يعيش السودان أوضاعًا أمنية وإنسانية خطيرة منذ منتصف أبريل الماضي بسبب القتال المستمر بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وعدد من مناطق البلاد الأخرى والذي أدى إلى مقتل نحو 10 آلاف شخص، وتشريد أكثر من 6 ملايين، وإحدث خسائر اقتصادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، فما أسباب القتال؟ ما هي الأطراف الفاعلة في الأزمة و دورها؟ وما تقيمنا بعد مرورو ٦ أشهر علي تلك الأزمة؟ وما فرص مبادرات السلام؟
خلفية الأزمة في السودان و سببها
اندلعت أعمال العنف المسلح بين قوات الجيش تحت قيادة رئيس المجلس السيادى السودانى الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتى”، فى الساعات الأولى من صباح السبت 15 أبريل 2023.
وأشارت الأحداث السابقة لتاريخ اشتباكات الجيش والدعم السريع، إلى أن السودان منذ أكثر من 17 شهرا كان يشهد فراغا سياسيا فى ظل عدم وجود حكومة تنفيذية، وتولت حكومة مكلفة مؤقتا تسير شئون الدولة إلى أن يتم الانتقال السياسى للسلطة المدنية بإدارة البلاد، ولكنها واجهت صعوبات شديدة، فمنذ أكثر من عام ونصف العام، يعانى السودان اضطرابات كبيرة فى ظل عدم وجود حكومة تنفيذية، بعد رحيل حكومة عبد الله حمدوك على خلفية الإجراءات التى اتخذها الجيش فى 25 أكتوبر 2021.
ورغم ذلك؛ وصل السودان فى 5 ديسمبر 2022 إلى إبرام الاتفاق الإطارى لبدء الانتقال السياسى لمدة عامين، وتحدد 1 أبريل 2023 موعد توقيع الاتفاق السياسى النهائى، ونشأت خلافات عسكرية أجلت توقيع اتفاق نقل السلطة، وفى 6 إبريل 2023 قامت قوى الحرية والتغيير بتأجيل التوقيع على الاتفاق النهائى.
وفى 15 أبريل اشتبكت قوات الجيش مع قوات الدعم السريع اشتباكات عنيفة بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وهنا أضحت الصورة واضحة عما يحدث فى السودان، ومن هم أطراف القتال، فالطرف الأول الجيش السودانى، والطرف الثانى قوات الدعم السريع.
الخلاف بين “الجيش” و”الدعم السريع” يخلص إلى:أن “الجيش” يريد دمج قوات الدعم السريع وفقا لآليات ومواقيت وشروط دمجهما فى قوات مسلحة موحدة، وإخضاع ضباط “الدعم السريع” للشروط المنصوص عليها فى الكلية الحربية، ووقف التعاقدات الخارجية والتجنيد والابتعاد عن العمل السياسى.
فيما يشترط “الدعم السريع” هيكلة القوات المسلحة قبل الدمج، وتجريم الانقلابات العسكرية وفرض الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية عبر البرلمان، ومراجعة وتطوير العقيدة العسكرية وتنقية القوات المسلحة وقوات الدعم السريع من عناصر النظام السابق وأصحاب الأيديولوجيات. ومن هنا خلقت الاختلافات بين “الجيش” و”الدعم السريع” انقسامات؛ زادت اتساعها اختلافات أخرى، أحدثت انشقاقا تاما بين الطرفين ما جعل فكرة دمجهما أمرا شبه مستحيل فى الوقت الراهن
ما طبيعة العلاقة بين الأمارات وحميدتي ودورها في أزمة السودان؟
الاستراتيجية المالية لقوات الدعم السريع تشبه كثيرا بل تبدو مُلهمَة من تلك التي اعتمدتها مجموعة فاجنر، إذ أنشأ حميدتي شبكة هائلة من شركات الظل “يديرها شقيقه الأصغر في دبي، القوني حمدان دقلو، لذلك تفتقر العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة في سبتمبر الماضي إلي القوة ولن تعيق قوات الدعم السريع عسكريا، حيث كشف تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال، عن تسليم العشرات من شحنات الأسلحة الإماراتية إلى قوات الدعم السريع عبر مطار أمدجراس في تشاد.
وفي الآونة الأخيرة لاحظنا استخدام الميليشيا أسلحة متطورة جديدة وكانت إحدى الطائرات بدون طيار التي أسقطتها القوات المسلحة السودانية تحمل علامات تشير إلى أنها مصنوعة في صربيا وتم بيعها إلى الإمارات، وأكد تقريرلصحيفة وول ستريت جورنال علي ظهور صاروخا مضادا للدبابات في يد أحد جنود الميليشيا، وهو صاروخ “قدمته فاجنر مقابل ذهب قوات الدعم السريع”واستخدمت قوات الدعم السريع كلا السلاحين في هجومها الأخير في جنوب الخرطوم، ومع ذلك، لم تقم الحكومة الأميركية بإدانة شحنات الأسلحة الإماراتية، في حين يؤدي استمرار وصول شحنات تلك الأسلحة المتقدمة لقوات الدعم السريع إلي إطالة أمد الصراع في السودان والذي بدوره سيؤثر علي أمن المنطقة بأكمالها.
في المقابل، للإمارات مصالح حيوية في موانئ السودان وأراضيه الزراعية، فقبل أشهر من الحرب، أعلنت الإمارات عن مشروع بقيمة 6 مليارات دولار على البحر الأحمر في شرق السودان، ويتضمن المشروع ميناء جديدا ومطارا وطريقا إلى منطقة زراعية في شمال السودان، فمن الممكن للأمارات الحفاظ علي مصالحها ولكن دون دعم ميليشيا حميدتي، لأن نتيجة لدعمها لقوات الدعم السريع ستلحق الضرر بصورتها العامة وكذلك مصالحها الإستراتيجية طويلة المدي في السودان.
الصراع الروسي الأمريكي بالسودان
إن فهم الطبيعة الأعمق للصراع الذي يهز السودان يتطلب دراسة الأنشطة الروسية في المنطقة، فلدي روسيا والقوى الغربية الكبرى على حد سواء مصالح سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة في السودان. تخشى روسيا مثلاً من أن يؤثر الصراع الحالي على التصديق على الاتفاقية بين موسكو والخرطوم، بشأن إنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في السودان والذي يخطط له لكي يصبح قاعدة أو مركز لوجستي مهم للبحرية الروسية، لأنها تتيح إمكانية الوصول المباشر إلى جمهورية إفريقيا الوسطى غير الساحلية ومنطقة الصحراء والساحل حيث تعمل شركات التعدين الروسية.
تعد المصالح الروسية في السودان هي بالدرجة الأولى أمنية، وكذلك في مجال الدعم العسكري التقني، لأن السودان هو ثاني أكبر مشتري للأسلحة الروسية في إفريقيا بعد الجزائر وهو يتفوق حتى على مصر التي تأتي في المرتبة الثالثة. كذلك يوجد (16) اتفاقية بين روسيا والسودان، هذه الاتفاقيات منحت روسيا قواعد مجانية وأتاحت لها الحرية باستخدام المطارات السودانية لنقل الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية اللازمة للقاعدة والسماح بإرسال عدد محدود من السفن و (300) فرد كحد أقصى إلى الميناء، وهو أول مركز بحري لروسيا في إفريقيا.
فيما تخطط الولايات المتحدة لمزيد من الانتشار في البحر الأحمر حيث أرسلت فعلاً بعض القوات الخاصة البرية والقطع البحرية تحت مسمى الإجلاء، فيما تشير تقارير استخبارتية إلى أنها تخطط لإبقائها، خاصة بعد تواصل بلينكن وحميدتي الذي دعا إثرها إلى التدخل الدولي.
كما ركزت تقارير عديدة في وسائل الإعلام أميركية وبريطانية وألمانية على عمليات دعم تقدمها قوات “فاجنر” لقوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، انطلاقاً من قواعد عسكرية بليبيا (قاعدتي الخروبة شرقاً والجفرة جنوباً) تحت سيطرة خليفة حفتر، تم رصدها عبر أقمار اصطناعية، تظهر عمليات نقل جوي ودعم لقوات “الدعم السريع” بعتاد عسكري وصواريخ وتدريبات وربما نقل مقاتلين مرتزقة من الجنجويد شاركوا سنة 2019 مع قوات حفتر في الهجوم على العاصمة طرابلس، نفت قوات حفتر انحيازها لأي طرف في الصراع المسلح الدائر بالسودان.
أكثر ما يزعج واشنطن هو أمن البحر الأحمر، وبالتالي فإن وجود قاعدة روسية في بورتسودان يدفعها إلى التحرك من أجل قطع الطريق على ذلك، ولا سبيل أمامها إلا بإنهاء نفوذ “فاجنر” في السودان. وقد بدأت باستقدام قوات تدخل سريع وقوات خاصة إلى جيبوتي. ومن الواضح أن واشنطن سوف تضع ثقلها إلى جانب البرهان لحسم الحرب ضد خصمه حميدتي، إلا أنه ليس هناك ضمانات لنجاح هذا المسعى بسرعة. وقد تجد أميركا نفسها متورطة في حرب أهلية، وهذا بعض مما تطمح له روسيا.
تقييم وقراءة مستقبلية للوضع في السودان
تشبه الأحداث الدامية حالياً في السودان صراعاً نموذجياً على السلطة في الدول الهشة، حيث توجد أكثر من مجموعة مسلحة قوية، وتتنافس كل منها على السيطرة. ومع ذلك، فإن الصراع السياسي والمواجهة العسكرية المتصاعدة هي في الواقع أكثر تعقيداً بكثير من الصراع التبسيطي على السلطة، ويرجع ذلك لأهمية موقع السودان الجيوسياسية في ظل استقطابات دولية خلفتها الحرب الأوكرانية.
هناك تواجد عسكري روسي في إفريقيا الوسطى المجاورة للسودان وتتطلع روسيا إلى بناء قاعدة في الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر لزيادة تأثيرها في القرن الإفريقي وتوسيع حضورها في مضيق باب المندب. حيث تخشى الولايات المتحدة الأميركية من تزايد النفوذ الروسي أو الصيني في السودان وهي ترى في احتمال سيطرتهما عليه ليس مجرد تحذير من تهديد محتمل لمصالحها في المنطقة فحسب، بل مؤشر يدفعها إلى إعادة تقييمها لمصلحتها في السودان. لهذا السبب قام مسؤولون عسكريون أميركيون كبار بزيارة السودان خلال الفترة القليلة الماضية.
سيؤثر الصراع المستمر على السلطة في السودان، على مستقبل مصالح القوى الكبرى في السودان وإفريقيا بشكل عام، وخاصة الولايات المتحدة، وروسيا، التي تحاول حتى الآن ممارسة الحياد، بانتظار تبيان الموقف الميداني. وتعمل مجموعة “فاجنر” من أجل أن تميل الكفة لصالح روسيا في هذا النزاع، خاصة وأنها حاضرة أكثر من غيرها على الأرض، وتحتفظ بقدرات عسكرية وأمنية في السودان يمكن توظيفها لصالح قوات الدعم السريع. ومن المرجح أن تستقدم “فاجنر” المزيد من الدعم اللوجستي من قواعدها في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو. وتشكل ليبيا أهم محطة دعم في قارة إفريقيا بفضل القواعد العسكرية التي تسيطر عليها في المناطق الواقعة تحت نفوذ اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
إن السودان سيشهد حالة من التنافس المحتمل على كسب النفوذ بين الغرب وروسيا، شأنه في ذلك شأن العديد من المناطق في إفريقيا. ويعزز من احتمالات ذلك السباق المحتدم بين الطرفين على تعزيز الوجود في إفريقيا على كافة المستويات منذ بداية الحرب الروسية–الأوكرانية من ناحية، واستمرار حالة عدم التوافق السياسي الداخلي بين المكونين العسكري والمدني من ناحية أخرى، وهو ما يفرض معه على السودان محاولة موازنة المصالح المتبادلة مع كلا الطرفين في هذه المرحلة بما يخدم منظومة الأهداف الذاتية السودانية، المرتبطة في الأساس بإيجاد حل سريع وفعال قائم على تبني صيغة سياسية داخلية متوازنة بين الأطراف الداخلية الفاعلة لتجاوز المرحلة الانتقالية.
فرص مبادرات السلام
يأتي استمرار المواجهات العسكرية في السودان ليُعقد كثيرًا من فرص نجاح مبادرات السلام، والتي شهدت انفراجة كبيرة بعد عقد قمة دول جوار السودان في القاهرة والتي أعقبها عقد اللقاء التشاوري لوزراء خارجية دول جوار السودان في العاصمة التشادية نجامينا. ومع ذلك، تظل الأبعاد العسكرية للأزمة السودانية المصدر الرئيسي لإعاقة إحراز تقدم ملموس في مسارات السلام.
فعلى سبيل المثال، عاد الجيش إلى طاولة المفاوضات في مدينة جدة والتي تجري بتنسيق مشترك بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية كآلية لتأسيس تفاهمات مباشرة بين القوات المسلحة السودانية من جانب وقوات الدعم السريع جانب آخر. هذا، وتحاط عملية التفاوض في جدة بسرية تامة دون الإفصاح عن أي معلومات سواء كانت متعلقة بسير المفاوضات أو بمجريات العمليات العسكرية بين طرفي الصراع. لكن تعثر عملية التفاوض بشأن القضايا العسكرية دفعت وفد القوات المسلحة السودانية للعودة للخرطوم للتشاور بسبب تعنت وفد قوات الدعم السريع، وعدم انصياعها لتنفيذ التزاماتها الموقعة مع الجيش السوداني في وقت سابق، وفي مقدمتها إخلاؤها المستشفيات والمنازل والمرافق الخدمية، فضلًا عن عدم احترام الدعم السريع للقواعد المتبعة في الحروب لحماية المدنيين العزل، حيث تستخدم المدنيين دروعًا بشرية في حربها مع الجيش.
ومن الواضح أن عودة وفد الجيش السوداني لمفاوضات جدة في ظل تطورات الصراع الحالي كانت مرهونة بقدرة الوساطة على تذليل العقبات التي حالت دون مواصلة المفاوضات. وما يزال الجيش يؤكد في المفاوضات على النقطة الفارقة التي اندلع بسببها الصراع، وهي أنه مستعد لتجهيز معسكرات للدعم السريع تمهيدًا لدمجهم في الجيش السوداني أو التسريح لمن لا تنطبق عليه الشروط التي تم إعلانها من قبل والضامنة لاحترافية ونزاهة وحياد كافة أعضاء القوات المسلحة السودانية في المستقبل.
هذا الوضع المعقد لمفاوضات جدة يفرض انخفاض سقف التوقعات من عمليات السلام الجاري دفعها للأمام بجهود إقليمية ودولية، حيث يسود في الوقت الراهن قلق كبير من إطالة أمد الحرب وتمددها جغرافيًا لتشمل العديد من الدول الأفريقية التي تعاني في الأصل من أزمة عميقة للاندماج الوطني.
في الختام.. إذا طال أمد الصراع ولم يتم التوصل إلى تسوية، ومن الممكن أن تتحول اتهامات الأطراف لبعضها البعض بمساعدة أطراف أخرى في المنطقة تصبح حقيقة وتتحول إلى حرب طويلة متشابكة ومعقدة، ويجب أن تكون أزمة السودان بمثابة تحذير لأوروبا، التي لا يزال يتعين عليها اتخاذ خطوات إلى الأمام نحو علاقة قوية مع إفريقيا، وفهم أن مصائر القارتين مرتبطة ارتباطا وثيقاً.