في كل عام يُنظم آلاف الإسرائيليين من الصهاينة المتطرفين مسيرةً تجوب شوارع البلدة القديمة في القدس الشرقية، وهي تسمى مسيرة الأعلام أو رقصة الأعلام، ويردد المشاركين فيها شعارات عدائية ضد الفلسطينيين والعرب، ويرتكبون أعمال عنفٍ في حق أهالي القدس.

ويتم تنظيم تلك المسيرة الاستفزازية لإحياء الذكرى السنوية لما يُعرف بيوم توحيد القدس بعد احتلال إسرائيل للشطر الشرقي من المدينة عام 1967 وفرض السيادة الإسرائيلية عليها. وتجوب المسيرة شوارع البلدة القديمة مرورًا بالحي الإسلامي، مما يزيد من وتيرة التصعيد بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وتمثل رقصة الأعلام تقليدًا إسرائيليا سنويًا بمناسبة يوم احتلال القدس، الذ اتخذته إسرائيل عيدًا وطنيًا. ولأن تلك المسيرة الاستفزازية تُجرى وفق التقويم القمري اليهودي، فإنها تختلف من عام لأخر عن التقويم الميلادي.

دلالة خطيرة!

تحمل مسيرة الأعلام هذا العام دلالة خطيرة أكثر من أي وقت مضى، لأنها تأتي في ظل تولى  تيار الصهيونية الدينية وزارتي المالية والأمن القومي برئاسة كل من بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن جفير، وهما من أكثر الوزراء الإسرائيليين تحريضا ضد العرب ومُطالبةً بفرض السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية وكافَّة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.

إشكالية الرمزية في العلم الإسرائيلي!

يبدو لكل من يجوب شوارع مدينتي القدس وتل أبيب، أن سكان تل أبيب يعلقون علمًا إسرائيليًا واحدًا على سياراتهم، بينما يُعلق سكان القدس علمين اثنين، وكأنما يقولون لسكان تل أبيب إن علم إسرائيل يخُصُّنا أكثر مما يخصُّكم.

وعندما اندلعت المظاهرات مؤخرًا في شوارع تل أبيب ضد أجندة الحكومة اليمينية الدينية المتطرفة، تفاجأ الجميع بأن علم إسرائيل أصبح رمزًا يُوحِّدُ المتظاهرين المحتجين على تلك الحكومة المتطرفة التي يتزعمها نتنياهو. لكن الوزيرة أوريت ستروك العضوة في تلك الحكومة، انتقدت المتظاهرين مُتهمةً إياهم بتدنيس علم إسرائيل، ومُضيفة بأن ذلك العلم يُعد لدى المنتمين للمعسر الديني اليميني رمزا مُقدسًا، بينما لا يمثل لدى المتظاهرين سوى عصًا يستخدمونها لضرب خصومهم.

جذور الخلاف حول العلم الإسرائيلي!

جدير بالذكر أن إشكالية قداسة العلم الإسرائيلي لدي التيارات والفصائل اليهودية المُختلفة، قد بدأت فور احتلال الجيش الإسرائيلي لمدينة القدس خلال عدوان عام 1967 الذي تُطلق عليه الدولة العبرية “حرب الأيام الستة”. فعندما سقطت المدينة تحت الاحتلال، أمر الحاخام  الصهيوني  “أبراهام إسحاق كوك” تلاميذه – ممن يدرسون في المعهد الديني اليهودي “مركاز هاراف”- بأن يتوشحوا بأعلام إسرائيل مثلما يتوشحون بشال الصلاة، ثم يخرجون للرقص في شوارع البلدة القديمة بالقدس وعند حائط المبكى “البراق”، وهو ما أُطلق عليه حينها “رقصة الأعلام” وأُطلق عليه لاحقًا “يوم القدس”.

لكن المفارقة هي أن رقصة الأعلام التي كانت بدايتها مع احتلال القدس لم تكن تهدف في الأساس لاستفزاز العرب أو إهانتهم كما يحدث مؤخرًا، بل كانت تهدف لمكايدة المنتمين للتيار اليهودي الأرثوذكسي وهم “الحريديم”. وحتى نفهم ذلك، يجب التعرف أولًا على سبب الخلاف الجوهري بين الصهاينة المتدينين- الذين كان يمثلهم وقتها حزب الـ”مفدال” وهو الحزب الديني القومي والحليف التاريخي لحزب “العمل”- وبين “الحريديم” وهو خلاف شديد يتمحور حول مسألة المسيح المُخلِّص.

احتلال القدس والمسيح المُخلِّص!

يعتقد اليهود الأرثوذكس “الحريديم”، بأن المسيح المُخلص سيأتي – وفق الموروث الديني اليهودي- في الموعد المُقدَّر له لكي ينقذهم ويُخلِّصهم، ومن ثم يَحرم على أي شخصٍ أن يفعل شيئا لتعجيل مجيئه. بينما يعتقد الصهاينة المتدينون بأن الصهيونية العلمانية تمثل بداية الخلاص المُمهِّد لمجيء المسيح وبناء الهيكل، وعليه، فلا يجب التواكل والانتظار حتى يهبط الهيكل من السماء.

لقد كان “تحرير” القدس على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي يُعدُّ دليلاً في نظر الصهاينة المتدينين على صدق منهجهم، وعلى أن المسيح المُخلص لن يأتي إلا بالعمل الجاد والأخذ بالأسباب وليس بالسلبية والتواكل، فها هو جيش إسرائيل “حرر” المدينة “المقدسة” وأصبح العلم الإسرائيلي يحمل رمزيةً دينيةً مُباركة. وبعد تلك الفترة، بدأ حزب المفدال الذي كان يتبنى سياسة معتدلة وبرغماتية، في الانفصال عن حليفه من معسكر اليسار، والتقرب نحو اليمين حتى انضم إلى حزب الليكود ليبثَّ أفكاره التي تتسم بالتطرف الديني الخلاصي حتى بلغت تلك الأفكار ذروتها  خلال الفترة الحالية.

عدم الولاء للعلم الإسرائيلي!

إن المنتمين للتيار الحريدي لا يدينون بالولاء للعلم الإسرائيلي، ليس بالضرورة نكاية في العلمانيين الإسرائيليين، بل نكايةً في الصهاينة المتدينين، لأن الخلاف بينهما حول ذلك العلم يأتي على أساس ديني. فالتيار الصهيوني الديني يرى أن علم إسرائيل يمثل جزءًا من الحراك لتعجيل مجيئ المسيح المخلص، بينما يراه “الحريديم” تحديًا لقَدَر الله، مما يستوجب رفضه ونكرانه.

وفيما يخص محاولات اقتحام المسجد الأقصى أو ما يزعمون بأنه “جبل الهيكل”، فإن الحريديم يرون أن اقتحامه من قِبل الصهاينة المتدينين يُعدُّ تدنيسًا فعليًا للمقدسات، وكل من يقترف ذلك فحُكمه الطرد واللعن، ذلك لأنه فضَّل التحالف السياسي مع أولئك الملعونين الذين يجب قتلهم وفق الشريعة اليهودية. ويرى علماء التيار الحريدي أن الجشع في الحصول على الميزانيات والموارد المالية أصبح يطغى على أهم مبادئ الدين واقتحام الحرم القدسي قبل مجيئ المُخَلِّص.

خلاصة القول، إن العلم الإسرائيلي، يحمل دلالات متباينة لدى ثلاث تيارات مختلفة – فالتيار الأول وهو تيار العلمانيين يرى أن ذلك العلم يمثل رمزا قوميًا ووطنيًا، وينم عن القيم الواردة في وثيقة إعلان دولة إسرائيل. أما التيار الثاني، وهو تيار الصهيونية الدينية فيرى أن العلم يُشكِّلُ رمزًا دينيًا مُعبرًا عن الحنين للخلاص والأخذ يالأسباب تمهيدًا لبناء الهيكل. أما التيار الثالث وهو تيار الحريديم، فهو يتنكر للعلم الإسرائيلي ويعتبره كفرًا بالله وتحديًا لقَدَرِ السماء.

 

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version