لا تزال فضيحة التسريبات التي طالت ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تثير غضب الجبهة الداخلية وتهدد مستقبل الحكومة. إذ تتعلق القضية بتورط مسؤول في مكتب نتنياهو وضابط عسكري بتسريب وثائق استخباراتية لوسائل إعلامية أجنبية بهدف التأثير على الرأي العام الإسرائيلي وتخفيف الضغط عن نتنياهو وعدم دفعه لإبرام اتفاقية تبادل الأسرى مع حركة حماس وإنهاء الحرب في غزة. فيما رأت المحكمة الإسرائيلية أن تسريب الوثائق السرية يضر بأمن الدولة العبرية، وهو مايعرض المتورطين لعقوبة السجن المؤبد.
يُذكر أن آلاف المتظاهرين الإسرائيليين يواصلون الخروج منذ بداية الحربللضغط على حكومة نتنياهو من أجل السعي لإطلاق سراح الأسرى المحتجزين في قطاع غزة ووقف القتال، لكن حكومة نتنياهو المتطرفة تُصِرُّعلى مواصلة عدوانها العسكري، رافضةً الانسحاب من غزة حتى تحقيق”أهداف” الحرب.
وقد كشف التحقيق أن الهدف من تسريب تلك الوثائق يتمثل في تضليلالرأي العام الإسرائيلي وشيطنة احتجاجات المعارضة الداعمة لإبرام صفقة تبادل الأسرى، بزعم أن تلك الاحتجاجات تضر بالمفاوضات وتعزز مواق فالمقاومة الفلسطينية.
قضايا متعددة
هناك العديد من المقربين لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يُشتبه في تورطهم بتسريب وثائق ومعلومات سرية، بهدف خلط الأوراق في سيرالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بما يخدم أجندة حكومة نتنياهو المتطرفة. وفور نشر التسريب الأخير، بدأ جهاز الأمن العام، بالتعاون مع الجيشوالشرطة الإسرائيلية، بالتحقيق مع عدد من المشتبه بهم وعلى رأسهم “إيليفيلدشتاين” المتحدث باسم نتنياهو للشؤون العسكرية والذي شارك معه في اجتماعات سرية داخل مقر وزارة الدفاع، بما يعني أن نتنياهو يواجه أخطرقضية منذ اندلاع حرب “السيوف الحديدية”.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فإن تلك القضية ترافق قضايا أخرى تتعلق بتُهم جنائية ضد مسؤولين في مكتب نتنياهو، منها تهمة تزوير وتحريف نصوص جلسات المجلس الوزاري المُصغر خلال الحرب، وتهمة ابتزاز أحدكبار الضباط عبر توثيق علاقة حميمة بحوزة مكتب رئيس الوزراء.
الخيط الأول
بدأت فضيحة التسريب الأخيرة بنشر مقال في صحيفة “جويش كرونيكل”البريطانية بتاريخ الخامس من سبتمبر الماضي، جاء فيه أن زعيم حركةحماس يحيى السنوار اتخذ 20 رهينة إسرائيلية كدروع بشرية وخطط للهروب بهم وبما تبقى من قادة الحركة – عبر محور فيلادلفيا – إلى مصر ومنها إلى إيران. وفي اليوم التالي، أي السادس من سبتمبر أفادت الصحيفة الألمانية “بيلد” عن وجود وثيقة “سرية” أخرى تصف استراتيجيةحماس التفاوضية مع إسرائيل بشأن صفقة تبادل الأسرى.
رواية متضاربة!
بعد بضعة أيام تراجعت صحيفة “جويش كرونيكل” عما نشرته، معترفة أنه كان محض افتراء، مما تسبب في فضيحة كبرى لدار النشر، الأمر الذي دفع عدداً من الكتاب للاستقالة تعبيرا عن احتجاجهم.
وجاء في تقرير “بيلد” أن الوثيقة التي عُثر عليها على جهاز الحاسوب،كانت تخص في الغالب يحيى السنوار، وأنها تحتوي على تعليمات أصدرها شخصيًا بشأن التوصل لوقف إطلاق النار. وتزعم الوثيقة، أن حماس لم تسارع بإنهاء القتال، بل سعت لوضع شروط تعجيزية لإطلاق سراح المعتقلين في غزة، حتى لو أدى ذلك لإطالة أمد الحرب. وأظهرت الوثيقة أن استراتيجية حماس تبنت عدة محاور، مثل ممارسة الحرب النفسية ضد أهالي المختطفين الإسرائيليين بُغية زيادة الضغط الشعبي على حكومة نتنياهو، وإضعاف مواقف إسرائيل السياسية وتقويض قدراتها العسكرية، وزيادة الضغوط الدولية على تل أبيب.
وفي تحولٍ لافت، أفاد مصدر عسكري إسرائيلي في الثامن من سبتمبرالماضي، أن الوثيقة المذكورة كانت قديمة، إذ تم العثور عليها قبل قرابة خمسة أشهر، ولم تكن منسوبة للسنوار أو لأحدٍ من رفاقه، بل كتبتها القيادة الأدنى في حماس كنوع من التوصية. وأفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن مضمون الوثيقة طُرح بشكل خاطئ سواء في المقال المنشوربالصحيفة الألمانية “بيلد” أو في ردود نتنياهو عليه لاحقا. كما أن الوثيقة – بعكس ما زُعم من قبل – لا تُظهر عدم اكتراث حماس بصفقة إطلاق سراح الرهائن، بل العكس هو الصحيح، إذ توضح الوثيقة أن حماس تُبدى اهتمامًا بالغاً بإبرام الصفقة.
أهداف التسريب
تأتي تسريبات الوثائق السرية الأخيرة ضمن حملة التضليل التي يمارسها نتنياهو وحكومته المتطرفة، لتخفيف ضغط الشارع والمعارضة للإفراج عن المعتقلين المحتجزين في غزة، إلى جانب التأثير على الرأي العام الإسرائيلي لصالح مواقف نتنياهو التفاوضية، خاصةً أن عملية التسريب جاءت فور إعلان جيش الاحتلال في الأول من سبتمبر الماضي، العثور على ست جثث لمحتجزين إسرائيليين داخل أحد أنفاق غزة بعد إطلاق النارعليهم، مما أثار حالة من السخط على حكومة نتنياهو جراء تقاعسها عن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين. لذا كانت الغاية من التسريب هي كسب الرأي العام لدعم حكومة نتنياهو وتوجيه الاتهام إلى قادة حماس وتحميلهم مسؤولية عدم التوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح المعتقلين.
كما كان هدف التسريب التأكيد أيضا على أن يحي السنوار يريد الفرارمن قطاع غزة عبر محور صلاح الدين، بما يبرر إصرار نتنياهو على بقاءالجيش الإسرائيلي مسيطراً على ذلك المحور الاستراتيجي لإحباط خطة فرار السنوار وتهريب الأسرى الإسرائيليين إلى خارج غزة.
هل تورَّط نتنياهو؟
بالنظر إلى الأهداف المرجوة من التسريبات، فإن نتنياهو وحكومته هماا لمستفيدان من تزوير الحقائق بشأن موقف حماس التفاوضي لإطلاق سراح الأسرى. لكن حتى الآن لم تُثبت التحقيقات أن رئيس الوزراء هوالذي أمر بجمع الوثائق السرية ونقلها إلى وسائل الإعلام الأجنبية لتحقيق أهدافه. وإذا ثبت تورط نتنياهو فإنه سيصبح تحت طائلة القانون، مما يهدد بسقوط أشد الحكومات الإسرائيلية تطرفا في تاريخ دولة الاحتلال.
ورغم عدم ثبوت تورط نتنياهو بشكل مباشر في فضيحة التسريب، إلا أنه قد استغل المعلومات المسربة للزعم بأن معارضيه الذين خرجوا للتظاهر من اجل إطلاق سراح المحتجزين قد انطلت عليهم أكاذيب حركة حماس.
يتحمل المسؤولية!
بعد كشف فضيحة تسريب الوثائق السرية بات رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو يواجه تهمة تضليل الرأي العام الداخلي، لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة على حساب أمن وسلامة المعتقلين الإسرائيليين في قطاع غزة. وقد يتحمل نتنياهو مسؤولية التسريب في كل الأحوال، لأنه إذا كان على علمٍ بها فسيكون متهماً بالتواطؤ في واحدة من أخطر الجرائم الأمنية. إما إذا لم يكن يعلم بها، فسيبدو أمام المعارضة بأنه لا يصلح لشغل منصبه.
موقف المعارضة
فور إثارة قضية التسريب، أكد المعارضون لحكومة نتنياهو وأهالى المعتقلين الإسرائيليين في غزة أن الهدف من نشر المقالين المذكورين في الصُحف الأجنبية هو توفير الغطاء السياسي لـ “نتنياهو” في ظل تعثرمحادثات وقف إطلاق النار بسبب إصرار رئيس الحكومة على ضرورة السيطرة العسكرية الإسرائيلية على محور فيلادلفيا، من أجل إطالة أمد الحرب وضمان بقائه في سدة الحُكم.
ولقد وجَّه زعماء المعارضة وعلى رأسهم يائير لابيد وبيني غانتس انتقاداً شديد اللهجة لرئيس الحكومة نتنياهو، مؤكدين أن فضيحة التسريب تمثل جريمة “وطنية”. فيما أشار لبيد إلى أن تلك الفضيحة قد تسربت من مكتب نتنياهو، لذا يجب التأكد إن كان التسريب قد تم بتوجيه شخصي منه أم لا. مُضيفا أن تلك التسريبات تُفقد “الشعب” الإسرائيلي ثقته بقيادته، خاصة في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدولة العبرية.
بينما قال بيني جانتس – الذي كان حتى وقت قريب عضواً في مجلس الحرب بقيادة نتنياهو- إنه إذا تم بالفعل تسريب تلك المعلومات الأمنية الحساسة لأجل إبقاء نتنياهو في السلطة، فهذا لا يمثل جريمة جنائية فحسب، بل يمثل جريمة في حق “الأمة”.
يتبين مما سبق، أن تسريب الوثائق المزعومة في تلك المرحلة الحرجة من الحرب الإسرائيلية على عدة جبهات، يؤكد عزم نتنياهو على إفشال أي محاولة للتوصل لوقف إطلاق النار، خشية أن يتعرض للمحاكمة وإجراء انتخابات مبكرة وتحمل مسؤولية فشله السياسي والأمني في التصدي لهجوم “طوفان الأقصى” المُباغت الذي شنته المقاومة الفلسطينية على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 من جهة، وتشبث نتنياهو بالسُلطة من خلال عدم اعترافه بمسؤوليته عن الفشل في الإخفاقات الأمنية ورفضه تشكيل لجنة تحقيق رسمية من جهة أخرى ، فضلا عن تقديمه رشاوى سياسية – مثل مشروع قانون تهرب الحريديم من التجنيد – بما يؤكد أنه ليس معنياً بالقضايا القومية ، بل بضمان بقائه في السُلطة.