شنت إسرائيل مؤخرًا عمليات سيبرانية وتكتيكية استهدفت من خلالها أجهزة اتصالات مقاتلي حزب الله، فيما يمثل ضربة عسكرية ومعنوية غير مسبوقة للحزب الشيعي المدعوم إيرانيًا. وتُعدُّ تلك العمليات التي أوقعت أكثر من 4000 شخص بين قتيل وجريح بمن فيهم السفير الإيراني في بيروت، إخفاقا شديدا لحزب الله الذي وقع في ثغرات أمنية وعجز عن تأمين أجهزة اتصالاته وتعاقداته مع الشركات المصنعة. فيما تفتح تلك الهجمات السيبرانية الإسرائيلية الأخيرة صفحة جديدة ومختلفة من الصراع ليس فقط بين إسرائيل وحزب الله بل بين إسرائيل وجميع خصومها الإقليميين. ورغم ضخامة الإنجاز الإسرائيلي الاستخباراتي والتكنولوجي إلا أن دولة الاحتلال ما زالت تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجة الواضحة سواء في جنوب لبنان أو في قطاع غزة. لكن الشيئ المؤكد هو أن إسرائيل قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وهي عازمة على تصعيد الأوضاع عبر مواصلة توجيه الضربات، مُعتمدة في ذلك على القدرات الاستخباراتية وقوة النيران، وليس عبر الاجتياح البري، الذي سيقودها لاندلاع حرب لبنان الثالثة أو حرب إقليمية لاتُحمد عقباها.
الغارات المكثفة ونتائجها:
لقد غيرت إسرائيل أسلوب تعاملها الاستراتيجي في الجبهة الشمالية مع حزب الله، والكل يدرك مدى هذا التغير الآن، حيث يتسم بكثافة الغارات الجوية واتساع رقعتها وتأثيرها المدمر على لبنان، بما يحمل ذلك من رسائل تهديد وردع لكافة أطراف محور المقاومة.
ورغم أن إسرائيل وحزب الله لايريدان اندلاع حرب شاملة، إلا أنهما أيضا لا يقبلان استمرار الوضع الراهن، ولذا فإن الجيش الإسرائيلي أقدم على التصعيد العسكري والغارات المكثفة لشل قدرات حزب الله من أجل إعادته للمسار السياسي، وبعد إضعاف حزب الله ستتمكن إسرائيل من فرض شروطها.
حزب الله في حرج!
بعد المجزرة السيبرانية الإسرائيلية التي أوقعت الآلاف من اللبنانيين ومقاتلي حزب الله بين قتيل وجريح، فقد سقطت معادلة ضبط النفس التي يتسمك بها الحزب وأصبح يواجه معضلة حقيقية، لأنه مُطالب الآن ليس بمجرد توجيه التهديد لإسرائيل بل بالانتقام العسكري بشكل قوي وعاجل، وإذا لم يفعل ذلك فإنه سيفقد كثيرا من التأييد الشعبي ليس فقط داخل لبنان بل في كثير من الدول العربية. وتكمن مشكلة حزب الله الآن في أنه بات أمام خيارات صعبة، فإذا تريث للملمة الجراح والاستعداد للرد القوى فسيتعرض لمزيد من الضربات الإسرائيلية الموجعة، وإذا تسرع في الرد سيتلقى ضربات أشد ستفقده توازنه، وعليه فإنه قد يكتفي حاليًا بالردود المحسوبة دون الدخول في جولة من التصعيد غير المحسوب.
إنجاز لا يغير الواقع الاستراتيجي!
إن الهجمات التكتيكية والسيبرانية التي شنتها إسرائيل مؤخرا ضد حزب الله اللبناني قد حققت بالفعل كثيرا من الإنجازات لصالح دولة الاحتلال، ولكنها لن تغير من الواقع الاستراتيجي الخطير الذي تتعرض له إسرائيل، لأنها مازالت تواجه حربًا استنزافية من جانب المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية وأيضا من جانب قوات حزب الله في جنوب لبنان.
وإذا استمرت الحرب الحالية لمدة عام آخر، فإن إسرائيل ستتعرض لمزيد من الأضرار التي ستلحق بالمجالات الاقتصادية والمجتمعية والتعليمية والعلاقات الدولية، فضلا عن إحداث مزيد من النقص في قوات جيش الاحتياط. كما أن الضربات الموجعة التي تعرض لها حزب الله ستؤدي لا محالة لاستمرار تلك الحرب الاستنزافية ضد الدولة العبرية بما يحمل ذلك من إمكانية اندلاع حرب إقليمية تدفع إسرائيل للهاوية، لأنها ستعجز عن خوض حرب متعددة الجبهات وهي لم تنتهي بعد من حسم حربها مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
تحديات إسرائيلية:
تندفع إسرائيل نحو الحرب مع حزب الله في جنوب لبنان لكنها ستواجه عدة تحديات حول مدى استعدادها للتصدي لصواريخ الحزب، ومدى قدرة جيشها المُنهك على الصمود في جبهة أخرى أمام فصيل عسكري مسلح أقوى من حركة حماس. والسؤال المطروح هو: كيف ستعوض إسرائيل خسائرها العسكرية والاقتصادية؟ وكيف سيتصرف جيشها إذا انضمت إيران للحرب من أجل نُصرة حزب الله؟.
هدف الغارات الإسرائيلية المكثفة:
قررت إسرائيل شن غارات مكثفة وغير مسبوقة ضد قوات حزب الله في جنوب لبنان. فيما جرت من وراء الكواليس، محادثات أمنية وسياسية إسرائيلية لتوسيع دائرة التصعيد وعدم اقتصارها على جنوب لبنان. واتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالنت ورئيس الأركان هيرتسي هليفي، على توسيع دائرة التصعيد في الجبهة الشمالية لكن دون التسبب في اندلاع حرب شاملة. وتهدف الغارات الإسرائيلية المكثفة على المناطق اللبنانية إلى فصل الجبهة الشمالية عن الحرب الدائرة في قطاع غزة، فضلا عن ممارسة الضغط على زعيم حزب الله حسن نصر الله وإرغامه على وقف دعمه للمقاومة الفلسطينية، ومن ثم إعادة المستوطنين اليهود إلى المناطق الشمالية.
أهداف نتنياهو:
يسعى نتنياهو من خلال عملياته السيبرانية والعسكرية لإعادة ترميم نظرية الردع الإسرائيلية بعد إخفاقه في عملية “طوفان الأقصى”، فضلا عن كسر معنويات عناصر حزب الله، تمهيدًا للاجتياح البري الإسرائيلي المحتمل لمناطق جنوب لبنان.
كما يهدف نتنياهو لمعاقبة حزب الله الذي يُصر على مواصلة دعمه لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وكأنه يوجه تحذيرًا شديد اللهجة إلى بيروت بأن تنظيم حزب الله، بتضامنه مع المقاومة الفلسطينية، يجر الدولة اللبنانية بكاملها إلى كارثة شديدة ودمار مُحقق.
ويود نتنياهو من خلال هجماته الأخيرة أيضا لاستعادة مكانته بين مؤيديه في الجبهة الداخلية بعد فشله في تحرير الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة باستخدام القوة العسكرية، وهو يسعى أيضا لتحقيق “انتصار” عسكري لرفع الروح المعنوية لجنود الاحتلال.
سيناريوهات:
ترى القيادة الأمنية الإسرائيلية أن الفرصة الآن باتت مواتية لشن حرب فعلية ضد قوات حزب الله لأن مناطق جنوب لبنان أصبحت شبه خالية من السكان، والمستوطنون اليهود في شمال فلسطين المحتلة غادروا مستوطناتهم منذ قرابة عام، والولايات المتحدة رغم انشغالها بالانتخابات الرئاسية لن تتخلى عن حماية إسرائيل. كما أن هناك سبب آخر قد يدفع تل أبيب للحرب، وهو أن إسرائيل مُقدمة على فصل الشتاء وستعجل بشن الحرب حتى لا تغرق شتاءً في المستنقع اللبناني.
لكن في حال إبرام صفقة لتبادل الأسرى بين حكومة نتنياهو وحركة حماس، فإن ذلك قد يدفع إسرائيل لقبول الخيار الدبلوماسي مع لبنان، والاستعداد بشكل أفضل لشن حرب مستقبلية بهدف ترميم قدرات حزب الله العسكرية وتعويض ركائز حكمه في لبنان.
خلاصة القول، فإن الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قوات حزب الله لا تترك للحزب خيارًا آخر سوى الرد الانتقامي والتصعيد العسكري، معنى ذلك أنه لا مفر من الصدام بين الطرفين، رغم أن حسن نصر الله لم يكن يسعى للحرب بل كان يسعى لمجرد تحقيق توازن الردع في ظل استمرار الحرب في قطاع غزة.
كما أن الهجوم السيبراني الأخير يمثل بداية تطور للحروب القادمة فيما يخص استغلال الذكاء الاصطناعي والتطور السيبراني، وابتكار أساليب جديدة لتحييد أسلحة الخصم وتدميرها. وعليه فيجب على الدول العربية تقليل الفارق الكبير بينها وبين إسرائيل بشأن التطور العلمي والتكنولوجي الذي قد يكون فارقا في حسم الحروب المستقبلية.