نشر مركز العلاقات الإسرائيلية الأفريقة ورقة بحثية[1] للخبير الإسرائيلي في الشؤون التركية – الدكتور/ “حاي إيتان كوهين” – حول آلية استغلال تركيا لقوتها الناعمة لبسط نفوذها في القارة الأفريقة.  إذ يقول الخبير الإسرائيلي: بعد مرور مئة عام على سقوط الخلافة العثمانية، تقود رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانت” حراكًا ممنهجًا في القارة الأفريقية، مستثمرةً شعارات التضامن الإسلامي، والإرث التاريخي، والسرديات المناهضة للإمبريالية، بهدف بناء وتعزيز القوة الناعمة التركية داخل القارة السمراء.

ومنذ عام 2005، شرعت تركيا في تبني استراتيجية شاملة ومُحكمة لتوسيع نفوذها في أنحاء أفريقيا، حيث أنشأت 44 سفارة، ما مكّنها من ترسيخ موقعها كلاعب محوري في القارة. وتتشابه هذه الاستراتيجية، في بعض أبعادها، مع أنماط التغلغل الأوروبي في أفريقيا خلال أواخر القرن التاسع عشر، حين سعت القوى الاستعمارية إلى تأمين المواد الخام، واختراق الأسواق الجديدة، واستغلال العمالة الرخيصة، وإنشاء القواعد العسكرية، وإبراز المكانة والهيبة، وكل ذلك تحت غطاء “مهام” ثقافية وحضارية.

وبحسب “كوهين”، تُطبّق تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، تلك الاستراتيجية عبر مسارين رئيسين:

الأول يتمثل في المسار العسكري – الأمني، من خلال هيئة الاستشارات العسكرية التركية (SADAT)، حيث تسعى أنقرة إلى إبراز نفوذها في مناطق مختلفة من القارة، مثل الصومال وليبيا وتشاد والنيجر والسودان وبوركينا فاسو. وتعكس مهام التدريب العسكري، وتصدير الصناعات الدفاعية، وإبرام الاتفاقيات الأمنية مع الدول الأفريقية، كيفية توظيف أنقرة لأدوات القوة الخشنة لتعزيز انخراطها الدبلوماسي والتنموي في أفريقيا.

أما المسار الثاني، فيتمثل في توظيف أدوات القوة الناعمة، حيث تعتمد أنقرة على شبكة واسعة من المؤسسات، مثل الهلال الأحمر التركي، ومعهد يونس إمره الثقافي، ووكالة التعاون والتنسيق التركية  “TİKA”، وهيئة إدارة الكوارث والطوارئ “AFAD”، إلى جانب رئاسة الشؤون الدينية التركية المعروفة اختصارًا بـ”ديانت”. ومن خلال هذه الأدوات، توسّع تركيا نفوذها الإقليمي عبر تقديم الدعم المالي لبناء المساجد، وإنشاء المدارس القرآنية، وتدريب الأئمة في عدد كبير من الدول الأفريقية.

ورغم أن تركيا لا تمتلك الثقل الاقتصادي الذي تمتلكه قوى كبرى مثل الصين، إلا أنها تحوز ميزة استراتيجية مهمة تتمثل في الروابط الدينية والثقافية المشتركة، ولا سيما مع المجتمعات السكانية المسلمة الكبيرة في أفريقيا، التي يزيد تعدادها عن 400 مليون نسمة. وفي هذا السياق، تتركز أبرز إنجازات كل من”  TİKA” و”ديانت” في الدول ذات الغالبية المسلمة، حيث تجد أنقرة بيئة اجتماعية وثقافية أكثر تقبّلًا لخطابها.

يضيف الكاتب الإسرائيلي أنه لا يمكن فصل مساعي أنقرة لتعميق نفوذها في القارة الأفريقية عن نهج سياستها الخارجية الحديثة التي تسعى إلى إحياء النفوذ التركي في المناطق التي كانت تخضع للخلافة العثمانية. وفي هذا الإطار، لا ينبغي النظر إلى التوسع الدبلوماسي التركي في أفريقيا بوصفه مبادرة سياسية استثنائية أو طارئة، بل كامتداد طبيعي لسياسة تنسجم مع إرث تاريخي متجذر في الماضي العثماني، حيث تُظهر الأحداث التاريخية أن أفريقيا، ولا سيما أقاليمها الشمالية، شكّلت ساحة حيوية ذات أهمية استراتيجية لدولة الخلافة العثمانية منذ عام 1512 وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى. وقد استمر ذلك الوضع لأربعة قرون، وهو ما يمنح الدولة التركية المعاصرة مزيجًا من الشرعية التاريخية والاستمرارية الاستراتيجية في انخراطها المتزايد داخل القارة الأفريقية.

وحتى تميز نفسها عن القوى الاستعمارية السابقة، تسعى تركيا إلى عرض نموذج الدولة العثمانية لا بوصفها قوة توسعية استغلت موارد أفريقيا، بل باعتبارها حامية للمسلمين، كما تعرض حرب استقلالها (1919–1922) على أنها نضال تحرري ضد الهيمنة الاستعمارية. وبذلك تبني أنقرة سردية تاريخية مشتركة تلقى قبولًا واسعًا في أفريقيا، وتستند إلى ثنائية إحياء رابطة الإسلام ومناهضة الاستعمار. كما تتبنى تركيا نهجًا يختلف عن النمط الاستعلائي التي غالبًا ما يُنسب إلى الغرب، إذ تحرص على التعامل مع شركائها وفق مبدأ الندية والمساواة، مع إبداء الاحترام المُعلن لسيادة الدول الأفريقية. وليس من المستغرب أن النهج القائم على الخطاب الإسلامي والتوجه المناهض للاستعمار والاحترام المتبادل، قد لقي ترحيبًا ملحوظًا لدى العديد من الدول الأفريقية.

الدين كأداة تأثير ونفوذ

يوضح “كوهين” أن تركيا وظَّفت الدين كأداة للتغلغل في أفريقيا، إذ بالتوازي مع أدوات القوة الناعمة الأخرى، تؤدي رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانت” دورًا محوريًا في تسهيل تغلغل تركيا في القارة، عبر الاستخدام الاستراتيجي للإسلام كأداة للتأثير والنفوذ.

ولقد تأسست “ديانت” عام 1924 عقب إلغاء الخلافة ووزارة الشريعة والأوقاف، وأُنيطت بها مهمة الإدارة والإشراف على الشؤون الدينية العامة. وانصب اهتمام تلك المؤسسة على الإسلام السني، باعتباره المذهب الفقهي السائد في تركيا، في حين بقيت الطائفة العلوية وغيرها من الأقليات الدينية خارج نطاق اهتمامها.

وخلال الحقبة العلمانية لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، جرى تقليص دور “ديانت” عمدًا، ولم تُمنح حتى مرتبة وزارة حكومية. وطوال مرحلة ما قبل الرئيس أردوغان، ظل تأثيرها محدودًا. غير أن مكانتها تغيّرت جذريًا مع تصاعد حضور الدين في المجال العام خلال حكم أردوغان، حيث ازدادت أهمية “ديانت” واتسعت صلاحياتها، وارتفعت ميزانيتها بشكل مطّرد. ففي عام 2025، بلغت ميزانية “ديانت” 130.1 مليار ليرة تركية (نحو 29.3 مليار دولار)، مع توقعات بارتفاعها إلى 153.5 مليار ليرة في 2026، و175.4 مليار ليرة في 2027. وتفوق هذه الميزانية ميزانيات عدد من الوزارات السيادية، مثل وزارات الداخلية والخارجية وكذلك وزارات الطاقة والثقافة والتجارة، ما يعكس الأهمية المتزايدة لرئاسة الشؤون الدينية التركية داخل بنية الدولة.

وتوازيًا مع رفع حجم ميزانية “ديانت”، اتسع نطاق أنشطتها بشكل ملحوظ، وشهدت التوجهات الدينية في تركيا تحولات واضحة نحو الخطاب المحافظ والمتشدد أحيانًا. وفي هذا السياق، حازت “ديانت” صلاحية إصدار الفتاوى والأحكام الدينية، وأطلقت قناة Diyanet TV التي تبث برامجها على مدار الساعة، كما توسعت في نشر التعليم القرآني ليشمل فئات عمرية أصغر من خلال إنشاء رياض أطفال دينية، إلى جانب إطلاق مشاريع واسعة لبناء المساجد.

وتشير دلائل متعددة – بحسب الكاتب الإسرائيلي – إلى أن الحكومة التركية قد استغلت الشبكة الدولية لـ “ديانت” لخدمة أهداف سياسية، من بينها مراقبة المعارضة التركية في الخارج، والترويج للاستفتاء الدستوري لعام 2017 داخل الجاليات التركية. وبذلك، تحولت “ديانت” إلى أداة استراتيجية بيد الحكومة، إذ تعمل على ترويج الأجندة الأيديولوجية والدينية والسياسية للنظام داخل تركيا وخارجها.

محطات مفصلية

أضاف الكاتب أنه في أعقاب إعلان عام 2005 “عام أفريقيا”، أطلقت “ديانت” مبادرة “مؤتمرات القادة الدينيين المسلمين من دول أفريقيا”، التي عُقدت في أعوام 2006 و2011 و2019، وشكّلت محطات مفصلية في الانخراط الاستراتيجي للمؤسسة التركية مع القارة السمراء. ومن خلال تلك المؤتمرات، وسّعت “ديانت” شبكة علاقاتها العابرة للحدود، وطوّرت علاقات شخصية ومؤسسية مع المجتمعات المسلمة في أفريقيا.

ومنذ المؤتمر الثاني، انتقلت “ديانت” من المقاربة الرمزية إلى حقل الانخراط العملي، ساعية إلى خوض التحديات الواقعية والروحية التي تواجه تلك المجتمعات. وشكّل مؤتمر 2019 ذروة النشاط، بمشاركة أكثر من 100 ممثل من 50 دولة، وهدف إلى بلورة برنامج عمل مؤسسي متكامل، حيث شددت “ديانت” في البيان الختامي للمؤتمر، على أهمية التضامن الإسلامي، ومناهضة الإمبريالية والاستعمار، وأدانت استغلال موارد أفريقيا عبر الممارسات الاستعمارية المعاصرة، معتبرةً ذلك انتهاكًا لكرامة الإنسان وتدميرًا للتراث الثقافي. كما دعت إلى مقاومة جميع أشكال الاحتلال والظلم والأنشطة التبشيرية التي تستهدف إبعاد المسلمين عن عقيدتهم وقيمهم.

ولم يكن تحقيق مثل تلك الأهداف ممكنًا لولا الحضور الميداني الفاعل، حيث أطلقت “ديانت”- إلى جانب برامجها التعليمية – مبادرات اجتماعية وإنسانية شملت توزيع المساعدات الغذائية، وحفر آبار المياه، وبناء المساجد والمدارس القرآنية والمراكز الصحية، لتعزز مكانتها كمرجعية دينية ومؤسسة خدمية في القارة الأفريقية، حيث وسّعت “ديانت” أنشطتها لتشمل دولًا عديدة، من موريتانيا والصومال إلى غانا وجنوب أفريقيا، مستفيدةً من مكاتبها الجديدة، ونشرها لإصدارات دينية بعدة لغات، واستقطاب الشباب المسلمين عبر برامج تعليمية متنوعة داخل أفريقيا. وفي المحصلة، فقد أصبحت “ديانت” ركيزة أساسية في الاستراتيجية التركية متعددة الأبعاد للتغلغل في أفريقيا، وهي تعمل ضمن منظومة متكاملة مع TİKA وIHH، وتساهم في جعل تركيا حليفًا روحيًا وشريكًا تنمويًا في آن واحد.

 

خلاصة القول، إن هذا المقال يبيّن أن تركيا، عبر رئاسة الشؤون الدينية “ديانت”، نجحت في تحويل الدين من إطار روحي تقليدي إلى أداة استراتيجية فاعلة ضمن منظومة قوتها الناعمة في أفريقيا. فمن خلال توظيف الإسلام السني، والإرث العثماني، والسردية المناهضة للاستعمار، استطاعت أنقرة أن تبني نموذجًا مميزًا للتغلغل في القارة السمراء، يختلف شكليًا عن النماذج الغربية، لكنه لا يقل عنها طموحًا من حيث الأهداف الجيوسياسية بعيدة المدى.

وتكشف الدراسة أن “ديانت” لم تعد مؤسسة دينية داخلية فحسب، بل تحولت إلى فاعل عابر للحدود، يعمل بتنسيق وثيق مع مؤسسات تركية أخرى مثل TİKA وIHH، ضمن منظومة متكاملة تجمع بين الشرعية الدينية، والتنمية، والعمل الإنساني. وقد أتاح هذا التكامل لأنقرة ترسيخ حضور طويل الأمد داخل المجتمعات المسلمة الأفريقية، خصوصًا في الدول ذات الأغلبية المسلمة.

كما يوضح المقال أن هذا النموذج يعكس بوضوح ملامح السياسة الخارجية الحديثة لتركيا، حيث تُقدَّم نفسها كحليف روحي وتاريخي، لا كقوة استعمارية، مستفيدة من حساسية الذاكرة الاستعمارية في أفريقيا. ومع ذلك، فإن تسييس الدين، وتوظيف الشبكات الدينية لخدمة أجندات سياسية داخلية وخارجية، يطرح تساؤلات جوهرية حول استدامة هذا النفوذ، وحدود قبوله مستقبلًا في ظل تعقيدات الواقع الأفريقي وتعدد الفاعلين الدوليين فيه.

[1] https://israel-africa.org/%D7%9E%D7%97%D7%A7%D7%A8%D7%99%D7%9D-%D7%95%D7%9E%D7%A1%D7%9E%D7%9B%D7%99-%D7%9E%D7%93%D7%99%D7%A0%D7%99%D7%95%D7%AA/%D7%94%D7%A9%D7%9C%D7%99%D7%97%D7%95%D7%AA-%D7%94%D7%93%D7%AA%D7%99%D7%AA-%D7%94%D7%90%D7%A1%D7%98%D7%A8%D7%98%D7%92%D7%99%D7%AA-%D7%A9%D7%9C-%D7%98%D7%95%D7%A8%D7%A7%D7%99%D7%94-%D7%91%D7%90%D7%A4/

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version