سارة طارق النادي
يمثل التصعيد العسكري الأخير الذي استمر أربعة أيام بين باكستان والهند، القوتين النوويتين في جنوب آسيا، والذي بدأ في (7 مايو) وانتهى بإعلان البلدين وقف إطلاق النار يوم السبت (10 مايو) الجاري؛ محور اهتمام إقليمي ودولي، خاصة بالنسبة لتركيا التي تسعى لتعزيز نفوذها في القارة الآسيوية عبر مبادرة “آسيا من جديد” التي تبنتها في عام (2019) بهدف تعزيز العلاقات مع جميع الدول الآسيوية. وفي هذا السياق، تكتسب سياسة تركيا تجاه الصراع الهندي الباكستاني أهمية خاصة، لا سيما في ظل العلاقات الوثيقة التي تربطها بباكستان، الدولة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي، وعلاقاتها المتنامية مع الهند، القوة الاقتصادية الصاعدة.
يهدف التقرير إلى تحليل سياسة تركيا تجاه هذا التصعيد، وتقييم تداعياتها على المصالح التركية في جنوب آسيا في ظل التنافس الجيوسياسي المتزايد خاصة بعد تأكيد دعمها لباكستان.
أولًا: العلاقات التركية الباكستانية:
تستند العلاقات بين تركيا وباكستان، التي بدأت بعد فترة وجيزة من استقلال باكستان عام (1947م)، إلى جذور تاريخية قوية وروابط ثقافية ودينية مشتركة، أدت إلى تعزيز التعاون الاستراتيجي بينهما خاصة في المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية:
– سياسيًا: قدمت باكستان دعمًا قويًا لتركيا في قضية قبرص. في المقابل، تدعم تركيا باكستان في قضية كشمير، وتثير هذه القضية في المحافل الدولية مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما دعمت تركيا باكستان خلال التصعيد العسكري بعد أن شنَّت الهند ضربات عبر الحدود ضد باكستان، في (7 مايو) الجاري.
– اقتصاديًا: تشهد العلاقات الاقتصادية بين تركيا وباكستان نموًا ملحوظًا، ومع ذلك، لا يزال حجم التبادل التجاري متواضعًا، حيث ارتفع من (865.4 مليون دولار) في عام (2019) إلى (1.4 مليار دولار) في عام (2024). وتم الاتفاق بين وزيري التجارة التركي والباكستاني في فبراير (2025) على توسيع نطاق اتفاقية التجارة بهدف تسهيل وزيادة التبادل التجاري بينهما. وبالنسبة للاستثمارات التركية في باكستان، فقدت بلغت قيمتها (3.5 مليار دولار).
– عسكريًا: تتمتع تركيا وباكستان بعلاقات متينة ومتطورة في المجال العسكري، تتمثل أوجه التعاون العسكري بين تركيا وباكستان في عدة مجالات، أبرزها:
· صادرات الأسلحة التركية إلى باكستان: تشكل باكستان وجهة مهمة لصادرات الأسلحة التركية. ووفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) للفترة (2020-2024)، حازت باكستان على (10%) من إجمالي صادرات الأسلحة التركية. وفي عام (2019) وحده، بلغت قيمة صادرات المعدات والأسلحة العسكرية التركية إلى باكستان (245 مليون دولار)، مما جعل باكستان ثالث أكبر مستورد للأسلحة التركية بنسبة (12%).
· اتفاقيات الصناعات الدفاعية الكبرى:
1. مشروع كورفيتات ميلغم (MİLGEM): وقعت تركيا وباكستان في (في يوليو 2018) اتفاقية بقيمة مليار دولار لتزويد باكستان بأربع سفن حربية من طراز ميلغم. وقد وصفت هذه الاتفاقية بأنها “أكبر صفقة منفردة للصناعات الدفاعية من حيث القيمة” بالنسبة لتركيا في ذلك الوقت.
2. مروحيات أتاك (T129): تم الاتفاق على تصدير (30) مروحية هجومية من طراز (T129 ATAK) إلى باكستان بقيمة (1.5) مليار دولار.
3. تحديث الغواصات الباكستانية: فازت تركيا في عام (2016)، بمناقصة لتحديث الغواصات الباكستانية. وبموجب اتفاق مع شركة تكنولوجيا الدفاع التركية (Savunma Teknolojileri Mühendislik AŞ)، تم استبدال البرنامج الفرنسي في الغواصات ببرنامج أنتجته شركة هافيلسان التركية (HAVELSAN)، لتصبح باكستان أول دولة أجنبية تستخدم هذا المنتج من هافيلسان.
ورغم التعاون الاستراتيجي القوي بين تركيا وباكستان، تحاول تركيا تحقيق توازن دقيق في سياستها تجاه جنوب آسيا، من خلال الحفاظ على تحالفها الاستراتيجي مع باكستان والسعي في الوقت نفسه إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع الهند، الذي بلغ حجم التبادل التجاري معها حوالي (11 مليار دولار) في السنة المالية (2023)، مع تفوق الصادرات الهندية (حوالي 8 مليار دولار) على الواردات من تركيا (حوالي 3.28 مليار دولار). ومع ذلك، فإن التباين في المواقف السياسية بين تركيا والهند بشأن القضايا الإقليمية يجعل تحقيق هذا التوازن أمرًا صعبًا، لا سيما بعد انتقاد تركيا بشكل صريح سياسات الهند في إقليم كشمير ومعاملتها للأقلية المسلمة، وأيضًا بعد إعلان تركيا تضامنها مع باكستان وإدانتها الهجوم الهندي في التصعيد العسكري الأخير. وفي المقابل، قامت الهند بتوطيد علاقاتها الدبلوماسية مع اليونان، المنافس التقليدي لتركيا، كما أقامت علاقات إستراتيجية مع إسرائيل التي تسعى إلى تحجيم النفوذ التركي في المنطقة، وهذا التباين الملحوظ بين البلدين يؤثر سلبًا على تطور العلاقات بينهما.
ثانيًا: الموقف التركي من التصعيد العسكري بين الهند وباكستان:
وفقًا لبيان صادر عن الرئاسة التركية، تحدث الرئيس التركي ” رجب طيب أردوغان ” مع رئيس الوزراء الباكستاني “شهباز شريف”، معربًا عن تضامن تركيا مع باكستان ودعم أنقرة لإسلام آباد في التعامل مع الوضع بعد عملية سيندور الهندية. وعلاوة على التضامن التركي والدعم السياسي والدبلوماسي لباكستان؛ شهد التصعيد العسكري؛ دورًا تركيًا بارزًا ومثيرًا للجدل، حيث كشفت تقارير عن الدعم التركي لباكستان عسكريًا ولوجستيًا، قبل وخلال هذا الصراع، تمثل في:
1. تزويد تركيا باكستان بأكثر من 350 طائرة مُسيّرة، بما في ذلك طرازات “أسيسجارد سونغار” والتي استُخدمت للدعم الجوي القريب والهجمات الانتحارية ضد المواقع الأمامية وقوافل الإمداد الهندية. كما تم تزويد باكستان بطائرات (Bayraktar TB2 ) المعروفة بقدراتها على المراقبة وتحديد الأهداف.
2. بالإضافة إلى الطائرات المُسيّرة، شمل التدخل العسكري التركي نشر ست طائرات عسكرية تركية في الأيام التي سبقت الصراع يُزعم أنها محملة بأسلحة ومعدات عسكرية تركية الصنع، وهو ما نفته أنقرة. بينما لم تنكر تركيا وجود طائرتها العسكرية من طراز (C-130) في باكستان في الأيام التي سبقت الصراع، حيث رصدتها أنظمة المراقبة الجوية العالمية، لكنها نفت إرسال أي أسلحة، وقالت في بيان: “هبطت طائرة شحن من تركيا في باكستان للتزود بالوقود”. علاوة على ذلك، أفادت تقارير أن الفرقاطة البحرية التركية “TCG Buyukada” (F-512) رست في ميناء كراتشي في (5 مايو)، وقالت باكستان بأنها “زيارة حسن نية” لكن الهند اعتبرتها استعراضًا عدوانيًا للقوة.
3. إرسال مستشارين عسكريين للمساعدة في تنسيق هجمات الطائرات المُسيّرة، والتي هدفت إلى اختبار أنظمة الدفاع الجوي الهندية وجمع المعلومات الاستخباراتية. وبحسب التقارير، لعب مستشارون أتراك دورًا حاسمًا في التخطيط العملياتي، حيث ساعدوا القوات الباكستانية في تنسيق أسراب الطائرات المُسيّرة لإرباك الدفاعات الهندية. ويمثل مقتل عنصرين، يُرجح أنهما مشغلا طائرات مُسيّرة أو مستشارين فنيين، خلال الضربات الهندية الدقيقة، تصعيدًا كبيرًا في التورط التركي المباشر.
ثالثًا: تداعيات دعم تركيا لباكستان:
يؤدي الدعم التركي لباكستان إلى تداعيات سلبية على علاقاتها الدبلوماسية، والاقتصادية مع الهند، كما يُقوض طموحاتها الإقليمية والدولية في جنوب آسيا، بينما يعزز في المقابل علاقاتها مع باكستان، وتشمل أهم التداعيات ما يلي:
أ. إقتصاديًا:
1. قطاع السياحة: دعت جمعية وكلاء السفر الهندية (TAAI) أعضائها إلى التوقف عن الترويج وبيع الجولات السياحية إلى تركيا. كما أعلنت شركات السفر الهندية الكبرى عن تعليق حجوزات الرحلات والفنادق إلى تركيا وأذربيجان والصين، احترامًا للمشاعر العامة في الهند.
– مدى تأثير المقاطعة على إيرادات السياحة: في عام (2023)، زار تركيا (330 ألف سائح هندي)، كان من المتوقع أن يزداد عدد السياح بنسبة (20% ) مقارنة بالعام الماضي؛ إلا أن دعوات المقاطعة قد تؤثر على هذا الوضع، ومع ذلك لا يمكن اعتبار غياب السياح الهنود ضربة للسياحة التركية، إذ بلغت إيرادات قطاع السياحة (61.1) مليار دولار وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية، كما ارتفع عدد السياح الأجانب ليصل إلى (52.63) مليون سائح في عام (2024). ومن ناحية أخرى، هناك دعوات في باكستان لدعم السياحة التركية، الأمر الذي يمكن من خلاله تعويض خسارة السياح الهنود المحتملة.
2. قطاع التجارة: بدأت بالفعل بعض الإجراءات الملموسة لمقاطعة المنتجات التركية.
– تأثير المقاطعة على حجم التبادل التجاري: بلغ حجم التبادل التجاري بين الهند وتركيا حوالي (11 مليار دولار) في سنة (2023)، ويمكن أن تؤدي المقاطعة المستمرة إلى انخفاض هذا الحجم، خاصة في الصادرات التركية إلى الهند مثل المنتجات البترولية وأجزاء المفاعلات النووية والسلع الأخرى.
3. قطاع الاستثمار: تبلغ قيمة الاستثمارات التركية في الهند (210.47 مليون دولار)، بينما تبلغ قيمة الاستثمارات الهندية في تركيا حوالي (126 مليون دولار)، ويهدد التوتر الدبلوماسي المتزايد هذه الاستثمارات القائمة والمشاريع المستقبلية، مما قد يضعف العلاقات الاقتصادية على المدى الطويل، وفي هذا السياق، قامت هيئة الطيران المدني الهندية بإلغاء التصنيف الأمني لشركة چلبي (Çelebi) التركية المتخصصة في خدمات المناولة الأرضية في المطارات، مبررة قرارها بوجود “خطر على الأمن القومي الهندي”. وقد أكدت شركة ” چلبي ” أن شركاتها التابعة لها لم تقم بأي أنشطة تتعارض مع المصالح الأمنية القومية أو القوانين الهندية منذ بدء عملياتها في الهند عام (2009). وأشارت إلى أنها أكبر مستثمر أجنبي في قطاعي الخدمات الأرضية ومناولة الشحن الجوي في الهند، حيث استثمرت أكثر من (250 مليون دولار) ووفرت حوالي (10,000) فرصة عمل للمواطنين الهنود. كما أعلنت أنها ستلجأ إلى جميع السبل الإدارية والقانونية اللازمة لتوضيح هذه الادعاءات والسعي لإلغاء هذه التعليمات.
4. قطاع الطيران: أعلنت بعض شركات السياحة الرائدة في الهند، أنها قررت إنهاء تعاونها مع الخطوط الجوية التركية بسبب موقف تركيا المعادي للهند.
ختامًا:
اتسمت سياسة تركيا تجاه الصراع الهندي الباكستاني بدعم قوي لباكستان، مدفوعة بالعلاقات المشتركة والمصالح الاستراتيجية، لكن هذا الدعم أدى إلى تدهور العلاقات مع الهند، وخسائر اقتصادية محتملة نتيجة المقاطعة، كما أدى إلى تحديات لطموحات تركيا الإقليمية والدولية خاصة في منطقة جنوب آسيا، بينما عزز دعمها علاقاتها مع باكستان دون تأثير كبير على حل الأزمة، مما يمثل تحديًا مستمرًا لسياستها الخارجية.