الجزء الخامس: “الوضع الجيوسياسى الراهن” ..
إن بناء استراتيجية متكاملة لمواجهة خطر النفوذ الإيراني بالمنطقة، يتطلب منها فهما للوضع الجديد الذي تعاظم فيه هذا النفوذ. ولم تعد فيه العواصم العربية الكبرى: القاهرة ودمشق، وبغداد لاعبين رئيسيين على المستوى الجيوستراتيجي؛ بعد أن حطم الصراع الطائفي بغداد، منذ انهيار نظام صدام حسين، 2003م، ودمرت الحرب الداخلة دمشق، منذ 2011م، وكفأت القاهرة على شواغلها الداخلية منذ ذلك التاريخ.
وفي المقابل كانت إيران وتركيا وإسرائيل ومعهم السعودية والإمارات وقطر تشهد نموا اقتصاديا كبيرا، أفضي بدوره إلى يتحولوا إلى فاعلين داخل البنية الإقليمية، بعد أن أصبحت اختلفت اختلافا ملموسا عما كان سائدا من قبل. ولكن الشيء الوحيد الذي لم يختلف فيها هو استمرار هيمنة الولايات المتحدة عليها، ومساعي روسيا للاستعادة نفوذها، ومحاولات صينية للتسلل إليها عبر الاستثمارات واتفاقيات التعاون الاقتصاد. وقد تمثل الفاعلون في الآتي:
القوى الكبرى
الولايات المتحدة: تراجعت عن قيادة عملية السلام في الشرق الأوسط وإدارة الصراع في جميع أنحاء المنطقة. وباستثناء القضايا المتعلقة بإيران، لم يعد لديها اهتمام كبير بالمنطقة. ولكنها ظلت في حالة حرب مع مجموعة من الأطراف بالشرق الأوسط، منذ عام 2003م، ومن ثم برز نمطان من التحولات النوعية، أحدهما هو الانهيار الأوسع للنظام الإقليمي والتكثيف الدرامي للعنف في المنطقة منذ أحداث الربيع العربي. والثاني، هو فرض الجهات الفاعلة الأخرى نفسها على عملية صنع القرار الإقليمي. ومع تلاقي هذين الديناميكيين تبلور الهيكل الجيوسياسي الجديد بالمنطقة.
روسيا: تسعى إلى كسب النفوذ على حساب الولايات المتحدة، ومن ثم دخلت المنطقة مجدداً وخاصة في سوريا، واتجه إليها قادة إقليميون، بينما لم يفكر إلا القليل منهم في اللجوء لواشنطن، وتوجهوا بدلاً من ذلك إلى موسكو حيث فلاديمير بوتين.
الصين: تتفوق على الولايات المتحدة كأكبر مستورد للنفط الخام من الشرق الأوسط، ولديها حصص هائلة في تدفق النفط من المنطقة، وعلى الرغم من أنها لا تلعب حاليًا دورًا مركزيًا في إدارة الشؤون الإقليمية، إلا إنها بدأت تستثمر في الأدوات التي يمكنها بمرور الوقت بناء النفوذ بالمنطقة، وتقوم ببناء روابط اقتصادية ودبلوماسية مع المنطقة، بما ينبئ أن تكون أكثر تأثيراً في المستقبل.
القوى الإقليمية
إيران: لاعب رئيسي على الرغم من المشاكل الهائلة التي تواجهها داخليا وخارجيا، إلا أن قراراتها تؤثر على الأحداث في جميع أنحاء المنطقة، وغالبا ما تلعب دور الخصم الرئيسي للولايات المتحدة، والقوة المهددة لأمن إسرائيل والدول العربية معا.
تركيا: اتجهت أكثر، في عهد الرئيس أردوغان، الذي يحتفظ بصلة وثيقة بالإخوان المسلمين، وقطر، نحو الشرق الأوسط والانخراط في القضايا والصراعات الإقليمية.
إسرائيل: ظلت مستقرة، وشهدت نمواً اقتصادياً هائلاً، وها هي تتبنى تحالفات متنامية مع الدول العربية، بسبب المتغيرات الإقليمية.
القوى العربية
السعودية: الدولة العربية الوحيدة التي تنتمي، وفق الإرادة الأمريكية، إلى أعلى مستوى في البنية الجيوسياسية في المنطقة.
الإمارات: أصبحت أبو ظبي تقوم بالدور الذي كانت تلعبه قطر من قبل، فلديها نفوذ كبير وتسيطر على الكثير من الموانئ في القرن الإفريقي، وتسيطر في اليمن أكثر من أي بلد آخر، ولديها علاقة عدائية مع إيران. على عكس دبي، التي لديها وجهات نظر مختلفة في السياسة الخارجية، إذ تريد أن تكون لإيران مثل ما تمثله هونج كونج أو سنغافورة بالنسبة إلى الصين.
قطر: دولة صغيرة تلعب دوراً دبلوماسياً كبيرا مقارنة بوزنها الفعلي في المنطقة، ولا تزال مستمرة في لعب هذا الدور، ولكن بدرجة أقل بكثير. لا تزال تتوسط في العديد من البلدان، بما في ذلك غزة وتركيا والولايات المتحدة، وأماكن أخرى في المنطقة. لقد قاموا فقط بالتخفي لعدم لفت الانتباه لهم.
مصر: تراجع دورها من كونها الفاعل الأكثر ديناميكية في العالم العربي منذ الخمسينات حتى وقت قريب، باستثناء الصراع الذي يحدث على حدودها اليوم، لا تزال تريد أن تكون لاعباً رئيسياً؛ لأنها أكبر من أن تظل ساكنة.
ولدى كل من الجهات الفاعلة الرئيسية بالمنطقة أهداف إستراتيجية متميزة، فمثلا تسعى إيران والمملكة العربية السعودية لتحقيق التوازن بينهما، بينما تسعى إسرائيل إلى مواجهة طموحات إيران النووية والإقليمية، وتشارك في إدارة الصراع بدلاً من حل النزاع مع الفلسطينيين. وتشترك مع المملكة العربية السعودية في الهدف الاستراتيجي لاحتواء إيران. بينما أدى الانشقاق في مجلس التعاون الخليجي إلى تقوية الروابط بين تركيا وقطر من ناحية، وتوثيق علاقات قطر مع إيران، من ناحية أخرى.
ركائز النفوذ الإيراني
الركيزة الأولى: العراق
كان إسقاط نظام صدام حسين، وتفكيك أجهزته وتقويض مؤسساته وتدمير الجيش العراقي من أهم الإنجازات، التي كانت تمثل تطلعا استراتيجيا ملحا بالنسبة لإيران، حتى ولو تطلب الأمر تعاون تكتكي مع الولايات المتحدة؛ إدراكا منها لما يلي:
– أن ما يقرب من 60٪ من العراقيين من الشيعة.
– يمثل شيعة العراق وزنا ديمغرافيا مهما يساهم في تعزيز قدرة إيران على التدخل بقوة في الشؤون العراقية.
– يتمتع شيعة العراق، بوصفهم أهم جماعة شيعية بالوطن العربي، بمكانة بالغة الأهمية على المستوى الجيوسياسي.
– أن تمركز الشيعة بشكل رئيسي بالبصرة والنجف وكربلاء في الجنوب، عند مصب الخليج العربي، منحهم شكلا من أشكال التكامل الجيوسياسي المفترض مع شيعة المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية ولبنان وسوريا.
– يمكن لإيران زيادة وزنها النسبي بمنطقة الخليج عبر توظيف الموقف الاستراتيجي لشيعة العراق، بعد أن جعلت انتماءاتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والاجتماعية والأمنية والعسكرية جزءًا من محور المقاومة.
وبالتالي، حاولت طهران دائمًا تصوير العراق على أنه ورقة رابحة أمام الولايات المتحدة، خاصة أنهها انتهزت الفرصة لملء الفراغ الناجم عن انسحاب القوات الأمريكية منه في عهد أوباما؛ لتؤكد أن العراق يمثل بالنسبة لها عمق استراتيجي ونفوذ سياسي وأمني، يجب أن تتمتع فيه قدر كبير من القوة والنفوذ. فأسست، بفتوى من آية الله السيستاني، ميليشيات الحشد الشعبي بوصفها أوضح نموذج يتم تطبقه على غرار الحرس الثوري، ثم فرضت ضمه لوزارة الدفاع العراقية، كما جعلت من حزب الدعوة أقوى حزب شيعي بالعراق، والذي شكل بدوره ائتلافًا سياسيا واسعا يسمى فتح بقيادة هادي العامري.
نقاط القوة
وتعمل إيران اليوم على الترويج لفكرة ملتبسة مفادها أن العراق كان تاريخيا جزءا من إيران؛ بهدف طمس هويته العربية، عبر تزييف وعي الأجيال العراقية الشابة التي ولدت زمن دمار الديار وضياع الأوطان. من خلال الأنشطة التالية:
التأصيل لشواهد الحضارة الإيرانية بالعراق، بزعم أنه ذاخر بآثار الحضارة والثقافة الإيرانية وبعاداتها وتقاليدها، حتى أن كلمة “العراق” هي كلمة فارسية الأصل، معربة من كلمة “أراك”.
الزعم بأن الحوزة العلمية بالنجف ظلت تقوم على فقه تقليدي لم يصنع للشيعة مكانة تُذكر بالعالم، حتى أحدثت أطروحات الخميني حول الحكومة الإسلامية، المفندة لمسألة فصل الدين عن السياسة من خلال ولاية الفقيه، منعطفاً في تاريخ الفقه الشيعي، خاصة أن مقولاته تلك كانت محملة بمفاهيم الخروج على الطاغوت. وهو الزعم الذي تستهدف إيران منه التأصيل لفكرة أن النجف لم تعد محور توجيه عموم الشيعة في العالم، بعد أن انتقل إلى قم التي أصبح لديها باحثين أكاديميين وعلماء لديهم القدرة على إحداث التغيير السياسي على المستوى الداخلي وإدارة الصراع على المستوى الخارجي.
نشر اللغة الفارسية لتسهيل تلقي رسائل طهران السياسية وقيمها الثورية، بما يسهم في التحكم الاتجاهات العامة للعراقيين.
التأسيس لوحدة ثقافية واجتماعية وسياسية بين البلدين، يمكن استخدامها في المساومات السياسية لصالح إيران.
تكوين كوادر عراقية تكون على مقربة من إيران، من خلال استقطاب الطلاب العراقيين للدراسة بالجامعات والمعاهد الإيرانية.
قيام المؤسسات والهيئات الإيرانية بتنفيذ العديد الفعاليات الثقافية المتنوعة، مثل الحفلات الفنية، والندوة العالمية للتقارب بين الأديان الإسلامية، والندوة العالمية لأهل البيت، والندوة العالمية للدراسات الشيعية، وجمعية الصداقة الإيرانية العراقية التي تتمتع بتأثير إيجابي في تعزيز التضامن السياسي والثقافي بين البلدين وبالتالي زيادة نفوذ إيران بالعراق.
نقاط الضعف
هناك مجموعة من المؤشرات الدالة على أن النفوذ الذي تسعى إيران لترسيخه بالعراق، هو نفوذ متآكل بذاته وسيشهد تراجعا تدريجيا، خاصة أنه يعاني الكثير من نقاط الضعف، منها:
اختلاف طبيعة نظامي الحكم، فالنظام العراقي فيدرالي يجمع السنة والأكراد مع الشيعة في هياكل السلطة، بينما لا يسمح النظام الإيراني بذلك.
تتمتع التيارات السياسية والحزبية بحرية العمل داخل العراق، وهو ما لا وجود له في الحياة السياسية الإيرانية.
اختلاف موقف الحوزة العلمية بالنجف عن نظيرتها بقم ومشهد، حول ولاية الفقيه، وبالتالي لا يمثل الإسلام السياسي أي أولوية للشعب العراقي، على عكس اعتقاد بعض عناصر السلطة السياسية العراقية، المرتبطة بإيران أو الموالية لها.
انفضاض بعض التيارات الشيعية القوية، مثل تحالف سائرون بقيادة مقتدى الصدر، من حول إيران، والعودة إلى عروبتها.
انكشاف دورها المشبوه بالعراق أمام أهل السنة، بينما يكتنف الغموض والتوتر علاقتها بالأكراد، ففي الوقت الذي تتمتع فيه بعلاقات جيدة مع عائلة طالباني وحزب الاتحاد الوطني، يشوب توترات والخلاف مع عائلة بارزاني والحزب الديمقراطي.
تردي سمعتها الاقتصادية مقارنة بمنافستها القوية تركيا، إذ تحظى السلع والبضائع التركية بسمعة جيدة للغاية لدى العراقيين، بينما تتصف نظيرتها الإيرانية بالرداءة والغش وانتهاء الصلاحية، وغالبا ما يتم إعادتها إلى إيران، أو تدميرها داخل العراق.
الركيزة الثانية: سوريا:
من المعروف أن ثمة حدثين أديا إلى التقارب بين إيران وسوريا، بعد الثورة الإيرانية، الأول تمثل في مساندة دمشق لطهران طوال الحرب العراقية الإيرانية، والثاني تعاون البلدين في دعم عناصر حزب الله أثناء اجتياح إسرائيل للبنان (1982م) ولذا وقع البلدان، في نفس العام، أول اتفاقية عسكرية واقتصادية بينهما. وكان التعاون بين طهران ودمشق يتلخص في ثلاثة عناصر رئيسية: مواجهة نظام صدام حسين في العراق، ومجابهة النظام الصهيوني، وتعزيز المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين.
الإدراك الإيراني لسوريا
ترتكز تصورات إيران الاستراتيجية لبناء نفوذها الإقليمي بناء على إدراكها الصحيح لأهمية سوريا ومكانتها، ومن ثم الاستخدام الأذكى لموقعها؛ الذي جمع كل الخصائص الجيوستراتيجية الجيوسياسية والجيوقتصادية للمنطقة، التي تحتاجها إيران، فضلا عن أنها تعد مركز الاتصال الحيوي بين القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا. وبالتالي تمثل ركيزة إقليمية بالنسبة لإيران؛ وتعزيز نفوذها فيها يمكن أن يقلل من هامش المناورة السعودية ضدها، ويوسع أمامها هامش المناورة أمام الولايات المتحدة وإسرائيل.
ولذلك تؤمن طهران أن أي محاولة لزعزعة استقرار حليفها السوري يهدف بالدرجة الأولى تقويض نفوذها الإقليمي وإضعاف محور المقاومة الرئيسي. ولم لا وهي تدرك أيضا أن سوريا تبنى استراتيجية تصب في مصلحتها، هي استراتيجية البحار الخمسة للربط بين (المتوسط والأحمر والخليج العربي والأسود وقزوين) سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بوصفها منطقة تمتلك عوامل النهضة والتنمية، ومن حقها توحيد جهودها لحماية شعوبها وتحقيق مصالحها، وبالتالي مواجهة المشروع الأمريكي -الإسرائيلي، الذي يعمل على تفتيت المنطقة، ويسعى إلى إفشال كل جهد وحدوي فيها. إلى جانب أن سوريا تمتلك الميزات التالية:
موانئ وشواطئ على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بطول 186 كم، من شأنها تسهل وصول الصادرات الإيرانية إلى أسواق شمال إفريقيا وأوروبا، وتخفض تكلفة وصولها أيضا إلى مياه المحيط الأطلسي وأمريكا اللاتينية عبر البحر المتوسط.
حدود مشتركة مع تركيا، هي فرصة لإيران لكبح نفوذ تركيا ووجودها في سوريا والمنطقة.
حدود مشتركة مع إسرائيل، بما يمثل فرص جيوسياسية مؤثرة لإيران؛ يجعلها قادرة تطويقها والحد من تهديداتها.
تمثل أفضل الطرق لتقديم الدعم لفصائل المقاومة؛ نظرا لأنها تمتلك حدودا مشتركة مع كل من العراق ولبنان وفلسطين.
الانخراط بالأزمة السورية
عندما بدا لطهران أن الاحتجاجات التي قامت في سوريا بتاريخ 26 يناير 2011م، ضد الرئيس بشار الأسد لم تكن بفعل قوى المعارضة الداخلية فقط، بقدر ما كانت بفعل تورط الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر فيها؛ هرعت إلى نجدة حليفها الاستراتيجي. وكانت سرعة استجابتها تلك، تقف وراءه أسباب عدة، منها:
أولا: الحفاظ على هيبة إيران الإقليمية بتقديم الدعم اللازم لأهم ركائز محور المقاومة؛ لإبقاء ميزان القوى لصالحه؛ لأن الإطاحة بالنظام السوري؛ يعني خسارة حليفها العربي الوحيد، ومن ثم ضعف الوزن النسبي لنفوذها الإقليمي.
ثانيا: العمل على الحفاظ على أمنها الداخلي بالإبقاء على أي صراع مسلح خارج حدودها، لاعتقادها أنها مستهدفة استراتيجيا من أعدائها، وأنها إذا لم تحاربهم في سوريا، فستكون مضطرة إلى محاربة الإرهابيين التابعين لهم داخل إيران.
ثالثا: زيادة قدرتها على تخريب أي عملية تسوية نهائية تهدد مصالحها بسوريا، ومنع أي تحرك يهدد أمنها. ناهيك عن أن تعزيز وجودها العسكري بسوريا سيضعف أي وجود عسكري آخر يهدد حزب الله في لبنان أو طرق إرسال الإمدادات له.
رابعا: السيطرة الكاملة على أنشطة الفصائل والمليشيات العسكرية السورية، بما يضمن لها القدرة على تأسيس حكومة ظل تعمل على تحقيق أهداف طهران الجيوسياسية.
واستنادا إلى ما سبق، نجحت إيران في إعادة بناء جهاز الأمن السوري بطريقة أفضت إلى هيمنتها على شؤون سوريا السياسية والعسكرية والأمنية. كما تمكن الحرس الثوري من إحكام قبضته على أهم أركان السلطة والحكومة، لدرجة أنه في حال حدوث أي تغيير سياسي محتمل في دمشق، لن تواجه مصالح إيران أي مشاكل. كما تمكنت أيضًا من إجبار الحكومة السورية على منح الجنسية لعشرات الآلاف من الشيعة العراقيين والإيرانيين واللبنانيين؛ الأمر الذي يعزز من فرص إيران لمزيد من التدخل في سوريا باسم حماية هؤلاء الشيعة المستضعفين في المستقبل.
التحديات
على الرغم من تزايد أهمية سوريا بالنسبة لإيران، فيما يتعلق بالالتفاف على العقوبات القصوى التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب لإحكام الضغوط الأمريكية اقتصاديا وسياسيا عليها. إلا الظروف الداخلية في سوريا بات يحتم عليها عدم الاكتفاء بعلاقاتها مع دولة واحدة في المستقبل؛ نظرا لأنها في حاجة أكثر لعلاقات اقتصادية وثقافية أكبر وأوسع. وبالتالي يرى الخبراء الإيرانيون أنه إذا أرادت طهران أن تحافظ على تحالفها مع دمشق على المدى البعيد، فعليها أن ترتبط معها بأبعاد جديدة ومختلفة؛ لأن انخراطها العسكري والأمني المساند للرئيس بشار الأسد لم يعد كافيا لاستمرار التحالف بينهما في المستقبل.
أ. قوة المنافسين
إذ تشكل تركيا، التي تتمتع بتأثير كبير على الاقتصاد السوري، تهديدا لمستقبل تأثير إيران الاقتصادي على سوريا، إذ يمكنها أن تحرم إيران من السوق السورية البالغ قيمتها 400 مليار دولار، كما يمكنها (بفضل صادراتها التي تبلغ 20٪ من إجمالي الواردات السورية) التأثير على سياسة سوريا الخارجية فيما يتعلق بمحور المقاومة. خاصة أن تأثير إيران الاقتصادي في سوريا ضئيل، وفقا لإحصاءات عام 2019م، التي تشير إلى أن صادراتها إلى سوريا لم تتجاوز 3٪ من إجمالي الواردات السورية، مقارنة بروسيا التي تمثل صادراتها إليها 22٪، والصين التي تمثل صادراتها 11٪، وهو الأمر الذي سوف يمثل تحديا لإيران، لا سيما بعد أن نجحت كل من روسيا والصين في اختراق الأسواق السورية بقوة وتمتعت منتجاتها فيها بقبول يفوق منجاتها.
ب. صعوبات التصدير
أشار الخبراء الإيرانيون إلى أن حركة الصادرات الإيرانية إلى سوريا تعاني من صعوبات عديدة، منها:
وجود مشكلة تتعلق بعملية العبور البري بين إيران والعراق وسوري.
تعطل المعاملات المصرفية بين البلدين بفعل العقوبات الاقتصادية.
عدم تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين.
عدم توفر معلومات كافية عن الوضع الاقتصادي والتجاري في سوريا.
عدم وجود تغطية ائتمانية رجال القطاع الخاص و …الخ.
الفرص
يرى الإيرانيون أن حل مشكلة حركة التجارة بين البلدين يكمن في العمل على إنشاء خط سكة حديد خرمشهر -البصرة -اللاذقية، نظرا لأن الطريق البحري بندر عباس -اللاذقية ليس فعالاً من حيث التكلفة. وسيكون الخط الحديدي محور عبور استراتيجي للصادرات الإيرانية في المستقبل، ليغطي الأسواق العراقية والسورية، ويمكن لإيران أن تزيد حصتها بالسوق العراقية والسورية. زيادة كبيرة، والوصول إلى الأسواق في لبنان وشمال أفريقيا وأوروبا. خاصة أن الصين أعربت عن اهتمامها، في إطار أن إيران ستصبح، بموجب اتفاقية التعاون بينهما، جسراً بين شرق آسيا والبحر الأبيض المتوسط، وبالتالي يمكنها الوصول إلى أسواق شرق آسيا وتحسين إستراتيجيتها المواجهة للشرق.
تفعيل دور هيئة تطوير العلاقات الاقتصادية مع العراق وسوريا، بهدف إزالة العقبات أمام تطوير التجارة الإيرانية مع البلدين، من خلال:
إنشاء قاعدة البيانات المشتركة اللازمة للمستثمرين بالقطاعين العام والخاص.
تشجيع مشاركة القطاع الخاص.
إنشاء خطوط ائتمان بنكية لتسهيل المعاملات المالية.
زيادة التعاون في مجال الطاقة والهندسة والتعدين.
إنشاء قنوات اتصال برية وجوية وبحرية.
تفعيل الاتفاقات السابقة بين إيران وسوريا، مثل: مذكرة التفاهم الموقعة بشأن التعاون الصناعي، واتفاقية التجارة الحرة.
الركيزة الثالثة: اليمن
تتمتع جمهورية اليمن، بفضل موقعها الاستراتيجي الخاص بأقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، فشمالها المملكة العربية السعودية، وجنوبها خليج عدن وبحر العرب، وشرقها سلطنة عمان، بينما تطل من الغرب على البحر الأحمر. حيث مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات المائية الذي تمر منه الطاقة إلى العالم، الذي يربط المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس. وهو الموقع الذي جعل اليمن ساحة صراع محلي وإقليمي. ولهذا، حظيت باهتمام كبير لدى طهران منذ زمن طويل؛ أرسل الشاه بموجبه قوات لتدريب الجيش اليمني البسيط، خوفا من تزايد قوة اليمن الجنوبي الذي كان تحت الحكم الشيوعي.
ولأسباب تتعلق بالموقع، تحولت اليمن خلال السنوات الأخيرة، إلى ركيزة إيرانية لتهديد للمنطقة العربية، بفعل الدعم الكبير الذي تقدمه لمليشيا أنصار الله الحوثية، الذي وظف هذا البلد الفقير في معادلة نفوذها الإقليمي، بإضافته إلى محور المقاومة، مع العراق وسوريا ولبنان. وهو الأمر الذي يمثل تهديدا مباشرا للمملكة العربية السعودية، ولمنطقة قناة السويس بشكل غير مباشر.
المخاوف السعودية
1. أن إيران تريد حكم اليمن من خلال الحوثيين، وأنها تسعى إلى استخدام اليمن ورقة ضغط عليها.
2. أن الشيعة اليمنيين ممثلين لإيران، وأنها تسعى إلى نشر التشيع السياسي على حدودها الجنوبية.
3. تشكل الامتدادات القبلية المعقدة عند الحدود بين اليمن والسعودية، مخاوف سعودية من احتمال سعي الحوثيين لاختراق المجتمع السعودي، انطلاقا من وجازان، ومن نجران التي تشكل المعقل الأساسي للطائفة الإسماعيلية بالمملكة، لتشكيل حزام شيعي يمتد من نجران إلى جازان بالسعودية، ومن صعدة إلى حرب ثم ميدي باليمن. خاصة أن الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، سبق وحذر من ذلك، في بداية معاركه السادسة مع الحوثيين، عام 2009م، كما أن الواقع السياسي الذي يفرضه وجود علاقات بين معظم الشيعية بالمنطقة مع إيران، يزيد من المخاوف السعودية، لا سيما في ظل التباعد الواضح بين الرياض وطهران حول ملفات المنطقة.
4. أن تنامي نفوذ إيران الجيوشيعي بالعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن؛ يفرض معادلة توازن استراتيجي مضاد لها المنطقة الملاصقة لحدودها الجنوبية، وهو الأمر الذي يمثل تهديدا حيويا.
5. أن استمرار هيمنة الحوثيين على مضيق باب المندب الاستراتيجي، جنبا إلى جنب مع سيطرتها على ميناء الحديدة، تعني:
– تأكيد نفوذ إيران الإقليمي.
– يغير ميزان القوى لصالحها ويوسع دائرة نفوذها السياسي.
– سيطرتها على الحركة البحرية العابرة من الخليج العربي إلى قناة السويس.
– زيادة قدرتها على المساومة في مواجهة الخصوم.
وقد اضطرت المملكة العربية السعودية للتدخل العسكري باليمن، في مارس 2015م، لكبح النفوذ الإيراني، بعد أن شعرت أن الحوثيين، كوكيل لإيران، كانوا يحاولون السيطرة على الوضع في اليمن كله من جانب واحد.
الأهداف الإيرانية
تتلخص الأهداف الإيرانية، من وراء تقديم الدعم الكامل لأنصار الله الحوثية، فيما يلي:
1. تطويق السعودية سياسيا واقتصاديا من جهة الجنوب، استكمالا لتطويقها من جهة العراق والبحرين وسوريا ولبنان.
2. تعظيم دور الأقلية الشيعية باليمن في الحياة السياسية اليمنية، من خلال:
– تقديم أشكال الدعم اللوجيستي والسياسي كافة إلى أنصار الله لتحقيق مطالبهم ـ بوصفها مطالب مشروعة.
– توفير وسائل الإعلام، ومنصات التواصل، ومواقع الاليكترونية ذات التوجه الإيديولوجي؛ لاستقطاب الرأي العام.
– اتخاذ أنصار الله وسيلة لتقليص النفوذ السعودي والعربي باليمن، وقناة لتمرير التسلل الإيراني داخله.
3. محاولة التحكم في المناطق الإستراتيجية الحساسة، التي تتمتع بأهمية كبرى في نظر الدول الأوربية الكبرى بالأخص، في المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر ولاسيما الجزر الإستراتيجية المهمة، مثل: البريم وزقر وكمران وجبل الطير، وباب المندب، وممر باب الإسكندر وممر ميمون المائيين. وهي جميعا تراقب وتتحكم في الأنشطة البحرية المختلفة في المنطقة. وبالتالي تكتمل قبضة إيران على المنطقة العربية وتصبح هي الفاعل الأول والأساسي في اتجاهاتها السياسية الاقتصادية والفكرية.
4. تحويل أنصار الله إلى لاعب رئيس في اليمن؛ سيؤدي تلقائيا إلى تعظيم دور إيران في النظام السياسي اليمني وسياسته الخارجية، ومن ثم يكتمل تطويق محور المقاومة لشبه الجزيرة العربية والمنطقة العربية، من خلال التحكم في مياه الخليج العربي، والممرات والجزر الإستراتيجية بالبحر الأحمر، إلى جانب منفذه المهم على البحر المتوسط عبر لبنان وسوريا.
الوسائل الإيرانية
تبنت إيران تصورات خطيرة لدى تعامله مع اليمن؛ بعد أن رأت أن المبادرة السعودية، لتقسيم الدولة إلى 6 أقاليم داخلية، ذات حكم ذاتي، لم تمنح الشيعة أي مكاسب؛ ومن ثم استغلت الخطأ الاستراتيجي السعودي بالتدخل العسكري في اليمن لتعمل على تحقيق أهدافها المشار إليها سلفا، عبر الوسائل التالية:
1. تحول اليمن إلى ما يشبه أفغانستان بالنسبة لروسيا أو فيتنام جديدة بالنسبة للقوات السعودية، التي لا طاقة لها ولا خبرة كافية لديها لمواجهة مثل هذا النوع من الحروب، مقارنة بخبرات إيران المكتسبة من الصراع في لبنان والعراق وسوريا.
2. إعادة تأهيل مينائي صنعاء والحديدة، كي تصبح قادرة على استقبال شحنات الأسلحة والإمدادات إلى أنصار الله.
3. استدراج أي قوات خارجية تتصور أنها يمكن أن تدخل إلى ميدان الصراع باليمن، إلى مواجهة طويلة؛ تستغلها أنصار الله لتوطيد مكانتها لدى الشعب اليمني؛ استنادا إلى أنها قوات وطنية تدافع عن التراب الوطني ضد الغزاة.
4. العمل على تشكيل جبهة داخلية قوية ومتماسكة تلتحم فيها قوات أنصار الله بالقبائل التي تضررت مصالحها من استمرار القتال، مع القبائل السنية المؤيدة لإيران؛ لاعتقادهم أن السعودية تتغطرس على بلادهم. إضافة إلى الأيدي العاملة التي تعرضت مصالحها للضرر بسب سوء المعاملة، أو الطرد من أعمالهم لأسباب مواقف مختلفة.
5. تصوير القوات اليمينة المقاتلة ضد هذه الجبهة على أنهم عبارة عن مرتزقة تعبر عن مواقفها، بقدر ما تتلقى من أموال سعودية، التي نشرت الفكر الوهابي المتطرف وعناصر القاعدة باليمن وهو البلد المسالم الوسطي الذي لم يعرف الغلو يوما.
6. إطالة أمد الحرب؛ لتكبيد السعودية خسائر فادحة بالمعدات والأفراد، بغرض تصدير القلق إلى المجتمع السعودي، وتحويل عاصفة الحزم إلى مغامرة رعناء تزيد من حالة الاحتقان الداخلي ضد الملك سلمان وابنه ولي العهد.
7. إثارة قضية الإشراف على الحرمين خلال الأشهر الحرم، والاستناد في ذلك إلى أحداث الحج الماضية، بما يعزز الرأي القائل بعدم قدرة آل سعود على حماية أمن المشاعر المقدسة في مكة والمدينة.
8. وضع الدراسات التي من شأنها تعميق الفجوة بين القبائل السعودية الكبيرة في كل فرصة تتاح، بما يؤدي إلى تفكيك الكتلة المؤيدة لآل سعود، وإشعارها بأن الميزات التي يتمتعون بها في طريقها إلى التلاشي. فضلا عن العمل على تعميق الخلاف بين القبائل اليمنية بالشمال الشيعية والزيدية والجنوب الشافعية، بما يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار.
9. تعميق المخاوف السعودية دينيا من الشيعة في جازان ونجران والمنطقة الشرقية، وزيادة مخاوفهم سياسيا من التفاهمات السرية مع الولايات المتحدة بما يعزز من مكانة إيران الدولية في ظل تراجع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وألا تعمل السعودية على إثارة موضوع الجزر الثلاث في المستقبل؛ ردا لجميل الإمارات في مساندتها لها في اليمن.
10. العمل على تقليص شعبية السعودية لدى الشعب اليمني، ومن ثم تقويض مكانتها السياسية والدينية التي كانت تتمتع بها، من خلال:
– تعبئة المشاعر السلبية لدى الوعي الجمعي اليمني ضد السعودية؛ بوصفها محتلة لأراضي يمنية منذ عام 1934م، (نجران وجازان وعسير).
– الترويج بأن سياسات السعودية تجاه اليمن هي التي رسخت جذور الفساد ودعمت استمراره بكل صوره وأشكاله في المجتمع اليمني؛ وتسبب شراؤها لولاء الزعامات القبلية (مثل صادق الأحمر زعيم قبيلة حاشد) والقيادات السياسية والعسكرية (مثل على محسن قائد القوات المسلحة السابق) في حدوث خلل بتوازن المجتمع القبلي.
– العمل على الربط بين الفكر السلفي الوهابي وبين التنظيمات التكفيرية والإرهابية في العالم الإسلامي، مثل القاعدة وداعش؛ بوصفها المنبع الأساسي والأول لظهور هذه التنظيمات؛ تمهيدا للقضاء على النفوذ العقيدي السعودي تماما في اليمن؛ الذي انتشر عبر أكثر من 20 ألف مسجد، و5 آلاف مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، وكلية ومؤسسة تعليمية سعودية. فضلا عن آلاف المكاتب الخيرية التي تأسست لنشر الفكر الوهابي التكفيري، حتى باتت بمثابة المفرخة الرئيسية للإرهابيين في المجتمع اليمني وفي العالم الإسلامي. خاصة أن هذه المؤسسات قد أسهمت بالفعل في تقليل عدد الشيعة في اليمن، ولاسيما بعد تأسيس دار الحديث وجامعة الإيمان في داماج.
– مد جسور تواصل إيران مع قبائل الشمال الكبرى غير حاشد: خيمه، أرحب، جهم، مذحج، سنحان، ومع قبائل الجنوب الكبرى: يافع، فضلي، ضالع، ردفان عواذل… الخ بغرض تحويل أبنائها إلى المذهب الشيعي الاثني عشري.
.. انتظروا الجزء السادس والأخير من الدراسة: “إستراتيجية مواجهة النفوذ الإيرانى” ..