بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023م، والتي دفعت الجيش الإسرائيلي لشنه عدوانه المسمى”السيوف الحديدية” على قطاع غزة، كان لأمهات الجنود الإسرائيليين دور بارز في التعبير عن معارضتهن لوجود أبنائهم في متون الحرب المستعرة واستمرار الحرب. لذلك تكونت عدة جماعات نسائية بهدف الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف الأعمال الحربية وحماية أبنائهن الجنود. وكانت هذه الجماعة على غرار حركة “الأمهات الأربعة”، وهي احدى الحركات النسائية الإسرائيلية التي تشكلت في إسرائيل في أواخر التسعينيات، وتحديدًا عام 1997م، تشكلت من أمهات الجنود الإسرائيليين اللواتي دعون إلى ضرورة انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، وبالفعل حققت الحركة أهدافها بانسحاب القوات الاسرائيلية عام 2000م، وكانت بدايتها بعد مقتل الجندي الإسرائيلي “إيال فاينبرج” في جنوب لبنان، مما دفع أربع أمهات إلى المطالبة بانسحاب الجيش الإسرائيلي من المنطقة الأمنية التي كان يحتلها في جنوب لبنان. من هنا جاء اسم “الأمهات الأربع”، والبعض يقول أن التسمية جاءت من العهد القديم وهي تشير إلى الأمهات الأربع (سارة ورفقا وراحيل وليئا) أزواج الآباء الثلاثة (إبراهيم وإسحاق ويعقوب).
الجانب النفسي للجنود الإسرائيليين بعد عملية ” طوفان الأقصى”
تركت عملية العدوان الإسرائيلي على غزة الكثير من النتائج السلبية على نفسية الجنود الإسرائيلين، حيث خصصت وزارة الصحة الإسرائيلية خطًا هاتفيًّا للدعم النفسي للجنود، فضلا عن تخصيص عددا من مراكز الصحة النفسية لتحويل الجنود لها، كما إستحدثت خط الطوارئ “عران”، وقد تعددت الأعراض النفسية التي أصابت الجنود “قلق، واكتئاب، واضطرابات في الطعام، واضطرابات في النوم، واضطرابات ما بعد الصدمة وغير ذلك”. كل هذا وغيره جعل أمهات الجنود يحاولن إحياء تلك الحركة مرة أخرى خوفًا على أولادهن، رافعين شعار عودة أبنائهن أحياء بدلا من عودتهم في نعوش وتوابيت.
وبالفعل شكلوا حركات احتجاجية ومبادرات ضد استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. على سبيل المثال، في مارس 2024م، بدأت بعض الأمهات في التعبير عن معارضتهن لاستمرار الحرب، خاصة مع إعلان الجيش عن نية التقدم نحو رفح الفلسطينية بالقرب من الحدود المصرية. أدركت الأمهات أن أبناءهن لا يجب أن يكونوا هناك، مما دفعهن للتحرك والاحتجاج. أضف إلى ذلك المبادرة التي قدمتها ميشال برودي أستاذة الرياضيات ضد الحرب، حين حملت لافتة مكتوبة بخط اليد تدعو إلى “المفاوضات من أجل إطلاق سراح المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية”، وسارت في وسط مدينة القدس للمشاركة في أول مظاهرة احتجاجية منذ بدء الحرب. عند وصولها، وجدت الشرطة قد فرقت المظاهرة، فتعرضت هي نفسها للعنف من قبل رجال الشرطة، وتلقت تهديدات بالقتل.
ولكن برودي لم تيأس فأنشأت مجموعة دردشة على تطبيق واتساب جمعت فيها أمهات الجنود وكل أمرأة في المجتمع الإسرائيلي ممن لهن الأهداف نفسها؛ بهدف الضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب وسحب الجنود من غزة. على الرغم من أن هذه المبادرة لم تحظ باهتمام عام، إلا أنها استلهمتها من حركة “الأمهات الأربع” التي أثرت في السابق على الرأي العام الإسرائيلي، ودفعت الحكومة إلى سحب قواتها من الجنوب اللبناني دون التنسيق مع الحكومة اللبنانية في حينه.
كما تشكلت حركات أخرى مشابهة تتبني الأهداف نفسها، منها حركة “آباء وأمهات المقاتلين ينادون: توقفوا”، التي تشكلت في مارس 2024م. وقد تشكلت من أمهات شاهدوا بأعينهن كيف أن الشباب الإسرائيلي يفقد حياته وصحته في مواجهات وحروب لاتخدم المصلحة العليا للبلاد وإنما تحقق أهدافا سياسية لا دخل لهم بها. وقد قامت هذه الأمهات بتنظيم وقفات احتجاجية ومظاهرات، مثل الوقفات الاحتجاجية أمام منزل نتنياهو على سبيل المثال.
على الجانب الآخر تأسست أيضا جمعية “أمهات على خط المواجهة”، والتي طالبت بضرورة التجنيد الإجباري للجميع، بما في ذلك اليهود المتشددين الذين يرفضون التجنيد، مستنكرين إعفائهم، بوصفهم جزءا من المجتمع، ومن ثَم فإن التجنيد العسكري واجب عليهم، وقد أسست هذه الجمعية المحامية أيليت هشاحار سيدوف، كما عبرن عن رفضهن لاستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية مطالبين بضرورة وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من أن هذه الحركات والجمعيات لم تلقَ تأييدًا واسعًا في البداية، بل على العكس تعرضن لاتهامات بالخيانة أو إضعاف معنويات الجنود، إلا أنهن تمسكن برأيهن وتشبثن بإرادة حديدة وأفكار فولاذية للدفاع عن أهدافهن وحماية أبنائهن. وقد أشارت استطلاعات الرأي في منتصف يناير 2025 إلى أن 80% من الإسرائيليين يؤيدون الاتفاق الموقع بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، والذي بموجبه ينسحب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة.
ومن هنا لابد من الإشارة إلى أن أمهات الجنود يلعبن دورًا ما في تشكيل الرأي العام الإسرائيلي، بهدف الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لضرورة إعادة النظر في سياستها الخارجية والداخلية وكذلك استراتيجيتها العسكرية في غزة. كما أنه يمكن القول بأن الحرب على غزة أعادت للمرأة الإسرائيلية دورها للعلن لكي تؤثر في سياسة مجتمعها.