انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنين ومخيم اللاجئين بها وأنهت عدوانها الذي دام  يومين وأسفر عن استشهاد 13  فلسطينياً وإصابة أكثر من 100 فلسطينياً آخرين بينهم حالات خطرة، فضلًا عن تدمير العديد من المنازل والسيارات وتجريف الشوارع والبنى التحتية، وكل ذلك في ظل صمت المجتمع الدولي.

لكن إسرائيل لم تتعلم من فشلها السابق، عندما شنت قبل عقدين عدوانا أشد ضد الفلسطينيين في جنين، إبان عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات ولم تحقق أمنها المزعوم. وهي الآن تعاود الكرة بعدوان جديد ضد الذين كانوا في حينه أطفالًا، وشاهدوا العدوان والدمار وسفك الدماء، فباتوا يشعرون باليأس ويتبنون نهج المقاومة ويُصرُّون على الانتقام. ولذا فإن العدوان الأخير على جنين لن يجلب الأمن لإسرائيل، بل سيزيد من غضب الفلسطينيين وسيدفع شبابهم إلى حمل السلاح ومقاومة الاحتلال.

العدوان يعكس الفشل السياسي!

مهما حاولت تل أبيب شرعنة العدوان وإقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن جنين هي “وكر الإرهاب”، فإنها لن تخلق واقعا جديدا في تلك المدينة الباسلة. وسيحمل الجيل الجديد نفس موروثات الأجيال السابقة التي نشأت على رفض الاحتلال والتمسك بخيار المقاومة في ظل انسداد أفق الحلول السياسية لتقرير المصير. والجدير بالذكر، أن إسرائيل بعدوانها المتعاقب على مدن الضفة الغربية، تسببت في سحق ما تبقى من السلطة الفلسطينية التي كان بمقدورها حفظ الاستقرار في المناطق المحتلة، وهو ما يعني أن الأوضاع باتت مرشحة لمزيد من الفوضى والانفلات الأمني والعودة إلى ما قبل اتفاقيات أوسلو.

إن العدوان الأخير على جنين رغم ما أسفر عنه من دمار وقتل في صفوف الفلسطينيين، إلا انه يعد فشلا لسياسة الحكومات الإسرائيلية التي تتفاخر بسفك الدماء. فهي منذ أكثر من خمسين عاما تسيطر على مدن وقرى الضفة الغربية، وارتكبت شتى أنواع الجرائم مثل بناء المستوطنات واعتقال آلاف الفلسطينيين وهدم بيوتهم ومصادرة أراضيهم. ورغم ذلك لم تحقق أمنها المزعوم، بل إن إسرائيل باتت تعد من أخطر الأماكن ولا سيما لليهود أنفسهم.

إسرائيل والحماقة السياسية!

إن السياسة العدوانية الإسرائيلية في الضفة الغربية لا تصب في مصلحة الأمن الإسرائيلي. ورغم أن حكومة تل أبيب ربما قد حققت ما يمكن اعتباره “إنجازا” عسكريا، إلا أنها على الجانب الآخر، ارتكبت حماقة سياسية ضد الفلسطينيين، لأن عدوانها العسكري – في ظل تصاعد وتيرة إرهاب المستوطنين اليهود- يُضعف مكانة السلطة الفلسطينية ويعزز مكانة الفصائل المُسلحة والقوى الإقليمية الداعمة لها في الضفة الغربية.

وبنظرة استراتيجية أوسع، فإن السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين ستؤدي إلى مزيد من الخلافات بين تل أبيب وإدارة الرئيس بايدن، وإلى تعكير صفو العلاقات الإسرائيلية الحيوية مع دول التطبيع. مما سيؤثر سلبا على سعي حكومة نتنياهو لإبرام اتفاقيات التطبيع مع السعودية وبناء استراتيجية شاملة لمواجهة التهديد المتعاظم من قبل إيران وميليشياتها في المنطقة.

ولعل قرار المغرب الأخير لإرجاء انعقاد “منتدى النقب” الذي كان سينعقد في يوليو الحالي، وتصريحات التنديد بالعدوان الإسرائيلي –  الصادرة عن الدول العربية وعلى رأسها مصر والأردن والسعودية- تكشف مدى التداعيات السلبية  لجرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين على علاقاتها بالدول العربية.

\

أهداف نتنياهو!

لقد روَّجت حكومة نتنياهو عبر إعلامها أن عدوانها الأخير على جنين هو مجرد عملية عسكرية محدودة ومُركزة لدحر “الإرهاب”، وأنها مُختلفة عما سبق من عدوان على قطاع غزة. والرسالة التي أراد نتنياهو توجيهها للمجتمع الدولي وخاصة الإدارة الأمريكية هي أن أي عملية عسكرية تستهدف “الإرهاب” الفلسطيني تلقى ترحيبا وقبولا لدى جميع التيارات والأحزاب الإسرائيلية سواء داخل الائتلاف أو المعارضة، ولكن أي عملية أخرى ستغير المعادلة مع الفلسطينيين ستلقى معارضة شديدة.

ورغم ما حاول نتنياهو ترويجه من إجماع داخلي، إلا أن ردود أفعال وزرائه كانت متباينة فبعضهم نادى بضرورة تقديم الدعم الاقتصادي للسلطة الفلسطينية لتمكينها من أداء دورها، بينما نادى آخرون بإسقاط السلطة الفلسطينية وإشعال وتيرة التصعيد مع الفلسطينيين عبر تشجيع بناء المزيد من المستوطنات اليهودية.

ولقد اراد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو – الذي يواجه أزمة سياسية داخلية – من عدوانه العسكري على جنين أن يحقق “إنجازا” على حساب الشعب الفلسطيني، لذا سارع بالتواجد عند مشارف مدينة جنين المنكوبة  ليتقمص دور البطولة أمام شعبه، وليصرف الانظار عن مشاكله الداخلية وعن انقلاب حكومته على المنظومة القضائية.

سلاح الردع لن يصلح مع جنين..

بالنسبة لإسرائيل فإن الوضع في  جنين والضفة الغربية عموما يختلف كثيرا عنه في قطاع غزة، حيث لا تمتلك تل أبيب أوراق الضغط الاقتصادي والجغرافي التي تمتلكها في غزة. وحتى عامل الردع الذي يتم استخدامه مع الحركات المسلحة في غزة، لن يكون حاسما في الضفة، لأنه لا يصلح إلا مع التنظيمات والدول، وليس مع مجموعات شبابية أصابها اليأس والإحباط جراء بطش الاحتلال، وجمعتها راية مؤقتة وهدف مُحدد.

العديد من القادة السياسيين والعسكريين في إسرائيل قالوا إن الهدف من العدوان على جنين هو تحقيق عامل الردع، لكن ذلك زعم خاط وشائع لدى قادة الاحتلال، لأن الردع يُعد مفهومًا هلاميًا ولا يمكن استخدامه إلا مع الجيوش النظامية أو التنظيمات المسلحة وليس مع مجموعات شبابية في جنين أو غيرها من مُدن الضفة الغربية.

هناك اختلاف آخر بين الضفة والقطاع، فعلى عكس قطاع غزة الذي يشمل الهجوم عليه: بداية ومنتصف ونهاية، ثم إجراء مفاوضات مع طرف ثالث لوقف إطلاق النار، نجد أن الوضع في جنين يختلف عن ذلك، لأن ميليشات غير مُنظمة تسيطر على المكان. وبعد أي هجوم إسرائيلي لا تتعهد إسرائيل بعدم العودة لاقتحام جنين في الأسبوع التالي.

أهمية السلطة الفلسطينية..

إسرائيل تدرك أهمية استمرار بقاء السلطة الفلسطينية التي لا زالت تسيطر على معظم أراضي المنطقة أ الضفة وتقدم الخدمات للمواطنين الفلسطينيين. وبدون السلطة الفلسطينية ستضطر إسرائيل لملئ الفراغ المدني والحكومي في الضفة والعودة من جديد لحمل المسؤلية عن قرابة 3 ملايين فلسطيني، مع اقتراب شبح الدولة الواحدة الذي يهدد مستقبل الدولة العبرية.

وفي ظل انسداد أفق الحل السياسي للقضية الفلسطينية فإن أي عملية عسكرية ضد الضفة الغربية أو حتى ضد قطاع غزة،  لن تحقق الأمن لإسرائيل، فالأمن يتطلب من القيادة الإسرائيلية مراجعة حساباتها، وبالطبع لن يحدث ذلك في ظل وجود الحكومة اليمينية الدينة المتطرفة بقيادة نتنياهو.

ومن الملاحظ أن السلطة الفلسطينية – وحتى الفصائل المسلحة وعلى رأسها حماس والجهاد – لم تسارع باتخاذ خطوات وإجراءات جادة ضد الاحتلال، لأنها أدركت ما لم يدركه الإسرائيليون من أن العدوان على جنين لم يكن عملا عسكريا لتحقيق أهداف أمنية واستراتيجية، وإنما كان مغامرة عسكرية لخدمة أهداف نتنياهو السياسية. وبمجرد انسحاب قواته سيعود الوضع إلى ما كان عليه وستبقى جنين أيقونة المقاومة لدحر الاحتلال.

وختاما فإن السؤال المطروح الآن: ماذا ستفعل إسرائيل بعد انسحاب قواتها من جنين، وهل ستعمل لتمكين السلطة الفلسطينية من ممارسة نفوذها في الضفة؟ بالطبع من المستبعد أن تفعل ذلك غسرائيل لا سيما في ظل حكومة يقود دفتها متطرفون مثل بن جفير وسموتريتش، وحتى لو افترضنا جدلا أن تسعى إسرائيل لتمكين السلطة الفلسطينية، فسيكون من الصعب على أي شخص فلسطيني – في ظل التنافس على خلافة أبو مازن- أن يخاطر بمستقبله ويقبل بتولي زمام السلطة لأنه سيبدو في ظل الظروف الحالية كمن جاء على ظهر الدبابة الإسرائيل

 

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version