عدوانية السياسة الخارجية التركية هي رد فعل للطبيعة الدموية للشخصية الطورانية، وانعكاس لبراجماتية غشيمة، تتسم بقصر نظر وقصور حسابات.. نماذج فجة لاتراعى حتى علاقات التحالف، على نحو ما تم باعتقال عددٍ من الموظفين المحليين بالسفارة الأمريكية، واحتجاز القس أندرو برونسون في السجن لأكثر من عامين.. كما لم تراع المصالح الاقتصادية والسياسية، عندما أسقطت الطائرة «سوخوي 24» الروسية، واغتالت السفير الروسى.. ناهيك عن احتلالها لشمال قبرص وشمال سوريا، وتدخلاتها العسكرية شمال العراق، وغزوها لغرب ليبيا، وعملياتها الاستكشافية لمصادر الطاقة شرق المتوسط، في انتهاك فظ لسيادة دول الإقليم على مناطقها الاقتصادية الحرة.. تركيا تنتهج سياسة حافة الهاوية، وتراهن على عقلانية الطرف الآخر، وجنوحه لاحتواء الموقف تجنبًا للتصعيد.. أردوغان يستثمر ذلك في تسويق صورته كقائد حرب لحشد قاعدته السياسية المتدهورة.

هذه السياسة إقترنت بالحرص على تقليل الاعتماد على الحلفاء؛ روسيا في مجال الطاقة، والغرب في مجال التسليح، مما يفسر أن كل المناطق التى تدخلت فيها تعتبر غنية بمصادر الطاقة «قبرص، شمال سوريا والعراق، قطر، الصومال، ليبيا، شرق المتوسط، واذربيجان»، لكن الإطار العام الذي تندرج داخله هذه السياسات هو حلم أردوغان لتحقيق «الامبراطورية العثمانية الجديدة»، وفرض تركيا كقوة إقليمية ودولية، ولعل دعم الإخوان المسلمين والتماهي مع مشروعهم في الشرق الأوسط، جزء من السعي نحو إحياء «دولة الخلافة الإسلامية”.

أردوغان استبدل سياسة «صفر مشاكل» التي أسسها أحمد داوود أوغلو في كتابه «العمق الاستراتيجي»، بسياسة خارجية تقوم على «الصراع فى كل الجبهات»، الدافع الظاهرى للسياسة التوسعية التركية هو إعادة بعث «الإمبراطورية العثمانية»، التى سادت قرابة ستة قرون، ولكن خلف ذلك يكمن الدافع الحقيقى، وهو تدبير احتياجاتها من مصادر الطاقة، تركيا تستورد 98% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، وهي محاصرة من الدول المصدرة «روسيا 50%، إيران 17%، أذربيجان 12%».. معدلات إستهلاك الغاز تزداد منذ 2014 بمعدل 2.3% سنويًا، ويتوقع إستمراره بنفس المعدل حتى 2030.. تكلفة استيراد الطاقة بلغت قرابة 42 مليار دولار 2019، تمثل 20% من إجمالي الواردات، ما يرهق الاقتصاد. 

تركيا متورطة فعلاً في خمس حروب؛ الأولى في الداخل التركي مع الأقلية الكردية، والثانية في العراق مع الأكراد أيضاً، والثالثة في الشمال السوري بهدف مد حزام آمن داخل الحدود السورية، يخترق مناطق الأكراد ويقترب من مناطق النفط التى تحتلها الولايات المتحدة وقد تسلمها لتركيا مستقبلاً،  الرابعة في ليبيا، والخامسة فى أذربيجان.. ربما تمتلك القوات التركية البنية التحتية وخطوط الإمداد الكفيلة بتوفير التسهيلات اللوجيستية اللازمة فى بعض الميادين، لكنها تفتقد لذلك تماماً فى ميادين أخرى، مايحول تشكيلاتها العسكرية الى رهائن، يمكن تصفيتها بسهولة.

السياسة الخارجية التركية تسبب قلقاً شديداً وعدم استقرار على مستوى الإقليم.. من المشرق العربي، والقوقاز إلى شرق المتوسط، وأوروبا، وحتى شمال أفريقيا.. ويتساءل الجميع هل ستنتهي المساعي التركية بإعادة بعث الإمبراطورية العثمانية، أم بانهيار تركيا الأردوغانية؟!.. والحقيقة أن هناك عدة متغيرات تحكم مستقبل الأوضاع في تركيا، نتناولها فيما يلي:

  1. تراجع نظام أردوغان

أردوغان بات يطلق عليه «رجل تركيا المريض«، لأنه عطل المؤسسات السياسية، وبات يحكم من داخل القصر الرئاسي فى اسطنبول، حكمًا أقرب إلى«العائلى» .. زوجته أمينة تتحكم في السياسات البيئية.. نجله الأكبر بلال يتولى شؤون التعليم والشباب في الدولة، ويضطلع بأدوار رئيسية في المجال الاقتصادي، ولديه تشابكات تجمع براءات البيرق زوج شقيقته إسراء ووزير المالية والخزانة بسياسات تركيا التجارية، مستنداً الى خلفيته في صناعة الطاقة.. إضافة إلى الدور الذى يلعبه سلجوق بيرقدار في الصناعات العسكرية، من خلال امتلاكه المصنع الذي ينتج الطائرات المسيرة «بيرقدار»، وهو زوج سمية ابنة أردوغان الكبرى، رئيسة جمعية «النساء والديمقراطية» التى تدير سياسات المرأة والأسرة، ويسعى المؤيدون داخل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم «مجموعة البجع» بقيادة براءات البيرق لدفعه لتولي حقيبة الصناعة والتكنولوجيا.. أردوغان قام باعتقال كل من اشتبه بعلاقته بتسريبات  فضح علاقة براءات البيرق مع «داعش»، وتورطه في تهريب نفط التنظيم إلى تركيا.. النظام التركي تجول الى «نظام عائلي» يفتقد للمؤسسات السياسية، وهو نمط يصعب تصور إستمراره طويلاً فى دولة ديمقراطية.

  1. الصراع داخل الحزب الحاكم

مظاهر الاحتقان السياسي اشتدت داخل حزب «العدالة» منذ تعيين إردوغان لصهره براءات البيرق وزيرا للمالية في يوليو 2018، الانقسامات ظهرت في صفوف الحزب، وأصبح التحمس لتأييد خط أردوغان قاصر على مجموعة «البجع» التي تقودها عائلة البيرق، وهى تمتلك مقار تنتشر فى كافة أنحاء البلاد، وتسيطر على وسائل إعلام الحزب، كما يتبعها جيش منظم من «اللجان الإلكترونية»، فضلاً عن تمتعها بتأييد حزبىّ «الحركة القومية» و«الوحدة الكبرى» اليميني.. هذه الأوضاع أدت الى تنامي ظاهرة الاستقالة من حزب «العدالة» بين القواعد الشعبية التي طالما دعمته في مواجهة خصومه، ووصلت هذه الإستقالات الى أكثر من مليون عضو منذ 2018، وهو مؤشر خطير يعكس حجم السخط وعدم الرضا بين صفوف قواعد الحزب الشعبية.. عمليات الرصد أكدت أن الآلاف من هؤلاء ينضمون الى حزب «المستقبل» الذي أنشأه أحمد داوود أوغلو، وحزب «الديمقراطية والتقدم» الذي يقوده وزير الاقتصاد السابق علي باباجان وعبد الله جول، بعد انفصالهما عن الحزب الحاكم، مما ينذر بتراجع شديد لحزب أردوغان.

  1. موقف المعارضة الحزبية

أطلق حزب «المستقبل» حملة تستمر حتى نهاية 2020 شعارها {«المستقبل» في البرلمان} بهدف توحيد مواقف الأحزاب، والمطالبة بعودة النظام البرلماني، بعد تطويره، بعدما أثبت النظام الرئاسي فشله.. كشف استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة «أفروآسيا» أن حزب الشعب الجمهوري المعارض بات يقف في صدارة المرشحين للوصول للحكم.. أكدت مؤسسة الأبحاث «كوندا» أن المؤيدين لحزب «العدالة» تقلصوا من 38% إلى 27% منذ الانتخابات المحلية الماضية..  أظهر الاستطلاع الذي أجراه مركز إسطنبول للدراسات الاقتصادية، أن شعبية إردوغان تُعد الأكثر تراجعًا بين الشخصيات السياسية في تركيا، وأن رؤساء البلديات التابعين للمعارضة، في إسطنبول وأنقرة وإزمير، يحققون نجاحًا في مواجهة فيروس كورونا، رغم محاولات الحكومة عرقلة عملهم.. أما حزب «العدالة» الحاكم بقيادة إردوغان فقد تراجعت نسبة التأييد له بـ7%، نتيجة عجزه عن تطبيق التدابير الاحترازية المطلوبة لمنع تفشي فيروس كورونا.

استطلاع آخر للرأي، أجرته مراكز البحوث والاستشارات الاستراتيجية، كشف رفض غالبية الشعب التركي للنظام الرئاسي الذي طبقه أردوغان عام 2018، ورغبتهم في عودة النظام البرلماني. وأوضح الاستطلاع الذي شمل 76 ولاية تركية من إجمالى 81، خلال الفترة من 15 إلى 20 أبريل 2020. أن 64.6% من المواطنين يرون أن البرلمان يُعد المكان الأنسب لحل مشكلات البلاد، في مقابل 19.2% يرون الرئاسة هي المكان الأنسب.. واستطلاعات أخرى أكدت أن نسبة مؤيدي حزب الشعب الجمهوري 77%، ومؤيدى حزب الشعوب الديمقراطية 38%، كما أن 20% يعتزمون دعم حزب الخير القومي.. كل الاستطلاعات تؤكد أن شعبية أردوغان وحزب العدالة لاتبشر بأى فوز فى الإنتخابات المقبلة.

حزب «العدالة» يحاول حصار معارضيه من الأحزاب السياسية، الرئاسة التركية طالبت البرلمان برفع الحصانة عن 30 نائبا معارضًا؛ بينهم 21 نائبا عن «حزب الشعوب الديمقراطية» الكردي المعارض، تمهيدًا لمحاكمتهم بتهمة العمل كـ«ذراع سياسي لحزب العمال الكردستاني»، المصنف كمنظمة إرهابية، بخلاف العشرات الذين سبق ان رفع البرلمان الحصانة عنهم، كما يتعرض رؤساء البلديات المنتخبين من صفوف الحزب لضغوط شديدة تشمل عزلهم، حيث عزلت وزارة الداخلية مؤخرًا نحو 41 رئيس بلدية منتخب في ولايات شرق وجنوب شرق تركيا.. أردوغان وحزب العدالة تتضاءل فرصهم السياسية كل يوم.  

  1. التدهور الاقتصادى والمالى

 أصدر الرئيس أردوغان أوامره للبنك المركزي بدعم العملة المحلية على حساب الأرصدة الاحتياطية، لكن ذلك أدى إلى خسارة مزدوجة بتراجع الاحتياطي وانهيار العملة.. إجمالي احتياطي البنك المركزي بلغ ذروته التاريخية في ديسمبر 2013 بمبلغ 115 مليارًا و144 مليون دولار، لكن في نهاية 2019، سجل احتياطي النقد الأجنبي مستوى 81 مليارًا و240 مليون دولار.. وفى سبتمبر 2020 بلغ 43 مليارًا و15 مليون دولار.. تقديرات معهد التمويل الدولي أن تركيا شهدت أكبر نسبة تراجع احتياطيات النقد الأجنبي بين الاقتصاديات الناشئة فى العالم.. والليرة التركية هوت أكثر من 21% أمام الدولار الأميركي منذ بداية 2020، لتسجل أواخر سبتمبر 7.64 ليرة مقابل الدولار، وهو أدنى مستوى على الإطلاق.. «فيتش» خفضت النظرة المستقبلية لتركيا إلى «سلبية» بعد ان كانت «مستقرة»، والتصنيف الائتماني السيادي للاقتصاد التركي إلى «-BB»، وذلك نتيجة لانهيار الاحتياطي النقدى وأسعار الفائدة الحقيقية السلبية وعجز الحساب الجاري، إضافة إلى عدم استقلال البنك المركزي.

منذ محاولة إنقلاب الجيش التركى ضد أردوغان عام 2016، وهو يحرص على إشغاله بحروب وتدخلات خارجية، تبعده عن التفكير في شئون الداخل التركي.. هذا الاتجاه أدى إلى الإنزلاق إلى خمس حروب خارجية، فى قبرص وسوريا والعراق وليبيا وأذربيجان، بالإضافة إلى احتكاكات عسكرية شرق المتوسط وبحر إيجة، وانتشار عسكرى فى قطر والصومال.. هذه السياسة تقترن بتدهور اقتصادي ومالي غير مسبوق، وتهميش متعمد لمؤسسات الدولة.. ناهيك عن ممارسة السلطة فى إطار «عائلى»، يغذي دكتاتورية السلطة وفساد الإدارة.. الداخل التركي مرشح لاضطرابات أمنية، لكن موعده مع التغيير فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة 2023.

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version