إن ما يحدث من حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة وما يحدث من قمع واعتقالات للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ قرابة عشرة أشهر، فضلا عن قيام إسرائيل باغتيال قادة المقاومة داخل فلسطين وخارجها، يحمل تداعيات استراتيجية خطيرة على المنطقة، لا سيما في ظل متغيرات إقليمية ودولية غير مسبوقة.
وإذا أردنا أن نستشرف سيناريوهات توسع المواجهات العسكرية في الشرق الأوسط يجب أولا أن نرصد المشهد الكلي على محورين أساسيين:
المحور الأول: يتعلق بالسياسة الداخلية الإسرائيلية، وهو المحور الأهم لأن إسرائيل، كما وصفها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، هي “دولة بلا سياسة خارجية” وأن انعكاسات السياسة الداخلية، هي التي ترسم سياستها الخارجية.
وإذا نظرنا لطبيعة الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو، سنجد أنه يتبني أجندة متطرفة، جراء انضمام “التيار الصهيوني الديني” الذي يشمل ثلاثة أحزاب وهي: حزب القوة اليهودية بزعامة وزير الأمن القومي بن جفير، وحزب الصهيونية الدينية بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش وحزب “نوعام” بقيادة آفي ماعوز.
ولا تكمن خطورة ائتلاف حكومة نتنياهو في الأحزاب الحريدية التي شاركت من قبل في حكومات سابقة ولم تشكل تهديدا للعرب والفلسطينيين والأقليات، بل يكمن الخطر الحقيقي في التيار الصهيوني الديني الذي يعد أخطر تيار ديني في تاريخ الدولة العبرية، وهو الآن يتحكم في سياسة نتنياهو ويهدد بإسقاطه إذا أوقف الحرب وإذا لم يواصل القضاء على المقاومة الفلسطينية وإقامة المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية وإسقاط السلطة الفلسطينية وفرض السيطرة الإسرائيلية على جميع الأراضي “الإسرائيلية التوراتية”. فضلا عن إعادة الحكم العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة وإعادة بناء المستوطنات اليهودية فيها، بل والسعي لاستعادة السيطرة على سيناء وإعادة إعمار مستوطنة ياميت.
معنى ذلك أن ائتلاف نتنياهو بمكوناته الحالية لن يُبرم أي صفقة لتبادل الأسرى ولن يوقف الحرب على غزة طالما بقي مقاوم فلسطيني واحد يدافع عن أرضه.
كما أن الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي يريد تغيير ملامح الشرق الأوسط ويرى أن حرب “السيوف الحديدية” – التي تشنها إسرائيل ردا على عملية “طوفان الأقصى”، الأكثر دموية في تاريخ الدولة العبرية- هي ليست مجرد جولة عادية من القتال ضد المقاومة الفلسطينية، بل هي حرب مع الشعب الفلسطيني كله إن لم تكن مع العرب جميعا، بمعنى أن الصراع بات صراعا حضاريا بين العرب واليهود. وعليه فإن إسرائيل تعتبر الحرب على غزة نقطة فارقة وفرصة لن تتكرر لتغيير ملامح الشرق الأوسط وإعادة توازنات القوى الإقليمية وتمكين إسرائيل من لعب دور الوكيل الأمريكي في المنطقة بعد انشغال واشنطن بملفات أخرى وعلى رأسها التصدي لتمدد النفوذ الصيني وإحباط الهجوم الروسي على أوكرانيا.
المحور الثاني: وهو المحور الإقليمي وفي مقدمته دول الطوق وهي مصر والأردن ولبنان وسوريا. فضلا عن إيران واليمن، والذي يتسم بحالة من الضعف الشديد نتيجة ما أصابه من أزمات اقتصادية ومجتمعية جراء تداعيات أحداث ما يُسمى بـ “الربيع العربي”.
– فيما يخص مصر، فإنها تمر بمرحلة حرجة نظرا لظروفها الداخلية بعد “ثورتي” 25 يناير و30 يونيو وما خلفتا من انهاك سياسي واقتصادي للدولة المصرية، فتراجع نفوذها الإقليمي لحساب دول أخرى مثل السعودية والإمارات. ولعل تراجع النفوذ المصري هو الذي دفع التيار الديني المتطرف للضغط على نتنياهو لاتخاذ خطوات تهدد اتفاقية السلام مع مصر مثل السيطرة على معبر رفح واحتلال محور صلاح الدين الملاصق للحدود المصرية، وذلك انتقاما من القاهرة التي رفضت تهجير الفلسطينيين قسريًا إلى سيناء، وانضمت للدعوى القضائية المقامة ضد إسرائيل في محكمة لاهاي. وبعد أن ساءت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب فقد أصبحت الأمور مرشحة لإمكانية التصعيد العسكري بين البلدين، خاصة أن القاهرة باتت تواجه مشكلة حقيقية في التعامل مع اليمين الديني المتطرف في إسرائيل لأنه غير قادر على تطوير خطابه الإعلامي والسياسي الذي يتبنى رؤية عقائدية توراتية يستحيل قبولها. ومن ثم فإن التحرك المصري وفق سيناريوهات جديدة ومختلفة قد يكون مفيدًا لحماية الأمن القومي المصري.
– وفيما يخص الأردن التي ينتمي كثير من مواطنيها إلى أصول فلسطينية فإن الغضب الشعبي من العدوان الإسرائيلي على غزة يجعل نظام الحكم الأردني في حرج شديد. كما أن الممارسات الإسرائيلية ضد القدس والمسجد الأقصى الخاضع لوزارة الأوقاف الأردنية، يؤثر سلبا على العلاقات بين الدولتين. وسيكون الوضع مرشحًا للتصعيد بحسب التطورات داخل الأرض الفلسطينية أو التطورات الإقليمية.
– أما الأوضاع في لبنان فهي مشتعلة بطبيعتها نظرا لوجود قوات حزب الله في خط المواجهة مع إسرائيل ومشاركته في الحرب منذ اليوم التالي لطوفان الأقصى وارتباطه بالمحور الإيراني. وإسرائيل من جانبها لن تغفر لحزب الله ما اقترف من هجمات على مناطقها الشمالية وتشريد مئات الآلاف من المستوطنين اليهود والذين لم يعودوا حتى الآن لمستوطناتهم. ولولا انشغال جيش الاحتلال بمواصلة الحرب على غزة لما تأخر عن شن هجوم كاسح على جنوب لبنان للانتقام من حزب الله. لذا فإن الحرب بين الطرفين قادمة لا محالة، لكن الوقت غير مناسب الآن للجيش الإسرائيلي. وفي حال نشوب حرب واسعة بين إسرائيل وحزب الله، سيشتعل التصعيد تلقائيا على الجبهة السورية التي تخضع للمحور الإيراني.
ماذا لو حدث صدام عسكري بين مصر وإسرائيل؟
مما لا شك فيه أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تود حاليا الدخول في حرب على جبهات أخرى وخاصة ضد الجيش المصري المُصنف كأقوى جيش في المنطقة، لكن احتمالات نشوب الحرب بين الطرفين قائمة وذلك لأسباب قديمة وأسباب حالية. فالأسباب القديمة تتمثل في العداء التاريخي لليهود تجاه مصر وذلك بسبب الموروث الديني التوراتي الذي يصف مصر بأنها أسوأ البلاد، جراء ما حدث للنبي إبراهيم وزوجته في مصر القديمة، ثم ما تعرض له اليهود من اضطهاد في عهد موسى عليه السلام. أما الأسباب الحالية فتتمثل في انتقادات المسؤولين الإسرائيليين لما يقوم به الجيش المصري من مناورات عسكرية وتطوير لأسلحته رغم اتفاقية السلام بين البلدين. وتأتي تلك الانتقادات في ظل سيطرة اليمين المتطرف على دوائر صنع القرار وهو ما قد يدفع لحرب فعلية بين مصر وإسرائيل، لاسيما مع وجود التيار الديني القومي المتطرف في سدة الحكم، وهو الذي دفع إلى التصعيد مع مصر وأصر على السيطرة على معبر رفح والاقتحام العسكري لمحور صلاح الدين وهو أيضًا الذي يتهم مصر بتسليح المقاومة ويدعو لاحتلال الضفة الغربية وغزة وينتقد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء. ولذا فإننا لا نأمن أي استفزازات عسكرية إسرائيلية ضد قواتنا على الحدود مع قطاع غزة.
ولا شك فإن أي حماقة عسكرية يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد قواتنا على الحدود تتطلب الاستعداد لاحتمالات الصدام العسكري، واستغلال أدوات غير تقليدية في الرد العسكري، إذ يُمكن استغلال الأنفاق الحدودية والميليشيات البدوية وقوات موالية لمصر داخل غزة، والاستعانة بمساعدات عسكرية خارجية مثل المسيرات التركية والدعم العربي والإقليمي.
فوائد الرد العسكري المصري!
ستحقق مصر الكثير من المكاسب الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية إذا ردت على الاستفزازات الإسرائيلية التي لا يمكن السكوت عليها. ومن بين تلك المكاسب:
- استعادة الردع المصري بعد استفزازات إسرائيلية عديدة، وبما يعزز من مكانة مصر الإقليمية والدولية، بعدما تراجعت أمام النفوذ الخليجي.
- تعزيز قدرة مصر على التدخل في مناطق الأزمات، وبما يدعم قدرتها على تحقيق الاستقرار في ليبيا والسودان وكبح جماح إثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة.
3- تعزيز مكانة مصر في نفوس الشعب المصري والشعوب العربية، بصفتها قائدة الأمة العربية، وبما قد يدفع نحو تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر من بعض الدول العربية والإسلامية.
4- الرد العسكري المصري سيمثل دفعة معنوية لدعم صمود المقاومة الفلسطينية التي باتت ثمثل الخط الأمامي لحماية الأمن القومي المصري.
خلاصة القول،
– رغم ضبابية المشهد وصعوبة التنبؤ بسيناريوهات اتساع رقعة الحرب على قطاع غزة، إلا أن احتمالات توسعها على جبهات أخرى واردة ومحتملة. فالحرب الحالية تتسم بنطاقها الاستراتيجي الواسع، بخلاف الحروب السابقة التي كانت قاصرة على جبهات مجاورة ولم تمتد إلى أرجاء الشرق الأوسط، مثلما حدث الآن من تعرض إسرائيل لهجمات الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق، فضلا عن المواجهة المباشرة التي وقعت لأول مرة بين إيران وإسرائيل، وهو أول صدام مباشر بين الدولتين فيما يُعد تهديدًا خطيرًا لمستقبل الدولة العبرية.
– رغم أن إسرائيل تركز في حربها الآن على الجبهة الجنوبية في قطاع غزة، إلا أن رقعة الحرب قد اتسعت بالفعل نحو الجبهة الشمالية مع تنظيم حزب الله في جنوب لبنان، وهناك صدام آخر يحدث بشكل يومي بين الشرطة الإسرائيلية والفلسطينيين في مدن الضفة الغربية الخاضعة للسلطة الفلسطينية. وبعد اغتيال إسماعيل هنية في إيران والهجوم الأخير الذي شنته إسرائيل على الحوثيين في ميناء الحديدة، أصبحت الجبهة مُشتعلة بين إسرائيل وإيران واليمن فيما يُنذر بتداعيات خطيرة على بعض دول الجوار وعلى رأسها السعودية.