تدور منذ أول ديسمبر الماضي مواجهات بين قوات أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، ومسلحي “كتيبة جنين” التي تسيطر على المخيم في الضفة الغربية وتضم عدة فصائل منها “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. وأطلقت قوات الأمن الفلسطينية على حملتها عملية “حماية وطن” لملاحقة من أسمتهم بالــ”الخارجين عن القانون”، بينما أسمتها كتيبة جنين حملة “ملاحقة المقاومين”. وتأتي تلك المواجهات والاتهامات المتبادلة بين السلطة الفلسطينية والفصائل المسلحة في وقت يواصل فيه جيش الاحتلال عدوانه الغاشم على الفلسطينيين في قطاع غزة وأرجاء الضفة الغربية، في ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة لا تفرق بين السلطة الفلسطينة وباقي الفصائل الأخرى، فالجميع في نظرها إرهابيون بمن فيهم السلطة التي تتبني خيار النهج السياسي. ويرفض الكثيرون في حكومة نتنياهو قيام أي كيان فلسطيني سواء بقيادة حركة حماس أو حركة فتح.
كيف ترى إسرائيل عملية جنين؟
تراقب الأجهزة الأمنية الإسرائيلية عن كثب ما ستسفر عنه عملية قوات الأمن الفلسطينية في مخيم جنين، خاصةً أنها تأتي في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد على يد تنظيمات مسلحة ينتمي بعضها لتيارات سلفية متشددة يتزعمها أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” الذي يرأس “هيئة تحرير الشام”.
ويرى المحللون الإسرائيليون أن العملية الأمنية الفلسطينية في مخيم جنين تحمل المؤشرات التالية:
١-تحديد مصير السلطة الفلسطينية
تاتي تلك العملية التي يشنها أبو مازن ضد المسلحين في المخيم بعد المخاوف التي انتابت السلطة في رام الله جراء السقوط السريع لنظام بشار الأسد على يد فصائل سورية لا تحمل سوى أسلحة خفيفة على غرار ما تحمله الفصائل الفلسطينية المسلحة في الضفة والقطاع. ولقد خرج المسلحون السوريون من إدلب متجهين نحو العاصمة دمشق وسرعان ما أسقطوا نظام الأسد الذي استمر لأكثر من خمسين عاما. وفي ظل تلك المخاوف، تسعى القيادة الفلسطينية لتعزيز مكانتها مع قدوم الرئيس ترامب من خلال سيطرتها على مخيم جنين، وإثبات قدرتها على الإمساك بزمام الأمور في قطاع غزة بعد أن ينتهي العدوان الإسرائيلي الذي بدأ منذ 15 شهرًا.
٢- حتمية الاستمرار
ترى تل أبيب أن عملية جنين الحالية تمثل اختبارا حقيقيا لزعيم السلطة الفلسطينية أبو مازن الذي يُصر على نزع سلاح مَن أسماهم “الخارجين على القانون”. لكن الشيئ الأهم لدى رئيس السلطة الفلسطينية لا يتمثل في مجرد نجاح تلك العملية التي أمر بشنها، وإنما في ضرورة استمرارها في أماكن أخرى بالضفة الغربية مثل مخيمات اللاجئين في طولكرم وطوباس. ولقد أعلن المسلحون في هذين المخيمين عن استعدادهما لصد أي اقتحام محتمل لقوات أمن السلطة الفلسطينية. والكل الآن يراقب ما يجري في جنين، “فإذا لم يتغلب أبو مازن على المسلحين هناك، حينئذ ستراود المسلحين فكرة الانقلاب على السلطة الفلسطينية لإسقاطها وسيمثل ذلك تطورا خطيرا”.
٣- لا خوف من سقوط السلطة!
بحسب المحللين الإسرائيليين فإن تل أبيب لا تتخوف من سقوط السلطة في رام الله، وإنما تتخوف من عملية استعراضية تستولي من خلالها إحدى التنظيمات على أحد مؤسسات السلطة الفلسطينية، بما يحمل ذلك من تداعيات خطيرة للغاية، وهو ما جعل السلطة الفلسطينية تطلق على المسلحين في جنين لقب “وكلاء إيران وداعش”، وذلك لتبرير عملية إطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين.
٤- التشابه بين السلطة ونظام الأسد
يرى بعض المحللين الإسرائيليين أنه من الصعب فصل العملية الأمنية الفلسطينية الاستثنائية في مخيم جنين عن سياق الأحداث الإقليمة، وعن السقوط السريع لنظام بشار الأسد في سوريا. حيث هناك الكثير من أوجه الشبه بين نظام بشار الذي سقط مؤخرا ووضع السلطة الفلسطينية بقيادة أبومازن. حيث تتولى السلطة الفلسطينية زمام الحكم منذ 30 عاما دون إجراء انتخابات، حتى أصبحت سلطة لا تحظى بتأييد شعبي، ولا تمثل سلطة شرعية لدى جيل شباب المخيمات، ومن هنا تأتي خطورة محاكاة الحالة السورية في الضفة الغربية.
٥– مخاوف أهالى الضفة
رغم المشاعر السلبية لدي فلسطينيي الضفة الغربية تجاه السلطة الفلسطينية، إلا أن هناك مخاوف شديدة تنتاب أهالي الضفة جراء المشاهد المروعة التي تأتيهم من قطاع غزة ومن جنوب لبنان جراء ضراوة العدوان الإسرائيلي الغاشم، ولذا فإن الفلسطينيين في الضفة الغربية باتوا – بحسب محللين إسرائيليين- في حيرة من أمرهم إذ يواجهون شعورين متناقضين وهما: الكراهية الشديدة للسلطة الفلسطينية والخوف من أن يسوء بهم الحال ليواجهوا نفس مصير أهالى غزة وجنوب لبنان تحت وطأة آلة التدمير والإبادة الإسرائيلية.
٦- العملية محدودة ومتأخرة
يرى مسؤولون إسرائيليون أن “العملية الأمنية الحالية التي تشنها السلطة الفلسطينية في مخيم جنين، محدودة جدًا ومتأخرة للغاية، بعدما فقدت سلطة ابو مازن سيطرتها الميدانية خلال السنوات التي لم تنشط فيها هناك. ومن المستبعد أن تنجح السلطة الفلسطينية في مهمتها الحالية، لذا فمن الأفضل لإسرائيل ألا تعتمد على السلطة الفلسطينية وأن تعوِّل فقط على نفسها من خلال جيشها ومؤسساتها الأمنية”
٧- تسليح السلطة خط أحمر
لقد نفت تل أبيب أنها قدمت أية مساعدات عسكرية للسلطة الفلسطينية، ولكن من المرجح أنها أجرت تنسيقا مُسبقا لشن العملية الأمنية في جنين، وأن واشنطن كانت على علم بها وأنها تلقت خطة تفصيلية ومطالب من السلطة في رام الله بالحصول على أسلحة أمريكية بموافقة تل أبيب. ورغم أن إسرائيل لم تعقب على مطلب تسليح السلطة الفلسطينية، إلا أن ذلك المطلب يحمل إشكالية سياسية تهدد استقرار الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو، لأن الوزيرين المتطرفين “بتسلئيل سموتريتش” و”إيتامار بن جفير” يعتبران تسليح السلطة الفلسطينية خطًا أحمرًا يتجاوز في خطورته تحويل المستحقات المالية للسلطة الفلسطينية.
ختاما، فإن الاقتتال الداخلي بين الفصائل الفلسطينية لا يخدم سوى إسرائيل التي تعتبر جميع الفلسطينيين إرهابيين لا يستحقون دولة مستقلة. ولذا فإن الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها في أمس الحاجة لتوحيد الصف ونبذ الخلافات لا سيما في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولا بد من تغليب المصلحة الوطنية وعدم إضعاف السلطة الفلسطينية أو توجيه السلاح في صدر فصائل المقاومة حتى لا تحدث الفتنة الداخلية في الضفة الغربية، وهو ما تريده إسرائيل التي لا تفرق بين فصيل وأخر، وتزعم أن القتل والكراهية لا يقتصران فقط على حماس أو “الجهاد الإسلامي”، بل إن السلطة الفلسطينية ليست هي الأخرى، شريكًأ للسلام، وأنها ظلت على مدى عقود، تُحرض جيل الشباب على المقاومة وشن الهجمات ضد الإسرائيليين ومكافأة منفذيها.
وتسعى السلطة في رام الله لإنهاء الاقتتال الفلسطيني وإجراء مصالحة وطنية بين كافة الفصائل من أجل التصدي لمخططات إسرائيل الرامية لبسط السيطرة العسكرية على قطاع غزة وابتلاع أراضي الضفة الغربية وفق مشروع الاستيطان اليهودي على كافة الأراضي السلطة الفلسطينية.