ملامح الفيلق الأفريقي
كشفت روسيا بداية عام 2024 عن تشكيل عسكري جديد تحت مسمى “الفيلق الأفريقي” ليكن بديلًا عن قوات “فاجنر” الروسية المتواجدة في أفريقيا تحديدًا في منطقة الساحل الأفريقي، حيث تنتشر قواته بين 5 دول (بوركينا فاسو – مالي – أفريقيا الوسطى – النيجر- ليبيا)[1]، وتحتضن الأخيرة المقر المركزي لقيادة الفيلق لعدة عوامل من أهمها تواجد عناصر “فاجنر” سابقًا في مدينة سرت شرق العاصمة طرابلس، وتمركزهم في قاعدة “القرضابية” الجوية وميناء سرت البحري، إضافة إلى قاعدة “الجفرة” الجوية، وقاعدة “براك الشاطئ” الجوية التي تبعد 700 كم جنوب طرابلس، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي على ساحل البحر المتوسط لضمان خطوط الإمدادات العسكرية وتحركات العناصر التابعة للفيلق إلى الدول الأفريقية الأخرى، وتخضع إدارته إلى سلطة الإدارة العسكرية الروسية مباشرة، تحت إشراف نائب وزير الدفاع الروسي.
وتتكون النواة الأساسية للفيلق من مجموعات “فاجنر”، حيث تم دمج عناصر منها في قيادات الصفين الثاني والثالث داخل الفيلق، إضافة إلى مزيد من العناصر في نطاق قوة عسكرية لا تقل عن 40 إلى 45 ألف مقاتل، كما يتكون من فرقتين إلى 5 فرق حسب القدرات القتالية وحجم العناصر طبقًا لبيانات المحللين والمراقبين، وقد فتحت قيادته الباب لانضمام عسكريين ومقاتلين أفارقة يتمتعون بقدرات قتالية عالية وبكفاءات متعددة في قيادة المركبات القتالية والدبابات وقيادة الطائرات المسيرة وأنظمة الرادار ومنظومات الدفاع الجوي، وذلك من خلال حملات تجنيد واسعة عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة[2]، ومن المُحتمل أن يضم جنسيات متعددة منها الروسية والسورية وجنسيات أفريقية أخرى، حيث يرتبط الفيلق الأفريقي بشكل مباشر ماليًا وتنظيميًا بالنظام الروسي بعد اعتماد تعديلات على قانون ميزانية القوات المسلحة الروسية ديسمبر الماضي، مما يسمح للحرس الروسي بقبول تشكيلات من المتطوعين والأجانب إلى صفوفه، ويقوم بدفع رواتب مجزية للمقاتلين في الفيلق تصل إلى 3 آلاف دولار، مع إمكانية تلقيها بالعملات الأجنبية في الخارج، إضافة إلى الحصول على الرعاية الطبية وعدد من الامتيازات الاجتماعية، فضلًا عن التأمين على الحياة والتأمين الصحي على حساب الميزانية الفدرالية.
الأهداف الروسية للفيلق الأفريقي
أرشيفية
تسعى روسيا إلى الاستفادة من تغيير موازين القوى الدولية على وجه العموم، مُتخذة من القارة الأفريقية منطقة تموضعات جديدة لها، لاسيما في ظل وجود دعم من الأنظمة السياسية الحاكمة الآن في دول أفريقية تحديدًا في منطقة الساحل والصحراء، مما يعكس نوايا موسكو في التمدد داخل العمق الأفريقي بشكل شرعي ويُعطيها مزايا استراتيجية عديدة تُحقق بها أهداف جيوسياسية وجيواستراتيجية، يُمكن توضيحها كالتالي:
- تعزيز نفوذها العسكري في أفريقيا وتوسيعه مما يمنحها شرعية رسمية وعلنية، من خلال الحصول على قواعد عسكرية في جنوب ليبيا وأفريقيا الوسطى.
- مواجهة التواجد الأمريكي والأوروبي في أفريقيا خاصة التواجد الفرنسي.
- دعم بعض الأنظمة الأفريقية بعد نجاحها في الانقلاب ووصول نخب عسكرية صديقة لموسكو، مع تعزيز التعاون العسكري فيما بينهم.
- حماية مواقع البترول والذهب التي استطاعت “فاجنر” الوصول إليها سابقًا، لضمان وصول الموارد إلى الفيلق، فضلًا عن زيادة الاستثمارات في مجالات استخراج المعادن.
- تفادي تكرار تجربة تمرد فاجنر، والإشراف المباشر من الكرملين على الفيلق.
الانتشار العسكري الروسي في أفريقيا
بالتزامن مع وصول الدفعة الأولى من القوات الروسية إلى النيجر التي تُقدّر بـ 100 جندي لتدريب القوات النيجرية طبقًا لاتفاقيات التعاون العسكري النيجري – الروسي في ديسمبر 2023، بدأت روسيا بنقل تابعين لمجموعة “فاجنر”، ونشر قوات الفيلق الإفريقي في جنوب ليبيا لتحل محلهم، عن طريق طائرات شحن روسية محملة بعشرات الجنود في أبريل الماضي، وكذا إنزال المعدات والأسلحة العسكرية عبر سفن حربية شملت مركبات خفيفة وثقيلة، بالإضافة إلى المدفعية المضادة للطائرات، كما أن موسكو نشرت أكثر من 1800 جندي في البلاد خلال الأسابيع الماضية، فضلاً عن نقلها المئات من القوات الخاصة من أوكرانيا إلى ليبيا خلال الفترة الأخيرة، وفي بوركينا فاسو تواجدت قوات من “الفيلق الإفريقي” في العاصمة تُقدّر بنحو 100 متخصص عسكري روسي بالمعدات والأسلحة العسكرية، ومن المفترض أن يصل 200 جندي إضافي لاحقًا، أما في جمهورية أفريقيا الوسطي، يتمركز نحو 1000 مدرب روسي في قاعدة “بيرينجو” على بعد 80 كم من العاصمة، ووفقًا للمحللين فقد اكتمل تكوين الفيلق وانتهاء مرحلة التجنيد خلال الفترة الحالية من العام الجاري في الدول الخمس السالف ذكرها[3].
انعكاسات تواجد الفيلق الأفريقي
هناك تخوفات للقوى الغربية من التمدد الروسي في القارة الأفريقية، الذي يُمثل تهديدًا واضحًا للنفوذ الأمريكي والأوروبي سواء العسكري والأمني أو الاقتصادي والسياسي، مما يُمهد الطريق لاحتمالات نشوب حرب باردة جديدة من نوع خاص جدًا وتحول الساحة الأفريقية لمنطقة تصفية حسابات بين القوى الدولية، وتواجد الفيلق الأفريقي الروسي كأحد تلك التخوفات الغربية[4]، في ظل التكالب الدولي على أفريقيا والتنافس بين الشرق والغرب عليها، وسط ترحيب أفريقي بتواجد روسي دعمًا لها في مواجهة الاستعمار الأوروبي، ومن هذا المنطلق يُمكن أن نضع جملة من الانعكاسات لتواجد الفيلق الأفريقي[5] سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي وهي كالتالي:
- تواجده في النيجر كمنطقة مركزية لسد الفجوة بين شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، يعزز من ربط الشبكات اللوجيستية الروسية، وسيطرة القوات الروسية في المنطقة والتحرك بحرية في شتى الاتجاهات.
- أرشيفية
- قربه من منطقة البحر المتوسط في منطقتي شمال أفريقيا والساحل والصحراء، يهدد أمن حلف الناتو جنوب أوروبا.
- السيطرة على أحد أهم مصادر اليورانيوم في النيجر يُزيد من حصة روسيا في سوق السلاح النووي، كأحد أدوات روسيا للضغط على أوروبا.
- استغلال الصحراء في تهريب المهاجرين وزيادة تدفقات الهجرة غير الشرعية من أفريقيا لتهديد استقرار دول أوروبا.
- دخول قوات الفيلق في مناطق القوات الأمريكية في النيجر بعد انسحاب الأخيرة، يُنذر باحتمالية الاحتكاك بين الطرفين.
- قد توظف روسيا بعض التوترات الإقليمية القائمة من خلال تواجد الفيلق، لصالح النفاذ إلى منطقة الساحل الأفريقي، من أجل مصالحها الحيوية.
- احتمالية طول أمد الفترات الانتقالية في الدول التي قامت بانقلابات عسكرية بسبب دعم روسيا للأنظمة العسكرية التي وصلت للحكم بتواجد الفيلق الأفريقي ومن قبله مجموعة فاجنر.
- تعمل موسكو على زعزعة استقرار الدول التي لا تراها حليفة لها في المنطقة، عبر دعم الجماعات المعارضة، ومساعدتها للوصول إلى السلطة إن كانت تخدم مصالحها.
- قد تتزايد فرص تصاعد العمليات الإرهابية في وسط وغرب أفريقيا من قٍبل جماعات مثل بوكوحرام وداعش.
التداعيات المُحتملة على الدولة المصرية
إن وجود الفيلق الإفريقي يُعد تحولًا للاستراتيجية الأمنية الروسية في أفريقيا وبشكل علني، وربما يتمكن من تحقيق اختراق مرحلي من خلال التواجد في العديد من دول الساحل، لاسيما مع استمرار التقلبات السياسية في المنطقة، قد تجعلها من أخطر بؤر التطرف بسبب التهافت الأفريقي على شراء السلاح الروسي وبكميات كبيرة، واحتمالية تنامي دور الجماعات المسلحة المختلفة من جديد، ومن هذا المنطلق ربما يُنذر بتداعيات قد يكون لها التأثير على الأمن القومي المصري، يُمكن توضيحها في الآتي:
- تمركز قيادة الفيلق الأفريقي في ليبيا خاصةً في طبرق التي تبعد عن الحدود المصرية ما يقرب من 150 كم، وأهميتها الاستراتيجية لروسيا باعتبارها الأقرب لميناء طرطوس السوري، قد يُهدد الأمن القومي المصري بتواجد قوات أجنبية حال نشوب صراع بين روسيا والولايات المتحدة على الساحة الليبية.
- الانقلابات العسكرية في دول وسط وغرب أفريقيا، قد يجعل منها ملاذًا للجماعات المتطرفة وتهدد استقرارها واستقرار دول الجوار، مما يسمح بتمدد عمليات تلك الجماعات إلى مناطق قريبة من الحدود المصرية.
- التواجد الروسي في البحر المتوسط وغرب أفريقيا والحصول على عقود استخراج الغاز الأفريقي، قد يهدد أي مبادرات أو اتفاقات لتزويد أوروبا بالغاز المُسال في ظل الاتفاقيات المصرية مع دول أوروبية لترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط لاسيما التأثير على دور مصر في تصدير الغاز المُسال إلى أوروبا.
- الدعم الروسي لقوات الدعم السريع في السودان قد يقوض أي جهود مصرية لاحتواء الأزمة السودانية، في ظل الدعم المصري للقوات المسلحة السودانية.
- طول أمد الصراعات في عددٍ من دول أفريقية قد يُضعف من أي جهود مصرية في تحقيق السلم والأمن في القارة.
سيناريوهات
ومن واقع قراءة المشهد الحالي، فثمة سيناريوهات نضعها في الاعتبار ومن الضروري الالتفات لها بشأن هذا الفيلق الأفريقي، فالسيناريو الأول يتمثل في استمرار تواجده وتمدده في أفريقيا خاصةً في مناطق ربما يحدث بها انقلابات قريبًا، مما يُزيد من توغل روسيا في القارة بعدة صور، وهذا السيناريو الأكثر ترجيحًا، أما السيناريو الثاني يتعلق بتنفيذ مهام محددة لفترة معينة في مناطق بعينها، واستبداله بعد أداء مهمته بنجاح، وتشكيل مجموعات أخرى كما حدث مع قوات فاجنر سابقًا، وهذا سيناريو مُحتمل نوعًا ما يتوقف على معطيات جديدة قد تحدث ومتغيرات جمة قد تنتج على الساحتين الإقليمية والدولية، والسيناريو الثالث وهو مُستبعد إلى حدٍ كبير والمتعلق بفشل هذا الفيلق، وعدم تحقيق أي تقدم أو نجاحات في استراتيجية روسيا الجديدة تجاه أفريقيا.
خلاصة
أعلنت روسيا عن إنشاء كيان عسكري جديد يُسمى الفيلق الأفريقي، يحل محل مجموعة فاجنر المتواجدة في القارة الأفريقية، تهدف من وراءه تثبيت أركان تواجدها داخل القارة لتحقيق أهدافها الأمنية والعسكرية، فضلًا عن الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية عديدة، وذلك في ظل التنافس الدولي على القارة، مُتخذة من مناطق نفوذها في وسط وغرب أفريقيا نقطة انطلاق نحو الجنوب والشمال، لاسيما مع الأهمية الاستراتيجية لليبيا التي جعلتها مركزًا لقوات الفيلق الجديد لإعادة انتشار قواتها العسكرية وربطها ببعضها البعض، وينعكس تواجد ذلك الفيلق على الأوضاع الداخلية للدول الأفريقية، ومواقف القوى الإقليمية التي تتكالب على أفريقيا، ومن ثَم تسارع التحركات الدولية بين الغرب من ناحية وروسيا من ناحية أخرى لكسب أرض جديدة فيما بات يُعرف بالحرب العالمية الثالثة، في ظل التخوفات المصرية والتداعيات السلبية عليها وعلى القارة الأفريقية.
[1] الفيلق الأفريقي..فاجنر روسية جديدة في القارة السمراء، مقال منشور على موقع الجزيرة الإخبارية، يناير 2024، يمكن مطالعته من خلال هذا الرابط:https://2u.pw/ut4d1tFZ
[2] نسرين صباحي، كيف يعزز الفيلق الأفريقي نفوذ روسيا في القارة السمراء؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، مايو 2024، يمكن مطالعته من خلال هذا الرابط: https://2u.pw/JFyZYew6
[3] عبير مجدي، التداعيات الجيوسياسية لـ”الفيلق الإفريقي” في القارة السمراء، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، مايو 2024، يمكن مطالعته من خلال هذا الرابط: https://rcssegypt.com/17780
[4] الفيلق الإفريقي الروسي تحذير من استبدال النار بالنار، مقال منشور على موقع سكاي نيوز بالعربية، مايو 2024، يمكن مطالعته من خلال هذا الرابط:https://2u.pw/gz4Qocyf
[5] نسرين صباحي، كيف يعزز الفيلق الأفريقي نفوذ روسيا في القارة السمراء؟، مرجع سابق.