بعد مرور مايزيد عن عشرة أشهر على العدوان الإسرائيلي على غزة أهملت خلالها الحكومة الإسرائيلية جبهتها الداخلية، وتناسى ساستها أنه لايوجد حرب مثالية من ناحية، ومن ناحية أخرى حاولوا إقناع الرأي العام الداخلي بضرورة الانتهاء من الحرب الوقائية دون وضع أطر زمنية ودون تعزيز التضامن المجتمعي، أو محاولة تهدئة المواطن وطمأنته على قدرتها على حمايته ودفع الأخطار التي تهدد أمنه واستقراره.
أثر الحرب على غزة في العلاقة باليهودية
ظهرت فجوة بين نسبة كبيرة من العلمانيين واليهودية بعدما كشف استطلاع للرأي، بنسبة 24%، إن “أحداث أكتوبر الصعبة” والحرب التي تلتها أبعدتهم عن اليهودية ، وفي المقابل رأت نسبة أكبر بين جماعات أخرى (التقليديون غير الدينيين، والتقليديون الدينيون، والمتدينون، والمتشددون دينيًا) أن هذه الأحداث جعلتهم أقرب إلى اليهودية. تناول الاستطلاع الموقف من القضايا المتعلقة بـ “يهودية” الفرد والمجتمع، بعدما شهد المجتمع الإسرائيلي تباينات ملحوظة في تأثير الحرب على الموقف تجاه “اليهودية” بين “العلمانيين” مقابل غير المتدينيين التقليديين[1].
حرصت أغلبية كبيرة من غير المتدينيين على تعزيز هويتهم اليهودية والتركيز على أهمية ربطها بالرموز (القومية) المقتبسة من المصادر الدينية، وسجل ثمانية من كل عشرة من المشتركين فى الاستطلاع من الفئة الثانية رغبتهم فى أن يكون أطفالهم يهودًا، ولابد لهم من الخدمة في الجيش حتي يكونوا يهودًا صالحين، كما شهدت نسبة الراغبين منهم فى ترسيخ فكرة “الوطن” ووجوب العيش فى إسرائيل ارتفاعًا مقارنة بعام 2018م، فقرر حوالي ربع غير المتدينين أن أحداث أكتوبر “قرّبتهم إلى اليهودية”، بينما قرر حوالي خمس العلمانيين إنها “أبعدتهم عن الديانة اليهودية” وجعلتهم أقرب إلى سلوك حياة اليهود في الشتات[2].
اليهود والانضمام للجيش
بعد مرور أكثر من 10 أشهر على الحرب قررت أغلبية كبيرة من غير المتدينيين والمتدينيين التقليديين أن سلوكهم تجاه الجيش لم يتغير بسبب الأحداث وأنهم سينتظمون فى الخدمة العسكرية رغم كل شئ[3].
ورغم أن مسألة تجنيد فئة اليهود المتشددين دينيا (حريديم) تعتبر من أكثر المسائل الإشكالية فى المجتمع الإسرائيلي بشكل عام، إلا أنها أصبحت فى الفترة الأخيرة من أكثر الأزمات تعقيدًا، خاصة بعد إصدار الجيش أوامر تجنيد للخدمة العسكرية لعدد منهم بالفعل، رغم توصية القيادات الحاخامية لهم بعدم الاستجابة، وخروج أعداد كبيرة منهم في مظاهرات احتجاجية على فرض تجنيدهم بشكل إلزامي، والاصطدام بقوات الشرطة واضطرارها على القبض على عدد كبير منهم.
وفي ظل هذه العاصفة نجح برنامج مبادرة “تَحلِس” لتجنيد طلاب المدراس الدينية وتدريبهم على الخدمات القتالية، فيما فشل في تحقيقه القضاء والجيش رغم أنه برنامج مدني خاص لا تديره هيئة عسكرية أو حكومية، لم يتم تنفيذه إلا مؤخرًا بعدما طال أمد الحرب، رغم أن فكرته تم طرحها منذ سنوات، ويرى القائمون عليه أنه سيشهد إعداد وتجنيد المزيد من اليهود المتشددين للخدمة النظامية؛ لأنه بدأ بـ25 مجند فقط، ويقدم الآن مجموعة متنوعة من الخدمات لـ500 متدرب من القطاع الحريدي، وتخرج منه حوالي 150 يهودي متشدد تمهيدًا لانضمامهم للوائي المظللين وجفعاتي.
والآن وبعد أكثر من 10 أشهر من أحداث أكتوبر لم يعد من الممكن تجاوز أو تحييد قضية تجنيد هذه الفئة، ويجب إيجاد حلول تتيح لطلاب المدارس الدينية بناء أنفسهم في دراسة التوراة إلى جانب التجنيد في الجيش، بعد إعداده عن طريق دورات تمكين وتدريب جماعي لمدة أربعة أشهر مرة واحدة في السنة، يرافقهم خلالها مجموعة من الحاخامات يهتمون بإعادتهم إلى المجتمع الحريدي واندماجهم فيه بعد انقضاء فترة التجنيد[4].
المجتمع الفلسطيني فى الداخل
استمرت إسرائيل منذ أيام الحرب الأول فى تضييق الخناق على فلسطيني الداخل وفي ممارسة سياسة تكميم الأفواه والاعتقالات بسبب التظاهر والاحتجاج أو استخدام منصات التواصل الاجتماعي في التعبير عن التعاطف مع بني جلدتهم في قطاع غزة، وإصدار أحكام قضائية جائرة بحق بعض النشطاء والنُخبة من الفئات العمرية والثقافية دون استثناء. ورغم ذلك كانت ظاهرة العنف والجريمة هي الأبرز بين عناوين الأحداث اليومية في هذا القطاع رغم ازدحامها بأخبار الحرب منذ بدايتها.
كما اتسعت أكثر الفجوة القائمة بالفعل بين هذا القطاع والقطاع اليهودي، خاصة فى المدن المختلطة، وخلت الحياة اليومية من صور التعايش المعتادة بين سُكانها بشكل عام، إلا من بعض حالات للتعاون فى إطار بعض الجمعيات المشتركة المُهتمة بالعمل المجتمعي، مثل جمعية “الإغاثة في المجتمع العربي الفلسطيني” وجمعية “قربان” و”القلوب الرحيمة”[5]، رغم تعرضها لفرض قيود قانونية على تحويل الأموال والتبرعات، فضلا عن القيود الإدارية من قِبل الحكومة الإسرائيلية، إضافة إلى تعليق عمل بعضها واستصدار أحكام قضائية بتجميد حساباتها البنكية من المحاكم، فبلغ عدد الجمعيات التي تم تجميد حسابتها منذ بداية الحرب على غزة أكثر من 70 جمعية، كما تم اعتقال بعض أعضائها ومصادرة ممتلكاتها تزامنًا مع حملات التحريض الإعلامية، خاصة بعد إعلانها عن حملات دعم إنساني لشحنات المساعدات التي ستخرج إلى قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم. وفي المقابل نجحت حركة “نقف معًا” في الحصول على تصاريح، بالتعاون مع مؤسسات دولية، لجمع التبرعات المادية والعينية لصالح سكان قطاع غزة، بينما رفضت عدة جمعيات أخرى المشاركة في هذه المبادرة لأنها تحت إشراف السلطات الإسرائيلية وجهات أجنبية[6].
ضبابية المشهد الإسرائيلي
المنظومة الصحية في إسرائيل
في ظل الحرب، ونتيجة مباشرة لوقائعها على الأرض، تضررت بشكل كبيرمنظومة الصحة العامة، وتضاءل الاهتمام بالتطعيمات والطب الوقائي، فقل أعداد الإسرائيليين الذين يتوجهون للحصول على التطعيمات، وظهرت أمراض باتت تُشكل ضررًا على المجتمع حال انتشارها، وفقًا لتقارير وبيانات وزارة الصحة منذ بداية عام 2024م، وبعدما تم اكتشاف حوالي 37 حالة جدري قرود، وهو ضعف العدد في عام 2023م، كما انتشرت موجة سعال ديكي، خاصة بين الأطفال الرضع، كما سُجل ارتفاع في انتشار الأمراض المعدية التي تؤدي للوفاة. كما سجل المسؤولون في الوزارة خشيتهم من بعض التهديدات الفيروسية، مثل فيروس شلل الأطفال الذي تم اكتشافه في قطاع غزة والذي قد ينتقل إلى إسرائيل.
ورغم ذلك فقد سجل المسؤولون صعوبة تواصلهم مع صناع القرار في وزارتي المالية والصحة، أو حتى لفت انتباههم لأهمية رصد وتحويل الميزانية المناسبة لسد الفجوة المتزايدة في الخدمات الصحية الأساسية وتعويض النقص فى اللقاحات التي زادت خلال الحرب، بعدما أغلقت المدارس في بعض المناطق وإجلاء عشرات الآلاف من الأطفال من منازلهم في الشمال والجنوب[7].
التعليم وبداية العام الدراسي
قرر وزير التعليم عدم البدء العام الدراسي فى المستوطنات القريبة من قطاع غزة ومستوطنات الشمال، ولم يتم حتى الآن الإعلان عن فعاليات العام الدراسي الجديد. ويبدو أن تأثير أحداث أكتوبر سيمتد إلى مابعد تأجيل الدراسة ليشمل الميزانية المخصصة للتعليم، خاصة مع تزايد أعداد العاملين في جهاز التعليم، المطالبين بزيادة الأجور، وتهديدهم بالإضراب العام وتعطيل العام الدراسي، ورغم أنها مشكلة قديمة لم تنجح الحكومة الإسرائيلية فى معالجتها. ووفقا للبيانات التي نشرها مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست فإن الاضطرابات الأمنية تؤثر على سير الدراسة، بعدما سبب نقصا في عدد المدرسين، لتشكل استمرارا للأضرار التي لحقت بالعملية التعليمية خلال جائحة كورونا[8].
الاقتصاد الإسرائيلي
يُحذر بعض الخبراء الإسرائيليين من عدم إمكانية وضع توقعات اقتصادية فى ظل المخاوف من نشوب حرب إقليمية وعدم معرفة موعد انتهاء الحرب الحالية، ولكن حتمًا سيؤدي هذا الوضع تراجع اقتصادي ملحوظ، وارتفاع كبير في نسبة الدَين العام، وانخفاض الناتج القومي، وتوقف حركة الملاحة الجوية والبحرية، وهو مايصفونه بـسيناريو “الرعب القادم”. فبينما عمل البعض على أساس “سيناريو متفائل” يتحقق خلال شهر على الأكثر بعد اتفاق وقف إطلاق نار، وتبادل أسرى، وإيجاد تسوية بشكل ما بين إسرائيل وحزب الله، سيرتفع الناتج المحلي في العام الحالي بمقدار 1.5% فقط، ما يعني سلبية النمو الاقتصادي؛ لأن النمو السكاني يرتفع بحوالي ـ2% سنويًا، وسيرتفع العجز المالي في الموازنة بنسبة 8.4%، ونسبة الدين من الناتج ترتفع إلى 67%، ورغم ذلك يعتبر هذا السيناريو أن إسرائيل ستعود إلى وضعها الطبيعي خلال بضعة أشهر من انتهاء الحرب، وعلى هذا النحو لم يضع في الحسبان على المستوى الاقتصادي الانتصار المُطلق أو إذا كان يحيى السنوار حيا أم لا، ولكن الأهمية المؤكد عليها هي أهمية اتفاق تبادل أسرى، ولهذا السبب فقط يعمل المسؤولون الأمنيون بموجبه[9].
ختامًا؛
بعد مرور أكثر من عشرة أشهر على الحرب لم تحقق إسرائيل أهدافها المُعلنة، إذ لم يتم القضاء على حركة حماس، ولم تنجح فى استعادة الرهائن، ولم يعُد سكان الشمال ومستوطنات محيط غزة إلى بيوتهم، وامتلأت الميادين بالمظاهرات والوقفات الاحتجاجية، ويطالب بعضها برحيل نتنياهو وحكومته، واتسعت الفجوة بين المواطن والقيادت السياسية والعسكرية وتضرر الاقتصاد. ولا يبدو في الأفق أساليب أو إمكانية جديدة لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه خلال عشرة أشهر، وبدا أن “الأهداف المرجوة والمحددة” غير قابلة للتحقيق وأن “سقف توقعاتها كان مرتفعًا. ورغم ذلك فهي ماضية في حربها غير مبالية بعدم أكثر من 62% من الإسرائيليين بنتائج الحرب، معظمهم من ناخبي أحزاب الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف، وقتل حوالي 900 إسرائيليًا على الأقل منذ بداية الحرب، إضافة إلى حوالي 1200 قتيل خلال أحداث أكتوبر، وحوالي 700 جندي قُتل نصفهم منذ بداية الحرب البرية على قطاع غزة.
ونؤكد على أن الحرب وطول أمدها لم يُغير شيئًا من الانقسامات السياسية والخلافات العميقة وحالة الاستقطاب التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي، ولكنه مشوش بشكل كامل ويقينه منعدم فيما يتعلق بانتهاء الحرب وتقويض حكم حماس، والسبب الحقيقي لتمسك إسرائيل بوجود الجيش على حدود غزة وغير ذلك. ويرون أن نتنياهو يخشى مواجهتهم ولا يظهر إلا في لحظات النجاح. ولكن هذه الحالة العامة المرتبكة استولت على انتباه الجميع دون أن يتخلى أي منهم عن توجهه الفكري أو السياسي.
غير أن هذه الحرب وطول أمدها غير المسبوق قد جمعتهم على الإدراك بأنها حرب وجود فُرضت عليهم خوضها على كل المستويات والجبهات، حتى وإن اختلفوا في أولوية إجرائية، مثل إتمام صفقة لاستعادة الرهائن أولًا أم تزامنًا مع الحرب أم بعدها، وليس مهمًا بالنسبة لهم ذكر النصر أو التلويح به. ويستشهدون بما فعل “ليفي أشكول” بعد حرب عام 1967م أثناء إلقاء كلمته احتفالًا بذكرى مرور 20 عام على إعلان قيام إسرائيل، ولكنه آثر أن يُكرر الحديث عن توفير السلام والهدوء للمواطن الإسرائيلي والاستقرار للمجتمع بشكل عام.
[1] ينقسم المجتمع اليهودي في إسرائيل إلى قطاعات حسب التدين، وتشكل هاتان المجموعتان معًا حوالي نصف القطاع اليهودي في إسرائيل حوالي 49% وفقًا لإحصاء للمكتب المركزي للإحصاء عام 2018م . حوالي 45% منهم “علمانيون” و19% آخرون “يهود لكن غير متدينين.
[2] מדד החברה הישראלית לחודש אוגוסט 2024, המכון למדיניות העם היהודי ,
https://jppi.org.il, in, Augst2024,11am.
[3] מדד החברה הישראלית לחודש אוגוסט,שם.
[4] תחלס, תוכנית חרדים לסדיר, Cited in, Augst2024,11am, https://tachles-sadir.co.il/ ؛ האגף לשימור קרקע וניקוז התחנה לחקר הסחף – Gov.il, Cited in, Augst2024,12 am ؛ עתיד ישראל, http://www.atidisrael.co.ilCited in, Augst2024,1 pm.
[5] Qurban Palestine https://www.qurban.ps, cited in, 21Augst, 10 am, ؛ ,Merciful Souls Nazareth https://merciful-souls.org., cited in, 21Augst, 12pm./؛ جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية ,PMRS, https://pmrs.ps, cited in, 21Augst, 11am../
[6] עומדים ביחד, https://www.standing-together.org/ cited in, 21Augst, 11am
[7] מרכז המחקר והמידע https://www.btl.gov.il/Mediniyut/, cited in, 21Augst2024, 11am. , אפקט חרבות ברזל: יותר מחלות קשות וקטלניות, פחות מתחסנים, ישראל היום , cited in, 21Augst2024, 10am. https://www.israelhayom.co.il
[8] מגמות בצל המלחמה, משרד ה חינוך, https://www.gov.il/he/departments/ministry-of-education, cited in, 21Augst2024, 11am.
[9] החשש ממלחמה כוללת מכניס את כלכלת ישראל לסחרור של חוסר ודאות, https://www.calcalist.co.il/local_news/article/bkphweokc, cited in, 21Augst2024, 1am.