عرف “تيموثي دبليو كروفورد” استراتيجية الوقيعة (wedge strategy) بأنها ‹محاولة زيادة قوة الدولة النسبية في مواجهة تهديد خارجي، وذلك من خلال منع تكوين تحالفات معادية، او من خلال اضعاف هذا التحالف، في حال نشوئه، من خلال الوقيعة بين أطرافه. وبتكلفة مقبولة›. وتتبع الدول هذه الاستراتيجية بهدف تقليل عدد الدول المنخرطة في تحالف معاد لها، أو على أقل تقدير إضعاف قوتها، من خلال الإيعاز الى بعض أطراف التحالف المعادي بالانسحاب منه، أو تبني موقف محايد. ولا يتوقف نجاح استراتيجية الوقيعة على تقديم الحوافز الاقتصادية، أو التهديد بفرض عقوبات، ولكن على توظيف تناقض المصالح بين الحلفاء لإضعاف التحالف المناوئ أو استغلال التقارب الأيديولوجي مع بعض القوى داخل الدولة المستهدفة.
يتضمن هذا التحليل استراتيجية الوقيعة التي تتبناها كل من تل أبيب وطهران، وكيفية قيام كل من إيران وإسرائيل بتطبيقها على نموذج الدول العربية وعناصر محور المقاومة، ومظاهر ذلك، وأهدافه، ثم فرص نجاح جهود كل منهما في تحقيق تلك الأهداف. وقد بدأت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، ثم اتسع نطاق المواجهات فيما بين الأطراف، وتصاعد حدتها وصولاً للقصف المباشر بين إيران وإسرائيل بشكل متبادل بينهما، وبلغ مرحلة سعى كلا البلدين لتفكيك تحالفات الآخر.
استراتيجية الوقيعة الإيرانية:
سعت الولايات المتحدة لدمج إسرائيل عسكريا مع الدول العربية وتكوين تحالف إقليمي أطلق عليه إعلاميا ‹الناتو العربي› يضم إسرائيل ودول الخليج الست بالإضافة إلى مصر والأردن، بهدف التصدي للنفوذ، أو العدوان او التهديد الإيراني. ومع اندلاع طوفان الاقصى وبداية عمليات إطلاق الصواريخ والمسيرات نحو العمق الإسرائيلي من كل من اليمن والعراق ثم من إيران نفسها، صار تشكيل هذا التحالف أكثر إلحاحا بالنسبة لإسرائيل؛ للتصدي للهجمات الموجهة ضدها والتي من المتوقع استمرارها وتصاعدها، كما أنها وجدت أن الوضع الراهن مناسبا لتشكيله، من حيث بروز تهديد الصواريخ والمسيرات التي مرت عبر سماء دول المنطقة، وتصوير إيران كمتورطة فيها عبر أذرعها الإقليمية. وما جلبته من تهديدات وعدم استقرار للمنطقة، مما يستوجب اصطفافا ضدها.
أرشيفية
وتدرك إيران، حتى في حال تشكيل هذا التحالف، أن احتمال حدوث تهديد عسكري حقيقي من الدول العربية للأراضي الإيرانية محدود، وأن هذه الدول سوف تتجنب ربط نفسها بمواجهات قد تحدث بين إيران وإسرائيل، وتدرك ايضا أن إسرائيل تهدف من محاولة تشكيل هذا التحالف توسيع عمقها الاستراتيجي على نحو يضمن لها قدرا من الحماية ضد أي هجمات سواء من إيران، أو من أذرعها. فكلما زادت فرص اكتشاف التهديدات ومنعها بعيدا عن إسرائيل كلما تقلصت قدرة إيران على المساومة. كما أن نشر انظمة الكشف والاعتراض الإقليمية سوف يجعل التهديد الإيراني أكثر تطورا وأكثر تكلفة أيضا. أي استدراج إيران المحاصرة اقتصاديا إلى سباق تسلح يستنزفها بما يفوق قدراتها، كما سيكون العمق الاستراتيجي للدفاع الجوي الإقليمي عنصر ردع عبر المنع deterrence by denial لأنه سوف يقلل بشكل كبير من فرص تحقيق الهجمات الإيرانية أهدافها.
وفي المقابل، سعت إيران إلى تحسين علاقاتها بالدول العربية فأبرمت اتفاق مصالحة مع السعودية برعاية صينية في 2023م، وكثفت مساعيها لتحسين علاقاتها مع مصر والأردن ودول الخليج، وفي إطار هذه المساعى أجرى وزيرا الخارجية ‹امير حسين عبداللهيان› وخليفته ‹عباس عراقجي› زيارات لبعض الدول العربية. وعندما نشب الصراع في غزة، رأت إيران أنه يمثل ظرفا مواتيا لتقويض أي تحالف إسرائيلي ضدها. خاصة في ظل تفاقم التوتر بينها وبين الدول العربية الناجم عن محاولة تصفية القضية الفلسطينية واحتمال توسيع المواجهات العسكرية على المستوى الإقليمي، وتزايد غضب الجماهير العربية. وهي عوامل منعت، في الوقت الراهن، أي تقارب بين العرب وإسرائيل. إضافة إلى أن إسرائيل تعمدت استفزاز إيران وجرها للحرب، على نحو مثل فرصة أخرى للتأكيد أن إسرائيل هي المصدر الحقيقي للتهديد الذي يستوجب الاصطفاف ضده، ومن ثم إبطال ذريعة تشكيل هذا التحالف الدفاعي ضدها. ومن ثم حمايتها من استهداف إسرائيل، والمحافظة على قدرتها على الردع، ومواصلة دعم أذرعها، وتوجيه ضربات مباشرة لعمق الإسرائيل، ومنعها من زيادة عمقها الاستراتيجي اللازم لها، ومن ثم ضرب أحد ركائز مفهوم الأمن الإسرائيلي الجديد وهو تحقيق عمق استراتيجي جديد من خلال انظمة الدفاع الصاروخي الأمامية وشراكات الدفاع الإقليمية.
استراتيجية الوقيعة الإسرائيلية:
في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، طالب وزير الخارجية الأمريكي ‹جون فوستر دالاس› زيادة حدة التوتر بين الصين والاتحاد السوفيتي، عبر زيادة الضغوط على الصين على نحو يدفعها إلى طلب دعم أكبر من موسكو، والذي سيرفضه بطبيعة الحال، بما يؤدي إلى تدهور العلاقات بين الجانبين. فتبنت واشنطن سياسات عدائية تجاه الصين، ورفضت موسكو زيادة دعمها العسكري والاقتصادي لبكين، عندها نجحت خطة دالاس. ولهذا تعد مثالا تاريخيا لاستراتيجية الوقيعة يشبه ما تقوم به إسرائيل تجاه محور المقاومة الموالي لإيران، لكن بأسلوب أكثر خشونة، عبر تكثيف الضربات والضغوط عليه وتكبده خسائر فادحة، وسعت نحو دفعه إلى طلب الدعم من إيران. لأن إسرائيل تدرك مدى تقلص الخيارات وحسابات المصالح والقدرات الإيرانية بلا شك سوف تحد من سقف تدخلها وتقديم هذا الدعم. وبهذا تحقق إسرائيل أهم عامل من عوامل نجاح استراتيجية الوقيعة، وهو اللعب على تناقض المصلحة وإبرازه.
كما زادت إسرائيل من فاعلية هذه الاستراتيجية بإبراز عجز مرتكزات المحور، بما فيهم إيران، عن تأمين أنفسهم وتوفير الدعم المتبادل لبعضهم البعض، وذلك عبر توجيه ضربات عسكرية في العمق الإيراني وتنفيذ عمليات اغتيال لأهم قيادات المحور، بل وتنفيذ احداها داخل طهران ذاتها، مسلطة الضوء على مدى اختراقها للمحور الإيراني من رأسه. وتحاول إيران تدارك ذلك، من خلال تبني خطاب داعم لمحورها بشكل مستمر والذي يصدر من أعلى المستويات في طهران، كما حاولت تقديم الدعم بالسلاح والخبراء، وصولا للتدخل المباشر من خلال توجيه ضربات للعمق الإسرائيلي مرتين في أبريل وأكتوبر 2024م
يعد سلوك إسرائيل تجاه سوريا مثالا لتطبيق استراتيجية الوقيعة، لأنه مازج بين الأسلوب الخشن hard hedging والأسلوب الناعم soft hedging، فقد كثفت ضرباتها العسكرية على الداخل السوري سواء ضد عناصر الحرس الثوري، أو ضد مقاتلي حزب الله، أو حتى ضد القوات السورية، كما شملت هذه الضربات مناطق سكنية بسوريا. كما عرضت، في نفس الوقت، رفع العقوبات عن نظم الرئيس بشار الأسد حسب يديعوت احرونوت بتاريخ 19 نوفمبر 2024م، إذا أوقف تهريب السلاح من إيران.
فرص النجاح:
فيما يخص فرص نجاح جهود الطرفين، فان الجهود الإيرانية تجاه تحييد الدول العربية ووقف تشكيل الناتو العربي هي الأقرب للنجاح الى الآن ووفق المؤشرات الظاهرة وكان آخرها دعوة ولي العهد السعودي المجتمع الدولي لإلزام إسرائيل باحترام سيادة إيران “الشقيقة” وعدم الاعتداء عليها وبرغم ذلك يصعب الجزم بنجاحها قبل نهاية الحرب ، لكن على الدول العربية استغلال الموقف في ترويض سلوك إيران وتوظيف سعيها هذا من أجل جني مكاسب سياسية واقتصادية، وأخذ ضمانات منها بخصوص أمن الدول العربية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، واحترام سيادتها وتطبيق سياسة حسن الجوار، وكذلك ما يخص أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي .
اما بخصوص الجهود الإسرائيلية لتفكيك المحور الإيراني فهي قد تحتاج الى جهد ووقت أكبر، مقارنة بالجهود الإيرانية، فهي قائمة وسوف تستمر، لكن سوف ترتهن نتائجها النهائية بكيفية سير المواجهات بينهما في الأيام المقبلة، وما سوف تسفر عنه. وهكذا سعى البلدان، استنادا إلى استراتيجية الوقيعة، إلى لحفاظ على أمنهما القومي والدفاع عن مصالحهما، عبر منع تشكيل تحالفات معادية أو تفكيك التحالفات القائمة.