في ظل تسارع الأحداث الإقليمية، تصدّرت أزمة منطقة العوينات في المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، وتزامنها مع تحركات ما يعرف بـ”قافلة الصمود” المتجهة إلى غزة عبر معبر رفح، المشهد السياسي والأمني المصري، وسط تزايد ملحوظ في حجم التداخلات الخارجية ومحاولات التشويه الممنهجة لصورة الدولة المصرية إقليمياً ودولياً.
تمر الدولة المصرية في المرحلة الراهنة بتحديات معقدة لا تتجلى فقط في حدودها المباشرة، بل تمتد إلى فضاءات رمادية تُستخدم فيها أدوات الاستهداف الناعم، والتشويه الإعلامي، والاستثمار في القضايا الحقوقية لإحداث حالة من الإرباك الاستراتيجي وتشويه الثقة في المؤسسات الوطنية.
منطقة العوينات، الواقعة عند المثلث الحدودي جنوب غرب البلاد، باتت تمثل اليوم خاصرة أمنية حساسة، تتقاطع فيها التحركات المسلحة والفراغات السيادية، بينما تتحرك في الشمال الشرقي “قافلة الصمود” – التي ترفع شعارات إنسانية لكنها تحمل في طياتها احتمالات توظيف سياسي وأمني لا يمكن تجاهله.
يحاول هذا التقرير تقديم تحليل استراتيجي للأبعاد السياسية والأمنية لهذه التطورات، وتقدير حجم التهديدات المحتملة، وتأثيراتها المتوقعة على الأمن القومي المصري مع تقديم توصيات عملية.
أولًا: تصاعد التهديدات في منطقة العوينات – المسرح المنسي الذي عاد للواجهة
تشهد منطقة العوينات، الواقعة عند المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، توترًا أمنيًا متزايدًا خلال الأسابيع الأخيرة، نتيجة انسحاب الجيش السوداني من عدد من النقاط الحدودية الحيوية، ما أدى إلى فراغ ميداني بالغ الخطورة في مساحة جغرافية حساسة.
هذا الفراغ تم استغلاله من قبل ميليشيات محلية تابعة للجنرال الليبي خليفة حفتر، التي بدأت في تعزيز وجودها على أطراف المثلث الحدودي، مستفيدة من الضعف الأمني في الشمال السوداني والتشتت الليبي.
في الوقت نفسه، تشير تحليلات استخباراتية متقاطعة إلى احتمالات وجود دعم لوجستي أو تنسيقي غير مباشر من أطراف إقليمية لعناصر ميليشياوية أغلبها من المرتزقة تتلاقى اجندتها مع أهداف “قوات الدعم السريع” السودانية، خصوصًا في ظل سعي بعض القوى الإقليمية لإعادة ترتيب التوازنات جنوب الصحراء الكبرى، عبر أدوات غير تقليدية.
هذه التطورات تجعل من العوينات بؤرة مرشحة لتصاعد التهديدات المركبة، حيث تتقاطع طرق التهريب، ويتحرك فاعلون مسلحون في مناطق نائية تُعد بطبيعتها تحديًا للأمن الحدودي، ومن أهم تلك التحديات:
١.الفراغ الأمني المفتعل في المثلث الحدودي:
شهدت الأسابيع الماضية انسحابًا مفاجئًا للقوات الموالية للجيش السودانى مثل القوات التابعة للعدل والمساواة والقوات التابعة للقيادى “منى أركو مناوى” السابق إعلانهم دعم جهود الجيش السودانى فى مواجهة هجمات قوات الدعم السريع بإقليم دارفور الحدودى الملاصق شمالاً لمنطقة المثلث الحدودى ومناطق التماس الحيوية قرب العوينات، وذلك نتيجة ضغوط الميليشات والمرتزقة المشار إليها، ما فتح المجال أمام وصول الإمدادات العسكرية وعناصر المرتزقة لشمال دارفور وإنضمامهم لقوات الدعم السريع فى محاولة لتطويق الجيش السودانى فى الولاية الدارفورية الأخيرة تمهيداً لفصل كامل دارفور عن الدولة الأم.
وأشارت بعض التقارير الاستخباراتية إلى رصد محاولات توغّل لعناصر مسلحة من قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) باتجاه المثلث الحدودي، مستغلين الدعم اللوجستي والإستخباراتي المقدم من أطراف خارجية لتعزيز موقف قوات الدعم السريع الساعى لفرض أمر واقع بغرب السودان، وتأمين عمق استراتيجي لجماعات تنشط على تخوم الحدود.
وتربط بعض التقاريرهذا الدعم بمحاولات فتح جبهة ضغط على مصر، عبر تهديد أحد أكثر حدودها هدوءًا وذلك لتقويض الاستقرار المصري عبر الضغط من الخاصرة الجنوبية.
- 2. الفجوةالليبيةوالسودانية:
مع تراجع الدولة المركزية في السودان، وتعدد مصادر القرار في ليبيا، باتت الحدود الجنوبية الغربية لمصر معرضة لاختراقات متكررة بمحيط منطقة العوينات، و برغم وعورة تضاريسها، شهدت محاولات عديدة فاشلة لفتح طريق لحركة السلاح والمقاتلين والعناصر غير النظامية، بما يؤكد نجاح الإستراتيجية الأمنية والإستخباراتية فى تلك المنطقة إعتماداً على منظومة ترتكز على التفوق المعلوماتى وتبادل المعلومات والتنسيق وسرعة إتخاذ القرار والعمليات الإستباقية سواء داخل أو خارج الحدود لتعزيز ركائز الأمن القومى للبلاد.
- 3. التهديد المركب:
تهديد العوينات لا يتمثل فقط في الطبيعة العسكرية، بل أيضًا في احتمالية استخدامها كورقة ضغط على مصر في ملفات أخرى، كالتفاوض حول ليبيا أو ملف سد النهضة، بجانب ممارسة قدر من الضغوط بملف معبر رفح في إطار معادلات الردع الإقليمي غير التقليدية، وهو ما سنوضحه خلال العرض التالى.
يشكّل هذا الوضع تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، لعدة أسباب:
- قرب سواء منطقة العوينات أو شمال دارفور من المثلث الحدودي المشترك مع ليبيا والسودان، ما يجعل ذلك المثلث مسرحًا مفتوحًا لعمليات التهريب والإرهاب.
- صعوبةالسيطرة الميدانية بسبب الطبيعة الجغرافية الوعرة واتساع رقعة الأرض.
- تزامن انسحاب القوات السودانية الموالية للمجلس السودانى والجيش الوطنى مع اضطرابات داخل السودان، وضعف سلطة الحكومة المركزية، ما يعمّق هشاشة أمن الحدود.
- الضغطعلى الأجهزة الأمنية المصرية لتفتيت الجهد بين حدود ليبيا وغزة والسودان
- استخدام المنطقة كغطاء لعمليات تسلل أو تخزين عسكري يخدم جهات معادية.
- التزامن الدقيق للعمليتين مع اليوم التالى لبدء الهجوم الإسرائيلى على إيران، وتركيز وسائل الإعلام والمراقبين الدوليين على تفجر أزمة دولية ذات أولوية.
تشير مجمل المعطيات إلى ضرورة رفع مستوى التأهب على طول الشريط الحدودي الجنوبي الغربي، مع تعزيز الشراكة الاستخباراتية مع السودان وليبيا لتفادي أي تسلل قد يستهدف العمق المصري.
ثانيًا: قافلة الصمود… الإنسانية المُسيّسة كسلاح استنزاف ناعم
ما يسمى بـ”قافلة الصمود” لم تُبادر كتحرك عفوي فقط، بل تبلورت كجزء من موجة إقليمية توظف شعارات التضامن لدفع دول بعينها إلى مربعات الفوضى المحسوبة.
انطلقت “قافلة الصمود” من تونس، وتضم مئات الناشطين من جنسيات متعددة بهدف الوصول إلى غزة، عبر معبر رفح المصري. وقد جرى التعامل مع القافلة بحذر أمني ودبلوماسي، حيث تم ترحيل بعض المشاركين ورفض دخول وفود معينة، لكن هذه القافلة لا تتحرك في فراغ، بل ضمن سياق إقليمي مشحون، حيث تأتي القافلة بالتزامن مع اشتداد الغارات الإسرائيلية على غزة، ومحاولات إسرائيلية حثيثة لإجبار مصر على فتح المعبر بشروط غير مصرية، ورغم الطابع الإنساني المعلن، فإن القافلة تُحاط بشكوك أمنية، لعدة اعتبارات:
- 1. التوقيتالمُريب:
انطلقت القافلة في وقت يتصاعد فيه الضغط الإعلامي على مصر بشأن معبر رفح، بينما كانت إسرائيل تُكثف من قصفها على غزة، وقطاعات داخل أوروبا تُحرج حكوماتها صراحة لدعم المقاومة. جاءت القافلة كمشهد رمزي، لكنه يحمل احتمالات اصطدام متعمد مع السلطة المصرية.
- 2. إرباكالقرارالمصري:
القافلة فُسّرت كـ”كمين دبلوماسي” لمصر، فبين أن تُغلق عليها الحدود وتُتهم بالخذلان، أو تفتح لها الطريق وتتحمّل النتائج الأمنية والمعنوية لأي اشتباك أو استفزاز. الخياران كلاهما يحملان كلفة، وهنا تظهر عبقرية الأزمة المركبة.
رغم أن القافلة لم ترفع شعارات ضد الدولة المصرية بشكل مباشر، فإن روافدها الإعلامية عملت على تصوير الإجراءات الأمنية المصرية كقمع، ومحاولة خلق شعارات دولية عنوانها: “مصر تعيق التضامن مع غزة”.
وفي حال حدوث أي احتكاك – حتى لو أمنيًا بحتًا – يمكن للقافلة أن تتحول إلى قضية دعائية ضخمة تُستثمر لتقويض الموقف المصري على الساحة الدولية وذلك ماتم بالفعل من قبل بعض النشطاء علي منصات التواصل الاجتماعي.
- 3. غطاءناعملتحركات خفية:
التقارير الأمنية رصدت مشاركة ناشطين لهم ارتباطات مشبوهة بمنظمات تمولها جهات تتقاطع مصالحها مع إضعاف الدولة المصرية إقليميًا، وكذلك وجود شخصيات ناشطة ذات ارتباطات سياسية واضحة (بعضها محسوب على تيارات إسلامية إرهابية) هذه ليست مجرد صدفة، بل نمط تكرّر في تحركات مشابهة منذ أحداث أسطول الحرية عام 2010، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة أهداف القافلة الحقيقية.
٤. التمويل والتنسيق:
حيث ترددت أنباء عن دعم غير مباشر من كيانات تسعى لاستثمار المشهد لغرض سياسي.
٥. المسار غير المعلن بالكامل:
وإصرار بعض المشاركين على اختراق مساحات محظورة أمنيًا.
يبدو أن القافلة تجاوزت في بعض مراحلها إطار التضامن الرمزي، لتصبح أداة محتملة لتأزيم المشهد المصري، سواء من خلال استفزاز القوات على الحدود، أو تصوير إجراءات الدولة باعتبارها “قمعًا للحريات”، ما يفتح المجال أمام حملات تشويه ممنهجة ضد مصر.
ثالثًا: تزامن الجبهتين… صدفة جغرافية أم خطة تشتيت استراتيجية؟
تواجه مصر ما يمكن تسميته بـ”الاستهداف المركّب”، والذي يجمع بين أدوات الضغط الصلبة (الحدود، المسلحين، الميليشيات) والأدوات الناعمة (الإعلام، المنظمات، الحملات الحقوقية)، تتحرك الحملات المعادية لمصر على أكثر من مستوى:
- توظيف“الإنسانية”لشيطنة السيادة:
أي ممارسة سيادية مشروعة للدولة المصرية في ضبط حدودها تُقدَّم إعلاميًا على أنها فعل قمعي. تُصوَّر مصر في الأخبار المعادية كعقبة أمام “الضمير العالمي”، وتصوير مصر على أنها “طرف معرقل” لوصول الدعم إلى غزة، مع تغييب كامل للتحديات الأمنية الحقيقية، مما يشكل سابقة خطيرة في قلب المفاهيم وتحويل الدولة إلى متّهم.
- التحريضعبرالمظلومية الإعلامية:
كشفت بعض التقارير لوجود خطة ممنهجة للتشوية الإعلامي لمصر من خلال “قتل المتظاهرين على الحدود”، أو تصوير أي صدام محتمل باعتباره “مجزرة”، يهدف إلى إعادة تنشيط حملات المقاطعة والتشهير دوليًا، في وقت تتصاعد فيه الضغوط على مصر في ملفات أخرى (الديون، حقوق الإنسان، العلاقة مع إسرائيل).
- الربطبينالقضايا:
ربط قضية الحدود المصرية الجنوبية (العوينات) بملف غزة وتحركات النشطاء، يصب في مشروع تشتيت إرادة القرار المصري، وإرغامه على الانخراط في أزمات ليست من صنعه، لكنه يُدفع لتحمل تبعاتها
خامسًا: التوصيات المقترحة
تكثيف وتعدد أطر التعاون والتنسيق الأمنى المشترك مع دول الجوار
زيادة وتنوع نقاط الارتباط مع المخابرات السودانية والليبية، مع تفعيل دبلوماسية وقائية بإرسال رسائل مسبقة إلى الدول والمنظمات بشأن الإجراءات المصرية لحماية الأمن القومي مع الحفاظ على الحقوق.
تحرك دبلوماسي مزدوج:
مخاطبة كل من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية بشأن التحركات في المثلث الحدودي، والتهديدات القادمة من الخارج، ومن ورائها، وحق مصر في حماية حدودها الجنوبية.
التعامل مع قافلة الصمود ضمن إطار أمني – دبلوماسي متكامل، عبر:
- إصدار بيانات توضيحية تبرز الموقف الرسمي والغرض من التحرك.
- التنسيق مع الدول التي ينتمي إليها المشاركون لتحديد هوياتهم ومساراتهم.
- توثيق أي استفزازات وتصويرها كدليل مضاد في المحافل الدولية.
إطلاق غرفة رصد إعلامي فوري:
التعاون مع شخصيات حقوقية معتدلة، لتصحيح الرواية المصرية وتفكيك خطاب “الشيطنة الناعمة” الذي يسود في الإعلام الدولي.
تعزيز الخطاب السياسي المصري في الأروقة الدولية: من خلال متحدثين رسميين متخصصين قادرين على الجمع بين الحجة القانونية والموقف الإنساني المتزن، مع إعادة ضبط الخطاب الإعلامي الداخلي والخارجي: بما يوازن بين رواية الدولة والبعد الإنساني للحدث.
نشر تقارير دورية شفافة: توضح الإجراءات التي تتخذها مصر تجاه الوفود الدولية، بما يغلق باب التأويل والتشويه.
إشراك منظمات دولية معتدلة: في مراقبة ميدانية محدودة، لبناء مصداقية وتحقيق التوازن المطلوب بين السيادة والمساءلة.
في الختام، ما تمر به مصر ليس فقط اختبارًا لحدودها الجغرافية، بل لصلابة قرارها السياسي واستقلالية رؤيتها الأمنية، بين أزمة العوينات وقافلة الصمود، تتبدّى معركة غير تقليدية تُدار بأدوات غير نمطية، تستهدف صناعة صورة مهزوزة للدولة أمام شعبها والعالم؛ ولأن مصر دولة مركزية لا تملك رفاهية الانكفاء، فإن معركتها القادمة هي معركة إدارة الصورة، وتحصين القرار، واستباق الفعل، قبل أن يُفرض عليها ردّ الفعل.
الكلمات المفتاحية: