يرى المراقبون الإيرانيون أن الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير 2022م، واستمرار الحرب على هذا النحو، يعد نقطة تحول في تاريخ القارة الأوربية منذ الحرب الباردة؛ من حيث أنها خلقت تحديات أمنية للدول الأوراسية، كما أدت إلى تغييرات مفاجئة في مكونات سياسة الاتحاد الأوربي الخارجية والأمنية التقليدية. كما خلقت ضغطا على هيكل الأمن الدولي؛ أدى بدوره إلى تغيير في توازن القوى الفاعلة في المعادلات الدولية الحساسة، جعل كل طرف من أطراف الصراع يلجأ لاستخدام قدراته الدبلوماسية لتشكيل قرارات اللاعبين الإقليميين المهمين وعلى رأسهم إيران وفقًا لمصالحهم الخاصة ومصالح حلفائهم.
وفي هذا الإطار، حرصت الولايات المتحدة على ألا تتأثر مصالحها بتدفق الطاقة، وأمن إسرائيل، ومنع سباق التسلح النووي، ومكافحة الإرهاب، بقدر حرصها على مراقبة التحركات الروسية الرامية إلى كسر الاحتكار الأمريكي الأوروبي لقضايا أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، وتعزيز صداقتها مع الدول العربية وإسرائيل.
بينما حرصت روسيا على دفع المفاوضات النووية في اتجاه تحقيق مصالحه، وتحويلها لأداة ضغط على الدول الأوروبية، وعرقلة دخول إيران لأسواق الطاقة؛ والتأثير على العناصر ذات الصلة داخل إيران عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية، لبناء رأي عام يقبل المنطق الأخلاقي لسياستها، انطلاقا من أنها وقفت بجانب إيران أمام العقوبات الأمريكية القصوى، وواصلت ضخ استثماراتها في مجالات النفط والغاز والمفاعلات النووية، وعززت تعاونها في معظم الملفات الأمنية ذات الاهتمام المشترك، وأجرت معها مناورات عسكرية مشتركة بالخليج العربي. إلى جانب أنها أخذت تبحث عن تكتل أو تحالف جديد يضم شركائها الأمنيين والدول الصديقة المستعدة لمواجهة الغرب، وهو ما يمكن ملاحظته في تطور نمط التفاعل العربي سواء مع الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين.
أما إيران فقد اتخذت موقفا مساندا لروسيا في الحرب، جعل دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة تعتبرها شريكا لروسيا بدليل أنها باعت طائرات مسيرة لروسيا؛ الأمر الذي سوف يجلب على إيران مخاطر جسيمة ربما تشكل أحد أهم نقاط التحول لها، منذ قيام الثورة الإسلامية 1979م، خاصة أن الصراع الدائر بين روسيا والقوى الأوروبية على الأراضي الأوكرانية قد هيأ البيئة المواتية لبروز كثير من التهديدات وقليل من الفرص المحتملة أمام إيران. حتى أصبح موقفها أكثر تعقيدا؛ خاصة أن روسيا هي شريكها الأمني والعسكري الرئيسي، والصين شريكها الاقتصادي الرئيسي.
أولا: محددات الموقف الإيراني:
انطلق الموقف الإيراني من الغزو الروسي لأوكرانيا من تصور أن النظام العالمي على وشك استعادة التعدد القطبي، وانتقال مركز القوة إلى القارة الآسيوية. وبما أن روسيا والصين هما شريكا إيران على المستوى الاستراتيجي، ووقفتا بجانبها في ذروة العقوبات الأمريكية «فلن تتخلى إيران عن شركائها الاستراتيجيين تحت أي ظرف من الظروف» خاصة بعد قرار الرئيس «جو بايدن» تمديد حالة الطوارئ الوطنية ضد إيران، في 15 مارس 2022م، وبناء عليه بدى الموقف الرسمي الإيراني من هذا الغزو كما لو كان صدى للدعاية الروسية؛ بعد أن خلصت حسابات طهران إلى ضرورة الوقوف بجانب روسيا، وعدم إدانة غزوها لأوكرانيا، للاعتبارات التالية:
- دعم موقف إيران في المفاوضات النووية، خاصة أن انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، جعل إيران في حاجة ماسة لروسيا والصين للتخلص من الضغوط الأمريكية. وإتمام المفاوضات النووية ومساندة مكانة إيران فيها، والدفاع عن مصالح طهران في مجلس الأمن، تحصل موسكو في المقابل على عقود مواتية في مجال حقول النفط والغاز الإيرانية. في حين ترى روسيا أن إيران تمثل ورقة رابحة حقيقية تمكنها من توظيف التهديدات الإيرانية ضد الغرب لصالحها، من ناحية. وجني فوائد اقتصادية من وراء مساعدتها في إحياء صناعتها النووية، من ناحية أخرى.
- الرغبة في تطوير القدرات العسكرية: يعد التعاون مع روسيا، إلى جانب الجهود المبذولة لتطوير التكنولوجيا العسكرية المحلية، ركيزتان رئيسيتان لاستراتيجية إيران لتطوير قواتها المسلحة. وذلك لاعتبارين أولهما تطلع القادة الإيرانيين إلى رفع مستوى التعاون العسكري مع إيران إلى مستوى أعلى للحصول على قدرات عسكرية متقدمة. خاصة أن الدول الغربية لن تكون على استعداد للتعاون مع إيران في مثل هذه المجالات؛ بدليل أن حظر الأسلحة الدولي المفروض على إيران انتهى رسميًا في أكتوبر 2020م، ولكن لم تبد أي دولة اهتمامًا بتوسيع تعاونها العسكري مع إيران باستثناء روسيا والصين اللتان عارضتا تمديد حظر الأسلحة المفروض على طهران.
- دعم الصمود أمام العقوبات الدولية: من حيث تعزيز الموقف الإيراني أمام دول الاتحاد الأوربي، استنادا إلى تفاقم النزاع بين روسيا والغرب بسبب الغزو. ولذا وصفت طهران هذا الغزو بأنه عملية خاصة اضطرت إليها روسيا لحماية أمنها بعد عقود من التوسع الغربي المزعزع للاستقرار، وأنه ضروري لمقاومة عدوان الغرب / الناتو. وأنه يتماشى مع مصالح طهران ويتماس مع استراتيجية إيران الكبرى للصمود أمام الولايات المتحدة، خاصة في ضوء الحسابات الإيرانية لهذا الغزو بأن يعد مؤشرا قويا على تراجع انفراد الولايات المتحدة بقطبية العالم، وانتقال سلطة توجيه السياسات العالمية إلى آسيا.
- تعزيز استراتيجية الاتجاه غربا: خاصة أن الأصوليين، الذين سيطروا بشكل كامل على السلطة الإيرانية، منذ الانتخابات البرلمانية عام 2020 والانتخابات الرئاسية لعام 2021م، يرون أن العقوبات الغربية الواسعة على روسيا، سوف تفتح آفاقا أرحب أمام تنمية علاقات إيران الاقتصادية مع روسيا، ورفع مستوى التبادل التجاري معها إلى 20 مليار دولار. وهذا من شانه تعزيز مكانة إيران الأسيوية ونفوذها بمنطقة غرب آسيا. ومن بين هؤلاء الأصوليين الذي يؤمنون بذلك اللواء «يحيى رحيم صفوي» كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى للثورة، انطلاقا من أن إيران دولة آسيوية لديها الاستعداد للمساهمة في بناء القوة الأسيوية الصاعدة، خاصة أنها عضو بمنظمة شنغهاي، الاتحاد الأوراسي للتعاون الاقتصادي (تأسس في 29مايو 2014م) وكذلك «حسين شريعتمداري» رئيس تحرير صحيفة «كيهان» وأحد الرموز الأصولية، الذي دعا لقيام «تحالف الدول الخاضعة للعقوبات» يضم إيران وروسيا والصين، اعتقادا منه أن مثل هذا التحالف يمكن أن يجعل إيران قوة عظمى بمنطقة الشرق الأوسط.
ثانيا: حسابات المصلحة الإيرانية
وعلى الرغم من هذا، فقد اخذت إيران في حسبانها أيضا الاحتمالات التالية:
- من المحتمل أن تقلل تداعيات الحرب من جاذبية الاتحاد الأوراسي لإيران، التي وقعت اتفاقية معه، في 27 مايو 2017م، بعد أن أعلنت روسيا، في مارس 2022م، تعليق صادرات الحبوب لأعضائه (بيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزيا وأرمينيا) حتى 31 أغسطس؛ لتغطية الطلب المحلي. الأمر الذي أدى إلى إثارة نقاشات إيرانية حول الفائدة الحقيقية من وراء عضوية إيران باتحاد لا يدعم أعضائه في أوقات الأزمات.
- أن إطالة أمد الحرب قد تدفع الصين إلى إعادة النظر في استخدام الطريق بين روسيا وأوروبا، باعتباره ممرًا رئيسيًا بمبادرة الحزام والطريق، خاصة لو نجحت المفاوضات النووية، وتم رفع العقوبات عن إيران، وعندها يمكنها أن تصبح ممرًا بديلاً لتدفق حركة التجارة بين الشرق والغرب، وبالتالي يتعزز تعاونها الاقتصادي تلقائيا مع الصين.
- أن روسيا تشعر بالقلق من احتمال قيام إيران بتطبيع علاقاتها مع الغرب، بعد التوقيع المحتمل على الاتفاق النووي، عندها سيكون من المرجح أن تتقلص مكانتها ومصالحها لدى إيران. وفي المقابل تشعر إيران بالقلق من اختلال التوازن في علاقاتها مع روسيا، ويعتبرها البعض شريكا انتهازيًا يركز فقط على تحقيق مصالحه؛ بدليل تعمدها «تخريب المفاوضات النووية» وتوثيق علاقاتها مع أعداء إيران الإقليميين (إسرائيل والإمارات والسعودية)
- وعلى الرغم من ذلك يعتبر النظام الإيراني روسيا ضامنًا عسكريًا وأمنًا قويًا لاستقراره، وأن العزلة الجديدة لروسيا ربما تؤدي إلى تحسين مكانة إيران لدى روسيا بصورة أعمق، شريطة أن يستخدم أوراقه بعناية، فإن الرأي العام الإيراني مؤمن بأن تحالف بلاده مع روسيا يمثل تهديدًا للقيم الديمقراطية
- أن الحرب الروسية الأوكرانية أحدثت فجوة واسعة بين الموقف الرسمي والرأي العام الإيراني من جهة، وبين النخب السياسية المحافظة والمعتدلة من جهة أخرى حول كيفية إدارة إيران لعلاقاتها مع روسيا، فقد ندد رموز التيار الإصلاحي، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق «محمد خاتمي» بالاجتياح الروسي لأوكرانيا ووصفه بأنه غزو دولة أجنبية لدولة مستقلة ذات سيادة. كما انتقد «على مطهري» العضو المؤثر السابق بمجلس الشورى الإسلامي، تغطية الإذاعة والتلفزيون الرسميين تطورات الحرب بطريقة بدت كما لو كانت إيران «مستعمرة روسية» كذلك شدد الدبلوماسي المخضرم «جاويد قربان أوغلي» المدير العام السابق لإدارة أفريقيا بوزارة الخارجية، على أنه يجب على إيران أن تنتهج سياسة مستقلة و «لا تراهن على الحصان الخاسر وهو روسيا»
- بصرف النظر عن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي أثرت على إيران على المستويات الأمنية والسياسية والجيوسياسية، كانت التداعيات الاقتصادية أكثر تأثيرا على الأمن الغذائي الإيراني، نظرا لأن روسيا وأوكرانيا تستحوذان على 29٪ من صادرات القمح العالمية، و80٪ من صادرات زيت عباد الشمس، و19٪ من صادرات الذرة في العالم. وبما أن انتاج إيران السنوي من القمح يبلغ 4,5 مليون طن، وتستهلك ما بين 11 و12 مليون طن سنويا، فإنها تستورد ما بين 6,3 طن و9 ملايين طن سنويا، من روسيا وكازخستان وأوكرانيا وألمانيا.
التقدير:
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الأزمة لروسية الأوكرانية سوف تفضي إلى الاحتمالات التالية:
- تغاضى واشنطن عن بيع إيران لإنتاجها النفطي بشكل أكبر من ذي قبل؛ حتى تتمكن أسواق الطاقة العالمية من استعادة توازنها. في هذه الحالة، ستجني إيران مكاسب غير متوقعة يمكن أن تحل جزءًا من مشاكلها المالية. بدليل أنها رفعت سقف مواردها من النفط والغاز والمتكثفات إلى 91 مليار دولار بموازنة العام المالي الجديدة.
- ممارسة إيران نوعاً من الغموض الاستراتيجي كي تستخلص أفضل النتائج من الأطراف المتنافسة. بحيث تسعى، في ظل الضغوط الأوربية، لتتبنى موقف محايد من الحرب الجارية، ولكن دون تتخلى عن تعاونها الأمني مع روسيا، أو تخسر فوائد تعاونها الاقتصادي مع بعض الدول الغربية.
- لجوء إيران إلى تقليص اعتمادها على الدبلوماسية الوسيطة؛ حفاظا على توازن مواقفها السياسية، نظرا لأن الوسطاء سواء الروس أو الأوربيين أو القطريين الساعين لحل الخلافات المتعلقة بالعقوبات مع واشنطن ضمن المفاوضات النووية، يسعون أيضا لجني أرباح وساطتهم من إيران.
- من المحتمل، أن يخلق موقف إيران من الحرب، وسوء إدارتها للأزمة على المستوى الداخلي وضعف خطابها الخارجي، إلى جانب الصورة السلبية التي قدمت عنها بوصفها شريك لروسيا ضد أوكرانيا، أزمات أمنية وعسكرية، وربما تحويلها لهدف عسكري أسهل إذا أرادت الولايات المتحدة الرد على روسيا. وأن تزيد من احتمالات فرض عقوبات جديدة عليها
- تأثر صادرات الغاز الإيرانية لتركيا، إذا نجحت أنقرة في استخراج الغاز من البحر الأسود.