بعد سنوات من توتر العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد الأربعاء 17/08/2022، أنه تقرر تطبيع العلاقات وإعادة السفراء والقناصل بين الدولتين من أجل تعزيز الاستقرار الإقليمي. وسبق لإسرائيل أن أعادت قبل أسبوع، فتح مكتبها الاقتصادي في تركيا بعد ثلاث سنوات من إغلاقه، ما يؤكد جدية التطبيع بين الدولتين. لكن المفارقة العجيبة تكمن في أن إعلان التطبيع جاء في أعقاب العدوان الإسرائيلي ضد تنظيم الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وإحجام حركة حماس عن المشاركة في صد ذلك العدوان. وربما يعني ذلك أن تركيا كان لها دور في إقناع حماس بعدم إطلاق الصواريخ على إسرائيل وانتهاء الأزمة سريعا، فجاء تطبيع العلاقات مكافأة إسرائيلية للجهود التركية.

أرشيفية

تقلب العلاقات الثنائية!

شهدت العلاقات الإسرائيلية التركية العديد من التقلبات طيلة العقود الماضية، حيث اعترفت أنقرة بإسرائيل عام 1949، وبدأت العلاقات بينهما عام 1950، ولكن تركيا خفضت مستوى علاقاتها بالدولة العبرية عام 1980 في أعقاب القانون الذي سنه الكنيست باعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل. وفي أواخر عام 1989اتخذ الأتراك خطوات لتطبيع العلاقات في المجالات الاقتصادية والأمنية والتجارية والسياحية. فيما قام الرئيس الإسرائيلي السادس حاييم هيرتزوج بزيارة تركيا عام 1992 وأعقبه الرئيس السابع عيزر فايتسمان بزيارة مماثلة، أسفرت عن تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي والانتاج الحربي، والسماح لسلاح الطيران الإسرائيلي بالتدريب داخل المجال الجوي التركي. كما واصل الرئيسان الإسرائيليان كتساف وبيرس تعزيز العلاقات مع النظام التركي. لكن عدوان “الرصاص المصبوب” الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة (27 ديسمبر 2008 – 18 يناير 2009 ) والاعتداء على قافلة “مافي مرمرة” فجر يوم 31 مايو 2010، أشعلا التوتر بين الدولتينمن جديد. وظل الحال قائمًا طيلة فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق بنيامين نتنياهو.

تحول السياسة التركية

بعد أن تبنى الرئيس أردوغان سياسة خارجية مستقلة، وتدخل عسكريا في قطر وليبيا وسوريا وحوض شرق المتوسط، أصبح يواجه عُزلة إقليمية واتحد الجميع ضده، فاضطر مؤخرا لإصلاح علاقاته مع الدول الإقليمية وليس مع إسرائيل فقط ، إيمانا منه بأن استعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع تلك الدول هي السبيل لاستمرار بقائه في الحكم. وفي ظل سنوات العداء بين أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو، كان من الصعب تحسين العلاقات مع تل أبيب. ولكن في عهد حكومة “التغيير” الحالية بقيادة يائير لبيد، أدرك أردوغان أن الفرصة مواتية لإصلاح العلاقات الثنائية ضمن التوجه الجديد للمصالحة مع الجميع لتحسين الأحوال المعيشية والاقتصادية في الداخل التركي واستعادة شعبيته قبل الانتخابات المُقبلة.

أرشيفية

تعاظم الدور التركي!

بعد تحالف إسرائيل مع دول شرق البحر المتوسط وتجاهل تركيا، إثر اكتشاف حقول الغاز هناك، اتخذت أنقرة عدة إجراءات للحفاظ على مصالحها، فوقعت عام 2019 اتفاقيتين مع حكومة طرابلس الليبية، تتعلق الأولى بترسيم الحدود البحرية المشتركة وتتعلق الثانية بالتعاون العسكري بين البلدين. وبذلك تعزز الوجود العسكري التركي في ليبيا والاستفادة من حقول الغاز والنفط في المياه الإقليمية، فضلا عن توسيع النفوذ التركي في أفريقيا وأوروبا عبر بسط نفوذها في المنطقة. وأراد أردوغان تعزيز مكانة بلاده في الشرق الاوسط ومنع القوى الإقليمية من اتخاذ إجراءات أحادية مثل مشروع (إيست ميد) بمشاركة إسرائيل وقبرص واليونان، الذي فجر الأزمة مع أنقرة. ولكن تخلي الولايات المتحدة عن ذلك المشروع في يناير 2022 أدى إلى إلغائه، مما أثار إمكانية تصدير الغاز الطبيعي من حقل “لفيتان” لأنقرة، رغم الصعوبات التي تواجه إنشاء خط أنابيب الغاز بين إسرائيل وتركيا، أملا في تعزيز التعاون الإسرائيلي التركي في مجال الطاقة، وهذا ما دفع الدولتين للتقارب وتطبيع العلاقات من جديد.

تركيا تستميل إسرائيل!

بعد الإطاحة بنتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية الرابعة، اتخذت تركيا عدة مواقف إيجابية لكسب ود الحكومة الإسرائيلية الجديدة، مثل الإفراج عن الزوجيين الإسرائيليين ناتالي ومودي أوكنين اللذين تم اتهامهما بالتجسس لصالح تل أبيب. لكن الموقف الأهم الذي دفع وتيرة التقارب بين الدولتين هو التعاون الأمني المشترك ضد محاولات إيران تنفيذ عمليات انتقامية ضد الإسرائيليين داخل الأراضي التركية، حيث أمر أردوغان أجهزته الأمنية بإحباط محاولات الخلايا الإرهابية الإيرانية لاستهداف الإسرائيليين في بلاده. ولقد فاق التعاون التركي الإسرائيلي كل التوقعات، وهو ما أشعر تل أبيب بأهمية الدور التركي فسارعت بالإعلان عن استئناف العلاقات الكاملة مع أنقرة.

أرشيفية

الدوافع التركية ..

يرتبط استئناف مظاهر التطبيع بين الدولتين بتداعياتالأزمة الاقتصادية والسياسية في تركيا والعزلة التي يواجهها نظام اردوغان في المنطقة. وترى القيادة التركية أن تحسن علاقاتها مع تل أبيب سيُنهي التوتر بين أنقرة وواشنطن التي تدعم إسرائيل وتُشجع اتفاقيات التطبيع معها. وتسعى أنقرة من خلال التطبيع مع تل أبيب، لإضعاف التحالف القائم بين إسرائيل وعدوتيها قبرص واليونان، خاصة في ظل اعتراض حكومة أردوغان على الحدود التي تم ترسيمها مع اليونان في أعقاب الحرب العالمية الأولى وهناك توترات أمنية مستمرة بين البلدين في منطقة الجزر القريبة من الشواطئ التركية.

وترى أنقرة أن إنشاء خط أنابيب لنقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا عبر تركيا، سيعزز مكانتها الإقليمية كجسر لنقل الطاقة إلى أوروبا. كما أن مُصالحة إسرائيل ودعم الاتفاقيات الإبراهيمية سيُحققان مصالح تركيا مع دول الخليج في الحصول على مساعدات مالية إضافية منها. ويأتي التقارب التركي الإسرائيلي ضمن التحرك الإقليمي الذي بدأه أردوغان مؤخرا لتحسين علاقاته مع السعودية والإمارات ومصر، خاصةً بعد تولي جو بايدن مقاليد الحكم في الولايات المتحدة وتبنيه مواقف سلبية تجاه أردوغان، الذي بات يدرك أن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، وأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيساعده في تحسين صورته لدى صناع القرار في الولايات المتحدة. وهناك دافع آخر للتطبيع مع تل أبيب، وهو الأزمة الاقتصادية التي تواجه تركيا منذ عام 2018، والتي تفاقمت جراء تفشي وباء كورونا، وفشل السياسات الاقتصادية لحكومة أردوغان. ويسارع أردوغان بإصلاح علاقاته مع الجميع حتى يتفرغ لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، وهي انتخابات مصيرية بالنسبة لأردوغان  لأنه- وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة- قد يفقد السلطة لصالح خصومه السياسيين.

مكاسب تركية ..

يرى أردوغان أن التقارب مع إسرائيل سيتيح له فرصة نقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر بلاده، بأقل تكلفة عما لو كان عبر اليونان. وفي ظل الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، أصبح أردوغان يطرح الحلول لإنهاء ازمة الطاقة في اوروبا، وهو الآن يحظى بدعم أمريكي ويبادر بمراجعة سياساته تجاه إسرائيل وقبرص واليونان. ولقد استغل أردوغان علاقاته الجيدة بالرئيس الإسرائيلي الحالي هيرتزوج لاستئناف العلاقات مع الدولة العبرية، فقرر فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الثنائية معها.  ويأمل أردوغان في أن يؤدي تطبيع العلاقات مع تل أبيب إلى جعل تركيا جسرًا لنقل الطاقة إلى أوروبا، بعد أن تخلى بايدن عن دعم اتفاقية بناء خط أنابيب “إيست ميد” التي أبرمتها إسرائيل مع اليونان وقبرص، لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى اليونان وإيطاليا.

بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية التركية، هناك أيضا مصالح عسكرية، حيث يتواجد حاليا وفد تركي بالعاصمة الأمريكية واشنطن لإبرام صفقة لشراء طائرات مقاتلة من طراز F-16. وتحظى تلك الصفقة بدعم الإدارة الأمريكية، لكنها تلقى معارضة واسعة داخل الكونجرس بسبب التقارب التركي مع روسيا خلال السنوات الأخيرة. وبعد الإعلان عن استعادة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، تتوقع تركيا أن يمتنع اللوبي الموالي لإسرائيل عن دعم اللوبي الموالي لليونان والذي يرفض تزويد تركيا بطائرات F-16.

إسرائيل بين الآمال والمخاوف!

مع استمرار أزمة الغاز بين اليونان وقبرص وتركيا،  ترى إسرائيل أنها تمثل وسيطا يمكنه حل أزمة النزاع على الطاقة بين الدول الثلاث، في ظل عدم الاعتراف بحقوق قبرص التركية.

ويمثل التقارب التركي الإسرائيلي فرصةً لتل أبيب لتعزيز علاقاتها ومكانتها في المنطقة، مستغلةً قدراتها التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية. وما يشجع إسرائيل هذه المرة هو أن تطبيع العلاقات مع تركيا سيكون مختلفا عن ذي قبل، لأنه يتعلق بمصالح تركيا السياسية والاقتصادية والتجارية، بمعنى أن أردوغان سيكون لديه ما يخسره إذا استفزإسرائيل.

وتُقدم تل أبيب على التطبيع مع أنقرة بخطى واثقة لأنه سيبدد المخاوف الإسرائيلية من تحول السياسة الخليجية تجاه إيران، والمتمثل في الحوار الاستراتيجي الذي تُجريه الرياض مع طهران عبر الوساطة العراقية، إلى جانب تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية والتجارية بين الإمارات وإيران، الأمر الذي من شأنه أن يعرقل مستقبل الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة.

لكن  التطبيع مع تركيا لا يبدد مخاوف الإسرائيليين من تقلب مواقف أردوغان وانتمائه لجماعة الإخوان. وعداء تركيا الشديد لحليفتي إسرائيل وهما قبرص واليونان. فضلا عن محاولة أنقرة الفصل بين إسرائيل وأوروبا عبر اتفاقية ترسيم الحدود التي أبرمتها أنقره مع حكومة طرابلس الليبية. كما تتخوف إسرائيل أيضًا من مواصلة الدعم التركي لحركة حماس طالما ظل أردوغان في سدة الحكم.

ختاما، فإن التقارب التركي الإسرائيلي سيكون له العديد من التداعيات:

1 – تضييق الخناق على عناصر الإخوان وقيادات حماس في الداخل التركي، ومنعهم من تدبير أي عمليات ضد إسرائيل من الأراضي التركية.

2- سرعة توجه أردوغان للتقارب الجدي مع القيادة المصرية وتعزيز التعاون الاقتصادي والأمني بين البلدين.

3- تحسن العلاقات بين أنقرة واشنطن بعد التقارب التركي مع إسرائيل، مما سيعزز الاقتصاد التركي وتمكين أردوغان من الفوز في الانتخابات المقبلة.

4- إضعاف التحالف الإسرائيلي مع قبرص واليونان وتعزيز مواقف تركيا لحفظ مصالحها في حوض شرق البحر المتوسط.

5- زيادة أهمية تركيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بمشروع نقل غاز شرق المتوسط إلى الدول الأوروبية عبر الأراضي التركية.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version