بعد أكثر من شهر ونصف على عملية “طوفان الأقصى” وما أعقبها من عدوان إسرائيلي غاشم على قطاع غزة، اضطرت حكومة تل أبيب لقبول شروط حماس لإبرام صفقة لتبادل الأسرى بين الطرفين. ولولا جهود الوساطة المصرية بمساعدة قطرية وأمريكية، لما تم التوصل لاتفاق التهدئة وإجراء تلك الصفقة التي أوقفت حملة التدمير وسفك دماء الفلسطينيين في قطاع غزة.

ثمن فادح:

بعد أسابيع من الاقتحام البري الإسرائيلي لقطاع غزة وفشل نتنياهو في تحرير أسراه بالقوة، وذلك بفضل صمود المقاومة الفلسطينية، لم يبقي أمام تل أبيب سوى قبول اتفاق التهدئة وإبرام صفقة تبادل الأسرى وفق شروط حركة حماس. وتعلم الحكومة الإسرائيلية أنها دفعت ثمنا فادحا مقابل تلك الصفقة، لأن المقاومة في غزة استغلت الهدنة المؤقتة لالتقاط الأنفاس وإعادة رص صفوف مقاتليها.

بين الربح والخسارة:

1-    بالنسبة لإسرائيل، فإن الصفقة عطلت جيشها عن مواصلة العدوان على قطاع غزة، فضلا عن أنها منحت حماس الوقت اللازم لتعزز مواقعها الدفاعية، والاستعداد من جديد لصد القوات الإسرائيلية، بل والتحضير لإبرام صفقات أخرى ولكن بشروط أفضل من جانب حماس. ومن الصعب على إسرائيل أن توقف عملية تبادل الأسرى حتى لا تشعل الغضب في جبهتها ىالداخلية، وحتى إذا راوغت حماس في بعض الإجراءات فإن تل أبيب لن تُقدم على مواصلة العدوان العسكري طالما بقي هناك أسرى إسرائيليين في غزة. وفيما يتعلق بتوقيت إبرام صفقة تبادل الأسرى، فإنه يمثل إخفاقا شديدا لإسرائيل لأن قواتها البرية كانت تحاصر مدينة غزة من كل الاتجاهات، وكادت أن تقتحمها.

2-    بالنسبة لحركة حماس، فإن الصفقة الحالية منحتها فرصة جيدة للتفاوض مع عدد من الأطراف الفاعلة مثل مصر وقطر والولايات المتحدة وفرض شروطها لتبادل الأسرى. وهكذا بدت حماس وكأنها شريك يفرض وجوده وشروطه لحل الأزمة. ومما لا شك فيه أن الصفقة الجزئية لتبادل الأسرى قد عززت مكانة السنوار، والأهم من ذلك أن الأسرى الإسرائيليين الذين لم تشملهم الجولة الأولى سيظلون كورقة ضغط قوية في يد حماس. وعليه فإن حماس ستواصل مد فترات الهدنة بالتزامن مع تراجع التأييد الغربي للعدوان الإسرائيلي، حتى من قبل أهم حليف لإسرائيل، حيث أظهر استطلاع للرأي أن 68% من الأمريكيين يؤيدون وقف إطلاق النار في قطاع غزة.

تداعيات:

** إن انتهاء تبادل الأسرى في الصفقة الأولى قد منح انطباعا إيجابيا عن حركة حماس –بعد أن طالبت إسرائيل بالقضاء عليها واستئصالها- وجعل منها شريكا يتم التعامل معه. وعليه، فإن المفاوضات التي بدأت بإطلاق سراح أعداد قليلة من الأسرى يمكن أن تستمر لإبرام صفقات أخرى للإفراج عن الجميع. مما قد يجعل حماس في نهاية الأمر، مُرشحةً للبقاء كطرف فاعل في قطاع غزة.

** تمثل صفقة تبادل الأسرى بشروط حماس، ضربة موجعة لمعسكر القوى اليمينية في إسرائيل، وهو المعسكر الذي زعم مؤيدوه بأن تشكيل حكومة يمينية خالصة سيضمن الحفاظ على أمن إسرائيل وردع كافة أعدائها، وفي مقدمتهم الفصائل المسلحة في قطاع غزة. وبمجرد إنتهاء الحرب وسقوط حكومة نتنياهو لن يكون للأحزاب اليمينية المتطرفة دور كبير في الحكومة الإسرائيلية المقبلة.

** لقد وقعت إسرائيل في فخ “جولات تبادل الأسرى” وكلما أبدت حماس حُسن تصرفها وتعاملها، فإنها ستفرض شروطا أشد من جولة لأخرى، حتى تُحرر جميع الأسرى الفلسطينيين. ولدى حماس الخبرة الكافية من صفقة “شاليط” والتي كان السنوار من بين مُحرريها.

** إن إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين بفضل كفاح حماس وعودتهم إلى القدس والمُدن التابعة للسلطة الفلسطينية، سيشعل جبهة أخرى في وجه إسرائيل من داخل الضفة الغربية، بل وحتى من داخل حدود الـ 48. ولعل مظاهر التأييد والتضامن مع حركة حماس مع عودة الأسرى الفلسطينيين إلى أهلهم، تزيد من قلق إسرائيل جراء زيادة شعبية المقاومة داخل أراضي السلطة الفلسطينية.

سيناريوهات مابعد الصفقة:

بعد انتهاء إجراءات تبادل الأسرى ضمن الصفقة الأولي بين إسرائيل وحماس يمكن التنبؤ بالسيناريوهات التالية:

1-    الاتفاق لإبرام هدنة وصفقة أخرى لاستمرار تبادل الأسرى، وسيكون ذلك في صالح حركة حماس، خاصةً إذا رفعت سقف شروطها فيما يتعلق بزيادة عدد المُفرج عنهم من المعتقلين الفلسطينيين مقارنة بالصفقة الأولى  والتي كانت نسبتها واحد إلى ثلاثة.

2-    فشل جهود استمرار الهدنة والعودة للقتال مرة أخرى، وسيكون ذلك في غير صالح الطرفين، إذ ستتفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة وسيسقط المزيد من القتلى بين صفوف الجنود والضباط الإسرائيليين، مع استمرار انسداد الأُفق السياسي لحل الأزمة.

3-    إطالة فترة المفاوضات لإطلاق سراح العسكريين من الضباط والجنود الإسرائيليين أو بعضهم، حيث يتغير المشهد السياسي الإسرائيلي سيتغير رأسا على عقب. وذلك بإسقاط حكومة نتنياهو وإجراء انتخابات جديدة لن يكون للأحزاب اليمينية أو الدينية المتطرفة دور فيها. مما سيشكل ضربة قاصمة لتلك الأحزاب وعلى رأسها “الصهيونية الدينية” بزعامة سموتريتش و”القوة اليهودية” بزعامة بن جفير.

خلاصة القول:

أ- الوضع مرشح لكل الاحتمالات بعد انتهاء فترة التهدئة الأولى التي شملت تبادل خمسين أسير إسرائيليا مقابل مائة وخمسين أسيرا فلسطينيا.

ب- مع بدء الهدنة المؤقتة وتنفيذ صفقة تبادل الأسرى، تبين أن قيادة حركة حماس في غزة مازالت تمسك بزمام الأمور وأن الاقتحام العسكري البري الذي نفذه الجيش الإسرائيلي فشل في إضعاف قوى المقاومة الفلسطينية. بل إن المقاومة مازالت تحتفظ بقدراتها، وباتت تسيطر على الضفة الغربية خاصة بعد الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، في ظل غياب تام لدور السلطة الفلسطينية.

ج- يتمثل الهدف الأهم لحركة حماس من تلك الحرب أن تخرج منتصرة بعد أن أفشلت مخططات تل أبيب في القضاء على المقاومة وتحرير الأسرى الإسرائيليين عبر الاقتحام البري. ويُحسب لحركة حماس أن أرغمت إسرائيل على قبول شروطها، وأنها صاحبة الفضل في إعادة القضية الفلسطينية على رأس اهتمامات المجتمعين الإقليمي والدولي.

وختاما، فإن الدور المصري في القضية الفلسطينية وقطاع غزة تحديدا، لا يمكن الاستغناء عنه لضمان الحقوق الفلسطينية وإرغام العدو الإسرائيلي على وقف عدوانه المتكرر. ورغم ما تمر به مصر من تحديات استراتيجية واقتصادية إلا أن دورها سيظل محوريا ولا يمكن لطرف آخر أن يقوم به. صحيح أن الدوحة وواشنطن كان لهما أيضا دور مهم في إبرام الصفقة وخروجها لحيز التنفيذ، لكن ذلك ما كان ليتحقق لولا دور مصر صاحبة السيادة على معبر رفح والتي تربطها حدود بقطاع غزة وإسرائيل.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version