محمود سامح همام  .. باحث في الشؤون الأفريقية

في ضوء سلسلة التقارير التحليلية التي ترصد التغلغل الخليجي في شرق أفريقيا والتى بدأت بالإمارات ثم السعودية وتركيا، يتضح أن قطر والكويت تمثلان نموذجين مختلفين للنفاذ الخليجي في هذه المنطقة الحيوية. فبينما تنتهج قطر مقاربة هجومية تسعى من خلالها إلى الجمع بين الاستثمار الاقتصادي المباشر والانخراط في معادلات الصراع الإقليمي، تتحرك الكويت عبر مقاربة أكثر هدوءًا، تركز على استثمارات طويلة الأمد في مجالات البنية التحتية والتنمية، متجنبة الانغماس المباشر في النزاعات، وتكشف دراسات الحضور القطري والكويتي في شرق أفريقيا عن تشابك الأبعاد الاقتصادية بالسياسية، حيث لا يمكن فصل الاستثمارات في الموانئ والمطارات والزراعة عن التوازنات الإقليمية التي تفرضها المنافسة الخليجية – الخليجية على النفوذ في البحر الأحمر والمحيط الهندي والقرن الأفريقي.

أولًا: قطر – الحضور المكثف وتوظيف النفوذ الاقتصادي في السياسة الإقليمية

رواندا كبوابة استراتيجية

تشكل رواندا قلب الاستراتيجية القطرية في شرق أفريقيا. فالخطوط الجوية القطرية استثمرت 1.3 مليار دولار في إنشاء مطار بوجيسيرا الدولي، على بعد 40 كيلومترًا من العاصمة كيغالي، مع احتفاظها بحصة 60% من المشروع. كما تجري مفاوضات للاستحواذ على 49% من الخطوط الجوية الرواندية، بما يحول رواندا إلى مركز إقليمي للشحن الجوي والنقل يخدم مصالح الدوحة التجارية والسياسية في القارة.

هذا الاستثمار الضخم – الذي يمثل نحو 75% من استثمارات قطر في شرق أفريقيا – لا يعكس مجرد رغبة في التوسع الاقتصادي، بل يكشف عن رؤية استراتيجية لتحويل رواندا إلى منصة نفوذ إقليمي، لاسيما أنها تُعد دولة ذات موقع جغرافي محوري بين شرق ووسط أفريقيا، وذات تجربة تنموية ملهمة للغرب والدول الأفريقية على حد سواء.

تنويع الاستثمارات في البنية التحتية والزراعة

خارج رواندا، تمتلك قطر محفظة استثمارية في ثماني دول شرق أفريقية من أصل 12. يتركز هذا الحضور في قطاعات البنية التحتية (المياه، والطرق، والمستشفيات، والمباني البلدية) والزراعة. ويبرز هنا المشروع القطري الزراعي في كينيا، على مساحة 40 ألف هكتار في دلتا نهر تانا، الذي يعكس هدفًا مزدوجًا: ضمان الأمن الغذائي لقطر وتعزيز روابطها الاقتصادية مع إحدى الدول المحورية في شرق أفريقيا.

البعد السياسي ودور قطر في الصراعات

لا يقتصر الدور القطري على الاقتصاد، بل يمتد إلى الانخراط في الأزمات الإقليمية. وتشير تقارير متعددة إلى دعم قطري للقوات المسلحة السودانية ماليًا ولوجيستيًا في الصراع المستعر منذ أبريل 2023م. هذا الدور يكشف عن بعد سياسي يتجاوز الاستثمار التنموي، إذ تحاول قطر عبره أن تعزز موقعها كفاعل مؤثر في النزاعات الأفريقية، وتوازن نفوذ قوى خليجية منافسة كالإمارات والسعودية التي تنشط بدورها في السودان.

إذن، يمكن القول إن المقاربة القطرية في شرق أفريقيا تقوم على مزيج من الاستثمار الاستراتيجي والانخراط السياسي-الأمني، بما يجعلها فاعلًا أكثر إثارة للجدل مقارنة بالكويت.

ثانيًا: الكويت – مقاربة هادئة قائمة على التنمية والاستقرار

حضور استثماري متنوع

تمتلك الكويت استثمارات في سبع دول شرق أفريقية، مع تركيز واضح على البنية التحتية، وتطوير الموانئ، والزراعة. هذه الاستثمارات تعكس فلسفة كويتية تقليدية تعتمد على الدبلوماسية الاقتصادية باعتبارها أداة لتعزيز المكانة الخارجية دون الانغماس في الصراعات المسلحة.

الموانئ كمفتاح استراتيجي

يتمثل أبرز المشاريع الكويتية في صفقة بقيمة 500 مليون دولار لإدارة وتطوير ميناء براوي في الصومال، أحد الموانئ الحيوية على المحيط الهندي. هذا المشروع يمنح الكويت موطئ قدم مهمًا في منطقة تتنافس عليها قوى كبرى مثل الإمارات وتركيا، لكنه يأتي في إطار اقتصادي أكثر منه صراع عسكري أو سياسي مباشر.

التوسع في جنوب السودان وإريتريا

تعهدت الكويت بتقديم 120 مليون دولار لجنوب السودان لتطوير ميناء جوبا على نهر النيل، وبناء فنادق، ودعم قطاع الثروة السمكية. كما منحت قرضًا بقيمة 230 مليون دولار لإريتريا لتمويل مشاريع للطرق. هذه المبادرات تكشف عن مقاربة طويلة المدى تهدف إلى ربط الكويت بالمشاريع التنموية الأفريقية وتوظيفها في بناء شبكات نفوذ ناعمة قادرة على الاستمرار حتى في حال تغير الأنظمة السياسية في هذه الدول.

البعد السياسي – القوة الناعمة والتنمية

سياسيًا، تميل الكويت إلى توظيف أدوات القوة الناعمة عبر التمويل التنموي والاستثماري أكثر من الانخراط في الصراعات. هذا النهج ينسجم مع طبيعة السياسة الخارجية الكويتية القائمة على الحياد النسبي، والبحث عن نفوذ من خلال التنمية والاستقرار، وليس عبر التدخل العسكري أو دعم طرف على حساب آخر. ومع ذلك، فإن استثماراتها في الموانئ والطرق والموانع المائية تجعلها طرفًا مهمًا في التنافس الخليجي الأوسع بالمنطقة.

ختامًا، يتضح أن قطر والكويت تمثلان وجهين متمايزين للانخراط الخليجي في شرق أفريقيا: قطر عبر مقاربة هجومية تتقاطع مع الأبعاد الصراعية والإستراتيجية، والكويت عبر مسار أكثر هدوءًا يركز على الاستثمار التنموي والبنية التحتية. ومع ذلك، يلتقي الطرفان في إدراك الأهمية الجيوسياسية للمنطقة باعتبارها ساحة تنافسية مركزية ضمن حسابات النفوذ الخليجي في القارة الأفريقية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version