بعد تسع سنوات من الوجود العسكرى الفرنسى فى مالى ، أعلنت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون وكندا، انسحابهم العسكرى من مالى وإنهاء العمليتين العسكريتين لمكافحة الإرهابيين “برخان” و”تاكوبا”، حيث ادعت فرنسا أن الشروط لم تعد متوافرة لمواصلة مشاركتها العسكرية بشكل فعال فى مكافحة الإرهاب فى مالى، وقررت بدء انسحاب منسق من الأراضى المالية لوسائلها العسكرية المخصصة لهذه العمليات.

وعلى الرغم من تأكيد الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أن فرنسا وشركائها ملتزمون بمكافحة العناص الإرهابية بمنطقة الساحل، إلا أن هذا الانسحاب سيكون له الكثير من التداعيات على انتشار الجماعات الإرهابية فى مالى ومنطقة الساحل الأفريقى، بما يؤثر على استقرار القارة السمراء وقد يحولها لبؤرة إرهابية تجمع التنظيمات الارهابية فى العالم.

لماذا انسحبت فرنسا…؟

شهدت العلاقة بين فرنسا والحكومة العسكرية فى مالى بقيادة العقيد أسيمى جويتا توتر كبير ، عقب قيام الأخير بانقلاب عسكرى فى مالى فى 25 مايو 2021 ،أطاح فيه بالرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار عوين ، ثم عُين العقيد هاشمى جويتا رئيسًا انتقاليًا من قبل المحكمة الدستورية بعد يومين من إعلان نفسه زعيمًا مؤقتا، وهو ما رفضته فرنسا خاصة بعد تراجع مالى عن اتفاق تنظيم الانتخابات الذى كانت مقررة فى فبراير 2022 وعدم إعادة السلطة إلى المدنيين، كما لجأ العقيد أسيمى جويتا إلى مجموعة فاجنر شبه العسكرية الروسية والتى تتمركز فى القاعدة 101 العسكرية القريبة من مطار باماكو بمالى.

أرشيفية

وعلى الرغم من أن الحكومة المالية تنفى وجود مرتزقة على أراضيها، ولكنها تعترف بوجود تعاون مع روسيا“، حيث أوضح سفير مالى لدى الأمم المتحدة أن ”المدربين الروس موجودون فى مالى لتقديم المشورة للجنود الماليين وتدريبهم على استخدام المعدات التى يتم الحصول عليها من روسيا.

ويرتبط قرار الانسحاب الفرنسى من مالى ، بفشل فرنسا وحلولها الأمنية فى مواجهة التنظيمات الإرهابية فى شمال مالى، بل توسعت العمليات الإرهابية فى جميع أنحاء مالى وانتقلت لدول الساحل الأفريقى (النيجر- تشاد- بوركينا فاسو- موريتانيا) فضلًا عن الانتشار لدول لم تكن تشهد عمليات إرهابية (كوت ديفوار- الكاميرون- بنين- الكونغو) أو ما يعرف بحوض بحيرة تشاد، هذا الانتشار الكبير وتضاعف حجم العمليات الإرهابية ، أكد أن التدخل العسكرى الفرنسى لم ينجز كثيرًا فى مهمته بل استغلته الجماعات الإرهابية لجذب الشباب الأفريقى، للانضمام لهذه التنظيمات تحت راية محاربة فرنسا التى تسعى لاستعمار بلادهم مرة أخرى.

كما شهدت فرنسا خسائر إقتصادية كبيرة بسبب عملية “برخان” كونها العملية العسكرية الأكبر التى تطلقها خارج أراضيها، حيث ارتفعت ميزانية العمليات العسكرية الفرنسية على الصعيدين الخارجى والداخلى، فضلا عن استمرار الخسائر البشرية، حيث قتل أكثر من 50 جنديا فرنسيا كانوا فى الخدمة فى الساحل الإفريقى، وأكثر من 8 ألاف شخص، معظمهم من المدنيين قتلوا فى مالى والنيجر وبوركينا فاسو منذ عام 2013، ونزوح مليون شخص بسبب القتال، وذلك وفق ما ذكرت صحيفة لوموند الفرنسية.

كما أن حالة الرفض التى يلاقيها التدخل الفرنسى فى مالى سواء من قبل الشعب المالى الذى يُحمل فرنسا مسؤولية تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية وانتشار الإرهاب ، وعدم النجاح فى منع الانقلابات المتكررة، مع استمرار الاتهامات الموجهة لفرنسا بوجه عام بتشكيل حكومات المنطقة وإسقاطها، أو من قبل الشعب الفرنسى الذى يرى أن جود فرنسا فى مالى استنزاف للجيش الفرنسى فى حروب لا تعود بالنفع عليهم، وهو ما عزز فكرة الانسحاب خاصة مع قرب الانتخابات الفرنسية فى أبريل 2022 وسعى ماكرون للفوز بولاية ثانية.

هل تعوض فاجنر غياب فرنسا…؟

بعد انسحاب فرنسا من مالى من المتوقع أن يتزايد دور مليشيا فاجنر الروسية، والتى يقدر تعدادها فى مالى بما يتراوح بين 350 و 400 مسلحًا ، فى دعم السلطة فى مالى ، ولكن مع ذلك لن تكون قادرة على مواجهة الجماعات الارهابية والمتمردين، وذلك لافتقادها الإلمام بالأوضاع فى مالى والتضاريس والحدود الشاسعة ، وطبيعة الصراع بين الجماعات المتمردة والارهابية والسلطات، إلا أن الوجود الروسى فى مالى قد يعزز من التفاوض مع التنظيمات الإرهابية خاصة فى ظل اقتراب الرؤى مع الحكومة المالية التى تواجه عزلة أفريقية ودولية ، كما أن روسيا لا تهتم بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو أمر يصب فى صالح النظام المالى الذى يقوده انقلابيون يواجهون الإدانة والتهديد.

تداعيات الانسحاب .. (ظهور فاعلين جدد وزيادة تمكين الجماعات المتطرفة)

بسبب استنزاف الجيوش الوطنية فى الساحل الأفريقى، بعد صراعها مع الجماعات الإرهابية التى سيطرت على مناطق شاسعة خلال السنوات الأخيرة، فمن المتوقع أن تزداد قوة هذه التنظيمات ووصولها لأراضى أخرى لم تكن تسيطر عليها وهو ما سيترتب عنه مزيد من الخسائر البشرية، ومنع الحكومات الأفريقية من الوصول إلى الموارد الطبيعية، فى الدول و الإضرار بالإنتاج الزراعى، وتراجع الاستثمارات الأجنبية والنمو الاقتصادى، فضلا عن زيادة أعداد النازحين واللاجئين إلى جانب تدمير هذه الجماعات للتراث الإنسانى، وخير دليل على ذلك هدم الجماعات الإرهابية فى مالى، الأضرحة والتماثيل التى تعد جزءا من الحضارة الإنسانية.

كما أن هذا الانسحاب قد يترتب عنه تفاوض حكومة مالى مع التنظيمات الإرهابية التى ستكون فى موقف قوة بعد الفشل الفرنسى فى القضاء عليها، وهو ما سيجعلها تتطلع للمشاركة فى السلطة بالشكل الذى يهدد استقرار وأمن منطقة الساحل الإفريقى.

ويؤثر القرار الفرنسى بالانسحاب على أمن واستقرار مناطق الجوار الجغرافى المباشر وغير المباشر، مثل الشمال الإفريقى وغرب القارة وشرقها، بالإضافة إلى منطقة حوض البحر المتوسط، والجنوب الأوروبى وذلك فى ضوء تشابك العديد من الملفات الأمنية الشائكة التى تمثل تحدياً مشتركاً لتلك المناطق.

ومن أبرز تداعيات هذا الانسحاب ترك المجال واسعا، لتدخل قوى دولية أخرى بينها روسيا والصين وتركيا فى القارة السمراء، وانهيار التوازنات القائمة فى العقود الماضية تدريجيًا ، خاصة فى ظل المساعى التركية لاستكمال توسعها الأمنى فى دول الساحل وتقديم مساعدات إنسانية، من خلال وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) ، إضافة إلى الإعلان عن شحن كمية واسعة من المعدات الطبية التركية إلى النيجر وتشاد، من أجل المساعدة فى مكافحة جائحة كوفيد-19،ومحاولاتها تأسيس موطئ قدم عسكرى لها فى النيجر، لتوسيع دائرة نفوذها من ليبيا عبر منطقة الساحل، وصولًا إلى قاعدتها العسكرية فى الصومال، وممارسة نفوذها الجيوسياسى فى منطقة الساحل.

لذلك يمكن القول أن الانسحاب الفرنسى سيترتب عنه عدم استقرار فى منطقة الساحل وتعزيز قدرات التنظيمات الإرهابية بالشكل الذى قد يصعب السيطرة عليها وذلك فى ظل تفوق هذه التنظيمات وتدريبها وحصولها على أسلحة متقدمة وإمكانيات تفوق قدرات الجيوش الأفريقية فى الساحل وذلك وفق ما صرح به رئيس النيجر محمد بازوم.

اثر الانسحاب الفرنسى على أمن مصر القومى

على الرغم من عدم وجود حدود مباشرة لمصر مع مالى و تشاد والنيجر ، إلا أن خطر انتشار التنظيمات الإرهابية يكمن فى تهديدها لحدود ليبيا، التى يرتبط أمن مصر القومى بأمن الحدود معها وهو أمر من أولويات السياسة الخارجية المصرية فى هذه المرحلة التى تسعى فيها مصر لمساعدة الليبيين على مواجهة الارهاب وتحقيق الاستقرار الأمنى والسياسى.

لذلك فإن هذا الانسحاب سوف يزيد من قدرة التنظيمات الإرهابية في جنوب ليبيا والميلشيات التابعة لتنظيمي داعش والقاعدة المنتشرة في دول الساحل الأفريقى تحديداً، بحيث يكون هناك انتشار من جنوب غرب ليبيا مروراً بتشاد والنيجر وشمال نيجيريا وشمال بوركينافاسو ومالى وصولاً إلى المحيط الأطلنطى حيث يمثل هذا الانتشار على الحدود بين بعض هذه الدول، مناطق ارتكاز خطرة للتنظيمات الإرهابية، ويسمح لها بتواجد عدد كبير من العناصر الإرهابية والعتاد بها، لذلك فإن الانسحاب الفرنسى من مالى من شأنه تعقيد الأوضاع فى تلك المناطق، وفى القلب منها جنوب ليبيا ودول الجوار معها ومنها مصر.

وتدرك مصر خطورة التمدد الإرهابى فى الساحل الإفريقى وهو ما ظهر من خلال افتتاحها قاعدة 3 يوليو البحرية قرب حدود ليبيا لتمثل قوة ردع للمرتزقة من الأجانب أو التنظيمات الإرهابية التى مازالت متواجدة فى ليبيا أو دول الجوار لها، فضلا عن إعلانها بدء تفعيل “مركز مكافحة الإرهاب لتجمع دول الساحل والصحراء”، فى إطار الجهود لدعم قدرات الدول الإفريقية لتنسيق جهود الدول أعضاء التجمع، وتبادل المعلومات التى تعين هذه الدول على المواجهة الشاملة للإرهاب، وتدريب مصر لعدد من أفراد جيوش الساحل وتقديم الدعم اللازم لهم، والعمل من خلال رئاستها لمنظمة أجهزة الأمن والمخابرات الأفريقية “سيسا” هذه الدورة على التعاون بين أجهزة الأمن والمخابرات فى أفريقيا، وبحث المشاكل الأمنية، وعلى رأسها الإرهاب والعمل على وجود اليات لمواجهته.

ورغم هذه الجهود الحيوية التى تقوم بها مصر ، إلا أن مواجهة الإرهاب فى أفريقيا تحتاج لحلول جذرية للمشاكل التى تسببت فى انتشار الجماعات الإرهابية خاصة فى المناطق المهمشة والعمل على تنميتها ودمجها فى الدول الافريقية وتقليل الفجوة بين المركز والهامش، ووجود تكاتف إقليمى من خلال الإستراتيجية الافريقية لمكافحة الإرهاب التى دعت لها مصر، ولكن يجب توضيح ملامح هذه الاستراتيجية وآليات تطبيقها وكيفية توافق الدول الأفريقية المختلفة فى المصالح والرؤى حولها.

ختامًا يشكل الانسحاب الفرنسى بعد الإخفاق فى مواجهة الإرهاب، وترك دول الساحل الإفريقى وحدها فى مواجهة التنظيمات الإرهابية التى ازدادت قوة وإنتشارًا السنوات الماضية، بمثابة تراجع للقوة الاستعمارية السابقة التى بقيت رأس حربة فى العلاقات بين أفريقيا والاتحاد الأوروبى، وترك المجال لتدخل قوى دولية أخرى، كما أن مواجهة الإرهاب بشكل حقيقى لن يكون إلا بأيادى أفريقية خالصة باعتبار أن الدول الأفريقية أكثر المتضررين من انتشار هذه التنظيمات وزيادة خطرها.

 

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version