسمية فى نهاية شهر سبتمبر، وبدء تراجع حجم المياه خلف السد اعتباراً من شهر أكتوبر القادم بفعل تسريبها تدريجياً بشكل طبيعى من البوابات الأربع أسفل جسم السد.                                                                                             

 * أهمية وضع الدولة خطة إعلامية شاملة لمواجهة فرضية سواء لجوء إثيوبيا لسياسة الأمر الواقع والبدء الفعلى فى إجراءات الملء الأول، أو حال تداول الأخبار الخاصة بالتخزين الطبيعى لبحيرة السد خلال شهرى أغسطس وسبتمبر بفعل تعلية الحاجز المشار إليه عاليه، وذلك سواء باستثمار تلك التطورات فى تصعيد المواقف لخدمة المفاوض المصرى، أو بوضع خطة تستهدف تجنب إثارة وسائل التواصل الإجتماعى لذلك التطور، أو احتوائه للحيلولة دون الضغط على المفاوض أو النظام المصرى وإحراجه، لاسيما مع إمكانية تزامن تلك التطورات مع التصعيد العسكرى على الاتجاه الاستراتيجى الغربى.                                                    

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version