في خطوة منتظرة منذ أسابيع، دعا عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المعتقل في سجن أمرلي (سيء السمعة) منذ 27 عامًا، أعضاء حزبه لنزع السلاح وحل الحزب، تصريح أوجلان يعيد للأذهان مسيرة 40 عامًا من النزاع المسلح والمفاوضات مع الدولة التركية منذ اعتقال أوجلان ومحاكمته في 1999، فقد اعتقد الكثيرون أن سجن أوجلان سيُنهي مسيرة حزب العمال الكردستاني، ولكن هذا ما لم يحصل، ففي عام 2004 استأنف الحزب القتال مجددًا، ثم بدأت محادثات سرية بين مسؤولين أتراك وزعماء الحزب في عام 2009 كان مصيرها الفشل والانهيار عام 2011.
في أواخر عام 2012 بدأت المفاوضات مع أوجلان نفسه في سجنه، وفي شهر مارس عام 2013 دعا أوجلان إلى وقف إطلاق النار لأول مرة، مما نتج عنه بدء انسحاب قوات حزب العمال الكردستاني من تركيا، لكن وقف إطلاق النار هذا لم يدم طويلاً، وانتهى في يوليو 2015 بالرغم من استمرار دعوات أوجلان إلى التفاوض مع تركيا.
خطاب أوجلان الذي تلاه المتحدث باسم حزب الديموقراطية والمساواة لا يمكن فصله عن المتغيرات الداخلية والخارجية لتركيا، والتي شهدت تحولات مفصلية خلال الشهور الأخيرة على النحو التالي:
المتغيرات الداخلية:
يعد التحول الكبير في موقف دولت بهتشالي رئيس حزب الحركة القومية وحليف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبرز العلامات الدالة على المتغيرات الداخلية في تركيا، بهتشالي الذي سبق أن وصف ممثلي حزب الديموقراطية والمساواة داخل مجلس الأمة التركي بالإرهابيين عام 2023، هو نفسه من بادر بمصافحة نفس الممثلين في النصف الثاني من عام 2024 الماضي داخل المجلس، وقال بهتشالي في كلمة له أمام كتلة حزبه النيابية في أنقرة “من الممكن، بل ومن الإلزامي معالجة كل قضية في البرلمان وحلها بحكمة وطنية جماعية، وإذا كان الجميع متفقين على خلو البلاد من الإرهاب، فإننا على استعداد لتحمل المسؤولية وبذل جهودنا في ذلك”. وأضاف إن “زعيم الكردستاني الذي قال إنه مستعد لأي نوع من الخدمة أثناء جلبه إلى تركيا، مرحب به ليعلن من جانب واحد أن الإرهاب قد انتهى وأنه سيتم تصفية منظمته (الكردستاني)”.

تحول موقف دولت بهشتالي لا يمكن فصله بعيدًا عن نتائج الانتخابات الرئاسية وانتخابات البلدية التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك مدى تراجع وضعف حزب العدالة والتنمية في الشارع التركي.
نتائج الانتخابات والتي كان للعامل الاقتصادي التأثير الأكبر فيها، دفعت الحليفين أردوغان وبهتشالي للبحث عن انتصار كبير يحسب لهم، ويدعم موقفهم في خطوة التعديلات الدستورية المرتقبة، ومن هنا جاءت دعوة بهتشالي التي تلقاها أردوغان داعيًا إلى “تركيا خالية من الإرهاب”.
في السياق نفسه انقسمت المعارضة التركية بين مرحب حذر ومعارض كبير لدعوة بهتشالي، ففي الوقت الذي استنكر فيه مساواة درويش أوغلو رئيس حزب الجيد على الدعوة واعتبرها مخالفة لمبادئ القومية التركية، تحفظ فيه أوزجور أوزال رئيس حزب الشعب الجمهوري بدعوة بهتشالي خشية أن تكون عملية السلام هذه أداة لأجل مصالح سياسية ضيقة على حد وصفه، في إشارة للتعديلات الدستورية المرتقبة والتي قد تمكن الرئيس التركي من الترشح لفترة رئاسية جديدة.
المتغيرات الخارجية:
وعلى المستوى الخارجى، شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال الأشهر الأخيرة تغيرات كبرى أثرت على الإقليم بشكل لافت، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

1- يعد وصول المعارضة السورية برئاسة أحمد الشرع حليف تركيا للحكم في سوريا أبرز هذه المتغيرات، خاصة وأن الشرع دعا كل فصائل المعارضة المسلحة السورية ومن بينهم قوات سوريا الديموقراطية “قسد” – التى تعد الذراع الكردى السورى لحزب العمال الكردستانى – للانضواء تحت لواء جيش موحد.
2- وصول الرئيس ترامب المعروف بسياساته المغايرة لسياسات الرئيس السابق جو بايدن، يزيد من احتمالية سحب الولايات المتحدة دعمها المقدم لقوات “قسد”.
وقد لاقت دعوة أوجلان التي تفتقر الإشارة المباشرة للذراع الكردي السوري (قوات سوريا الديموقراطية) ترحيبًا دوليًا كبيرًا مماثل لترحيب قسد نفسها التي بادر المتحدث الإعلامي باسمها مظلوم عبدي بتأكيد أن دعوة أوجلان لا تشمل ذراع حزب العمال الكردستاني (قسد).
ماذا بعد الإعلان؟
في حال حققت دعوة أوجلان مبتغاها المنشود، فقد تشهد تركيا عدة تطورات داخلية وخارجية مثل:
1- إنهاء العمليات العسكرية على الحدود التركية مع سوريا والعراق.
2- تطور إيجابي في العلاقات التركية مع كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
3- تقليص المخاوف التركية من إمكانية قيام إقليم كردي انفصالي على شريطها الحدودي الأطول مع سوريا.
4- قد يتمكن الرئيس التركي من إجراء تعديل دستوري يمكنه من البقاء لفترة رئاسية جديدة، بعد تحقيق الاستقرار والأمن الداخلي والقضاء على الإرهاب.
إلا أنه لا يمكن حسم شكل مستقبل التعاون التركي الكردي لعدة أسباب منها النقاط التالية:
أولاً: تسيطر حالة من الضبابية على المشهد الكردي بالتحديد، خاصة وأن تصريحات القادة الأكراد لا تتناسب مع سياق دعوة أوجلان نفسه، الذي لم يطالب مثلاً بإطلاق سراحه كشرط لإعلان ترك السلاح وحل الحزب، بالإضافة إلى أن حبسه لم يعوق عملية المفاوضات الممتدة منذ ديسمبر 2024، وكأنهم لا يدركون المخاطر التي تحيط بحياة أوجلان حال تم إطلاق سراحه.
ثانيًا: خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتهديده بالقضاء على الإرهاب لا يتناسب مع دعوة نزع السلاح التي أطلقها أوجلان وقبلها الحزب، وكأن الرئيس التركي يريد التأكيد على أنه لا ضمانات مقدمة ولا شروط تم التنازل عنها من أجل دفع أوجلان لمثل هذا الإعلان.
ثالثًا: شروط المصالحة غير المعلن عنها، ومستقبل المصالحة نفسه مرهون بتنفيذ الحكومة التركية لمطالب الأكراد التاريخية في الاعتراف بهم وبثقافتهم ولغتهم، مما يطرح تساؤلاً حول هل يشمل الدستور التركي الجديد تعديلاً لتعريف أعم بحق الأقليات؟
رابعًا: من الواضح أن تركيا قد حصلت على ضوء أخضر أمريكي بالمضي قدمًا في هذه المصالحة، وأن الولايات المتحدة بدأت في سحب دعمها المقدم لقوات سوريا الديموقراطية “قسد”، ما يؤكد ضعف فرص تأسيس إقليم انفصالي في المنطقة الحدودية مع سوريا.
ختامًا…. يدرك كلاً من الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني حاجتهما إلى هدنة ولو مؤقتة، في ظل المتغيرات المستمرة في المنطقة، لاسيما مع استمرار الأزمة الاقتصادية والضغط الدولي على الحكومة التركية بشأن حقوق الإنسان والقضية الكردية من جهة، بالإضافة إلى إدراك أوجلان أن تركيا اليوم مختلفة عن تركيا التي تأسس فيها الحزب من جهة أخرى، وفي حال نجح كلا الطرفين في تعزيز ثقة الأخر فيه، قد نرى تعاونًا مشتركًا بين الجانبين.