كتب: أ/ وردة عبدالرازق (باحثة بوحدة الدراسات التركية)

شهد العقد الأخير تحولات جوهرية في أدوات النفوذ الإقليمي والدولي، إذ لم تعد تقتصر على الجنود أو التحالفات التقليدية، بل برزت التكنولوجيا الدفاعية كأداة بديلة وأكثر مرونة لتوسيع النفوذ العسكري والسياسي للدولة، فاستطاعت تركيا عبر تطوير منظومة الطائرات المسيرة، مثل بيراقدار وإكينجي، أن تعيد تشكيل نفوذها ودورها الإقليمي والدولي بأقل تكلفة ممكنة من خلال تصدير التكنولوجيا والقدرة بدلا من الجنود.

وعليه، اتجهت أنقرة نحو استراتيجية الاكتفاء الذاتي الدفاعي، وبدأت ببناء قاعدة وطنية للصناعات العسكرية، كما شرعت في تصدير الطائرات المسيرة لعدد من الدول المتورطة في صراعات خارجية أو داخلية، مما أسس لدور محوري تركي في النزاعات المسلحة دون تدخل ميداني بشكل مباشر.

التحول في العقيدة الدفاعية التركية

بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا عام 2002، شرعت أنقرة في مراجعة كاملة لعقيدتها الدفاعية، إذ كانت حتى ذلك الوقت تعتمد بشكل كبير على مظلة حلف الناتو في التسليح والتدريب، وحتى التخطيط العسكري، لكن مع تزايد التوترات الإقليمية وتراجع الثقة في اهتمام الحلف بأولويات الأمن القومي التركي، خاصة بعد الحرب الأمريكية على العراق 2003، بدأت تركيا تطوير رؤية استراتيجية أكثر استقلالية في مجال الأمن والدفاع.

هذا التحول لم يكن استجابة لمتغيرات جيوسياسية فحسب، بل مدفوعا برؤية ذاتية لبناء “تركيا القوية” التي تستطيع الدفاع عن مصالحها دون تبعية تكنولوجية أو سياسية. لذا، تبنت الحكومة خطة لتحقيق الاستقلال الدفاعي الوطني، تم تأطيرها ضمن رؤية 2023 التي طرحتها الدولة كأحد رموز الجمهورية الثانية. ومنذ ذلك الحين، صار تطوير الصناعات الدفاعية المحلية هدفا استراتيجيا وليس فقط خيارا اقتصاديا. وانعكس هذا التحول بالتبعية في زيادة الإنفاق على الأبحاث الدفاعية، وتحفيز الشركات الوطنية على إنتاج نظم أسلحة متقدمة، بالتركيز على المجالات ذات التقنية العالية والمنخفضة التكلفة نسبيا، مثل الطائرات المسيرة. ومن ثم، لم تعد الصناعة الدفاعية تدار بوصفها تابعة للغرب، بل كركيزة مركزية في الاستراتيجية التركية للتحول إلى قوة إقليمية مستقلة.

مراحل تأسيس صناعة المسيرات التركية

منذ منتصف العقد الأول من الألفية، بدأت تركيا تطوير قدراتها في مجال الطائرات المسيرة، عبر شراكات أجنبية مثل إسرائيل والولايات المتحدة، غير أن الخلافات السياسية وتقييد تصدير التكنولوجيا الغربية دفعت أنقرة إلى تبني استراتيجية ذاتية الطابع لتحديث منظومات مسيرة هجومية واستخباراتية محلية. وقد مرت صناعة المسيرات المسلحة التركية بثلاث مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى: التأسيس والتجريب المحلي  (2005–2011)

اعتمدت بداية المشروع على محاولات ذاتية من قبل شركات صغيرة أبرزها Baykar Makina، والتي تأسست عام 1984 لكنها لم تدخل مجال الطيران إلا في عام 2005، إذ بدأت الشركة إنتاج مسيرات صغيرة لأغراض المراقبة والتصوير، وفي 2009 أجريت تجارب أولية على نموذج أولي لمسيرة قتالية، بتمويل ذاتي ومنح بحثية مقدمة من رئاسة الصناعات الدفاعية التركية.

المرحلة الثانية: النمو والتحول لمسيرات هجومية  (2011–2016)

في هذه المرحلة بدأت شركة Baykar بقيادة سلجوق بيرقدار، تطوير طراز بيرقدار تي بي 2 الذي أُجري أول اختبار طيران له في 2014، وتبناه الجيش التركي في 2015 بعد تجارب ناجحة، وتميزت المسيرة بتكلفتها المنخفضة مقارنة بنظيرتها الأمريكية والإسرائيلية،وقد أسهم الدعم الحكومي المباشر في تسريع الإنتاج، بالإضافة إلى دمج أنظمة تسليح محلية من شركة .Roketsan

المرحلة الثالثة: التوسع والتصدير (2016–2025)

بعد محاولة الانقلاب على الحكومة في 2016، حصلت شركة Baykar على دعم حكومي كبير في إطار استراتيجية الاستقلال الدفاعي، حيث تم تطوير نسخ متقدمة من بيرقدار تي بي 2، مثلAkıncı ، وهي مسيرة ثقيلة بمدى أطول وحمولة أكبر، بالإضافة إلى Kızılelma كمسيرة نفاثة من الجيل الخامس. وعليه، أصبحت المسيرات التركية أداة سياسية، حيث تم تصدير بيرقدار إلى أكثر من 30 دولة منها أوكرانيا وأذربيجان وإثيوبيا وقطر، وكانت بولندا أول عضو بالناتو يشتريها.

حتى أن 90% من عائدات Baykar في 2023 جاءت من التصدير، وأن الشركة أعلنت عن استثمار 300 مليون دولار لتحديث محركات وطنية، بالتزامن مع توقف عدد من الدول الأوروبية عن تصدير مثل هذه المكونات الحساسة بعد حرب ناغورني كاراباخ وأوكرانيا.

 

وفقا هذه المرحلة، تحولت المسيرات التركية من مجرد منتج صناعي إلى أداة دبلوماسية وأمنية في يد الدولة، تستخدمها في توسيع النفوذ السياسي.

المسيرات كأداة نفوذ سياسي وعسكري

بدأت أوكرانيا في شراء مسيرات بيرقدار تي بي 2 من تركيا منذ العام 2019، في إطار اتفاقية تعاون دفاعي موسعة شملت تدريب مشترك وفتح خط إنتاج محدود داخل أوكرانيا. ورغم حساسية العلاقة التركية الروسية، إلا أن الدعم التركي لكييف استمر حتى بعد الغزو الروسي في فبراير 2022. وكانت أوكرانيا قد استخدمت طائرات بيرقدار في الأيام الأولى للحرب ضد الدبابات الروسية، كما نجحت في تنفيذ ضربات دقيقة أسهمت في رفع معنويات القوات الأوكرانية، فأصبحت المسيرات التركية رمزا دعائيا قويا، أسهم في تعزيز سمعة تركيا في هذا الشأن.

غير أنه تراجع دور المسيرات تدريجيا بين عامي 2023–2024 بسبب تطوير الروس لأنظمة تشويش إلكترونية متقدمة، مما كشف حدود فاعلية بيرقدار في الحروب بين الدول الكبرى. ومع ذلك، ظل الدور التركي مؤثرا سياسيا، لأنه ساعد في تحسين علاقات أنقرة مع حلف الناتو دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.

ومثلت حرب ناغورنو كاراباخ في عام 2020 نقطة تحول مهمة في توظيف المسيرات التركية كعنصر حاسم في تغيير موازين القوة العسكرية؛ فخلال ستة أسابيع من القتال، دعمت تركيا أذربيجان سياسيا وعسكريا، وكان أبرز عناصر هذا الدعم هو استخدام مسيرات بيرقدار تي بي 2 في العمليات القتالية ضد القوات الأرمينية. فقد لعبت الطائرات التركية دورا مباشرا في استهداف منظومة الدفاع الجوي الأرميني، وتدمير عدد من المركبات المدرعة ووحدات المشاة من خلال هجمات دقيقة واستخدامها في الحملات الدعائية للصناعة التركية .

ولم تكتف تركيا بتصدير المسيرات إلى أذربيجان، بل أرسلت مستشارين عسكريين وفنيين لتدريب القوات الأذرية، مما عزز من قدرة باكو على إدارة العمليات العسكرية بفاعلية. وبالتالي، شكلت الحرب نموذجا عمليا لتكامل الدعم السياسي والتقني التركي في بيئة صراع إقليمي. من ناحية أخرى، فقد عزز هذا النجاح من مكانة تركيا كقوة عسكرية لها وزنها في دول الاتحاد السوفييتي السابق، كما فتح الباب لتعاون أوسع مع دول آسيا الوسطى، خاصة بعد تشكيل منظمة الدول التركية في 2021.

دخلت المسيرات التركية أيضا على خط النزاع الليبي في أواخر عام 2019، عندما بدأت أنقرة دعم حكومة الوفاق الوطني في مواجهة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، فبسبب بعد المسافة الجغرافية بين تركيا وليبيا، كانت المسيرات هي الوسيلة الأنسب لتقديم دعم عسكري مباشر دون انخراط بري واسع. ولعل أبرز ما ميز هذا التدخل هو استخدام طائرات بيرقدار تي بي 2 بشكل يومي تقريبا في استهداف قواعد الجيش الوطني الليبي، خاصة في قاعدة الوطية الجوية وطرابلس. وفي مايو 2020، تمكنت الطائرات التركية من تحييد بطاريات دفاع جوي روسية من طراز Pantsir-S1، ونشرت فيديوهات تؤكد نجاح الضربات، مما أدى إلى انسحاب تدريجي لقوات حفتر من مناطق الغرب الليبي، ومهد لاحقا لمسار تفاوضي رعته الأمم المتحدة.

ولم يقتصر الدور التركي على الضربات الجوية فقط، بل شمل تدريب عناصر ليبية على تشغيل طائرات بيرقدار، ونقل المعدات عبر البحر والجو لدعم مركز القيادة والسيطرة في طرابلس. غير أن التدخل التركي قوبل بانتقادات أوروبية وعربية، خاصة بعد أن أدى إلى توتر في شرق المتوسط، مما دفع فرنسا واليونان لتعزيز تحالفاتهما في شرق المتوسط، في ظل توتر علاقات أنقرة مع باريس وأثينا في الفترة ذاتها.

وفي خضم النزاع في إقليم تيغراي الإثيوبي، ظهرت تقارير عدة عن استخدام الحكومة الإثيوبية لطائرات مسيرة تركية من طراز بيرقدار تي بي 2، لتعزيز قدراتها الاستخباراتية والميدانية ضد جبهة تيغراي، غير أن طبيعة هذا التدخل كانت أقل شفافية مقارنة بحالات أخرى، مثل أوكرانيا وأذربيجان وليبيا.

وبسبب حساسية النزاع واتهام الحكومة الإثيوبية بانتهاك حقوق الإنسان، وجهت لتركيا انتقادات دولية ودعوات لوقف تصدير الأسلحة إلى إثيوبيا، مما وضع أنقرة في موقف معقد سياسيا، خاصة مع محاولتها الحفاظ على علاقات متزنة مع إثيوبيا باعتبارها بوابة لعمقها في القرن الإفريقي، في إطار استراتيجية أوسع لتعزيز النفوذ في أفريقيا، من خلال التعاون العسكري والاقتصادي مع الحكومات المحلية عبر دعم مشاريع البني التحتية، بما تنطوي عليه السياسة التركية من بناء نخب داخلية موالية عن طريق مؤسسات دينية واقتصادية، بما يعزز قدرتها على استخدام الوسائل العسكرية مثل المسيرات كأداة نفوذ غير مباشرة.

وتأسيسا على ما سبق، تمثل التجربة التركية في تصدير الطائرات المسيرة، نموذجا جديدا لتوظيف التكنولوجيا الدفاعية كأداة لتوسعة النفوذ السياسي، وليس فقط كعتاد عسكري تقني. فوفقا للحالات السابقة، استطاعت أنقرة توظيف المسيرات بما يخدم أهدافها الاستراتيجية دون انخراط مباشر في القتال، مما حقق لها مكاسب سياسية ملموسة بأقل تكلفة ممكنة. ففي أوكرانيا وظفت تركيا المسيرات لتعزيز موقعها داخل حلف الناتو، وفي ليبيا منحتها نفوذا مباشرا في التوازنات الأمنية في شمال إفريقيا وشرق المتوسط. أما في أذربيجان، فقد عززت مكانتها كقوة داعمة للعالم التركي، بينما ساعد على ترسيخ علاقة أمنية–سياسية ناعمة فتحت لأنقرة منفذا إلى منطقة القرن الإفريقي بعد استخدامها في إثيوبيا. وبذلك، يمكن اعتبار المسيرات التركية تجسيدا عمليا لنموذج تصدير القوة بدون جنود، والذي أصبح أحد أعمدة السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الأخيرة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version