ورده عبدالرازق

تسير العلاقات المصرية التركية اليوم في مسار متسارع من التعاون والتقارب، تجسد في خطوات عملية مثل تبادل الزيارات رفيعة المستوى، وتعزيز قنوات التشاور حول الملفات الإقليمية ذات الاهتمام المشترك. ويأتي هذا التطور بعد سنوات من التوتر والقطيعة التي هيمنت على علاقات البلدين، وما تبعها من تباين في المواقف تجاه قضايا محورية، كالأزمة الليبية وشرق المتوسط. ومع عودة قنوات الحوار، انتقلت العلاقة تدريجيا من إدارة الخلافات إلى بناء مساحات مشتركة، وهو ما تعكسه بوضوح عودة مناورات “بحر الصداقة” العسكرية المشتركة، والتي تحمل دلالات أبعد من كونها مجرد نشاط تدريبي، إذ تعد مؤشرا على تحول نوعي في مسار العلاقات نحو شراكة أكثر رسوخا.

وعليه، يهدف هذا التحليل إلى استكشاف الأهمية الاستراتيجية للمناورات المصرية التركية المشتركة، وتفكيك أهدافها المباشرة والضمنية، مع التركيز على ما يحمله توقيت بدئها من دلالات سياسية وأمنية في المشهد الإقليمي الراهن.

دلالات التوقيت

أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع التركية، زكي أكتورك، في وقت سابق عن عودة مناورات “بحر الصداقة” بين مصر وتركيا، وعزم البلدين إجراء منورات بحرية مشتركة في البحر المتوسط خلال الفترة من 22 إلى 26 سبتمبر، في خطوة تعد الأولى من نوعها بين البلدين منذ 16 عاما، وذلك في إطار توثيق العلاقات الثنائية بين البلدين، وتعزيز التوافق التشغيلي للقوات البحرية بين البلدين، بما يعكس رغبة الطرفين في توسيع التعاون العسكري بعد فترة من التوترات الإقليمية.

وجاء هذا الإعلان استكمالا لجهود دبلوماسية حثيثة لترميم العلاقات بين البلدين، ترجمت بدورها إلى زيارات متبادلة لمسؤولين رفيعي المستوى من الجانبين مؤخرا، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية عدة، إلا أن عودة المناورات قد تشير إلى أن حدود التعاون المصري التركي قد تجاوزت الحدود الاقتصادية أو المجاملات الدبلوماسية إلى التعاون العسكري.

يشير إلى ذلك حديث وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، على قناة MBC مصر، حيث أشاد فيدان بعلاقات بلاده مع مصر، مؤكدا أنها وصلت حاليا إلى “أفضل مستوياتها في التاريخ الحديث”، كما أكد أن “كلا البلدين يستكشفا ما الذي يمكن أن يحققاه إذا استطعوا الجمع بين إمكانات بعضهما البعض، إلى جانب الإمكانات الفردية”.

وتأتي هذه المناورات في توقيت شديد الحساسية، حيث تمر فيه المنطقة والمشهد العالمي برمته بحالة غير مسبوقة من الارتباك، الأمر الذي يتطلب جاهزية دفاعية فعالة. لذا، تحمل المناورات رسائل من قبل كل من مصر وتركيا، في ظل التجاوزات الإسرائيلية المتصاعدة وإعادة اجتياح قطاع غزة، وفي ظل توتر كبير في المنطقة، أسفر عن الهجوم الإسرائيلي على الوفد المفاوض لحماس على الأراضي القطرية في ٩ سبتمبر الجاري.

وتعد المناورات بمثابة تدريب عملي على حماية المصالح الاقتصادية للدول المشاطئة في البحر المتوسط، وذلك بعد أيام من إعلان إسرائيل لإرسال منظومة الدفاع الجوي “باراك إم إكس” إلى قبرص، حيث تمثل المنظومة إضافة لمنظومة الدفاع الجوي القبرصي، إذ تستطيع اعتراض الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة ضمن مدى يصل إلى ١٥٠ كم. ووفق مراقبين، فإن المنظومة تكفي لتشكيل “مظلة رقمية” تمتد إلى مساحات واسعة من جنوب تركيا.

ما الذي تعكسه هذه المناورات ؟

تعكس المناورات العسكرية بين مصر وتركيا جمله من الأبعاد التي تفسر مغزاها وأهميتها في السياقين الإقليمي والدولي، يمكن توضيحها على النحو التالي:

الأبعاد العسكرية والتكاملية: استكمالا للتعاون العسكري الراهن بين مصر وتركيا، تهدف المناورات إلى تعزيز القدرات القتالية المشتركة من خلال التدريب على سيناريوهات دفاعية وهجومية متنوعة، مع التركيز على الاستجابة السريعة إلى الطوارئ البحرية والبرية. كما تسهم المناورات في تقييم مستوى التنسيق اللوجستي بين الطرفين، بما يشمل النقل والإمداد والدعم الطبي والتقنيات الحديثة. يضاف إلى ذلك، اختبار الأسلحة وتقنياتها، مما يعكس رغبة الطرفين في تحسين الاستفادة من الخبرات المتبادلة والارتقاء بالكفاءة العملياتية.

في هذا الإطار، قد لا تقتصر المناورات على التدريب فحسب، فهي قد تخرج عن كونها رسائل رمزية وعملية للجهات الإقليمية والدولية حول قدرة مصر وتركيا على التنسيق العسكري والاستجابة لأي تحديات محتملة في المنطقة، وتحديدا في الملفات المشتركة.

الأبعاد السياسية والدبلوماسية: تعكس المناورات رغبة الطرفين في إعادة بناء الثقة السياسية بعد سنوات من التوتر، كما تعمل كأداة لإظهار التعاون الاستراتيجي المتنامي على المستوى الثنائي؛ إذ تتيح لكلا الجانبين إرسال رسائل مزدوجة داخلية للشعوب حول قدرة القاهرة وأنقرة على التعاون الاستراتيجي من جهة، وللقوى الدولية والإقليمية بأن هناك حلفا عمليا يمكن الاعتماد عليه في إدارة الملفات الحساسة من جهة أخرى. كما يمثل البعد الدبلوماسي فرصة لممارسة سياسية للضغط الناعم على الأطراف الإقليمية، خصوصا إسرائيل واليونان مع التركيز على قضاء الأمن البحري والطاقة.

وعليه، يظهر هذا البعد كيف يمكن للمناورات العسكرية أن تتحول إلى أداة دبلوماسية غير مباشرة، قد تعيد بدورها رسم خرائط التحركات الإقليمية، كما تتيح للبلدين التحكم في موازين القوى الإقليمية دون اللجوء إلى التصعيد المباشر.

الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية: قد تخدم المناورات العلاقات الاقتصادية بشكل غير مباشر، من خلال تعزيز الأمن البحري الذي يضمن حماية خطوط التجارة والطاقة في شرق المتوسط، وهو ما يمثل أولوية استراتيجية لكل من مصر وتركيا، كما يتيح التعاون العسكري تبادل الخبرات والتقنيات المتقدمة، مما يعزز القدرة على إدارة الموارد البحرية وحماية المصالح الاقتصادية الحيوية للطرفين في ظل منافسة إقليمية على مصادر الطاقة.

تأمين المياه الإقليمية: تعكس المناورات اهتمام البلدين بتأمين الممرات المائية، بما يسهم في تعزيز موثوقية الاستثمارات الأجنبية في المنطقة، فالتركيز على القوات البحرية يعكس أهمية الملفات المرتبطة بالمياه الإقليمية وطرق الملاحة وأمن منصات الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى الردع في مواجهة التهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب البحري أو الهجرة غير الشرعية. حتى أن تطوير القدرة على العمل المشترك بين مصر وتركيا في البحر قد يترجم لاحقا إلى تنسيق أوسع في الملفات الإقليمية قد تمتد من ليبيا إلى فلسطين. بالتالي، يمكن استغلال التعاون العسكري كرافعة لتعزيز النفوذ الإقليمي في شرق المتوسط.

ردود الفعل الدولية والإقليمية

قد تثير المناورات اهتماما بالغا من جانب إسرائيل واليونان وقبرص، خصوصا فيما يتعلق بخطوط الطاقة البحرية وحدود النفوذ الإقليمي، كما ستتابع الولايات المتحدة ودول الخليج التطورات عن كثب لتقييم تأثير التعاون المصري التركي على التوازنات العسكرية والسياسية في المنطقة.

وقد تفسر هذه المناورات كأداة ضغط دبلوماسي لخلق مساحة تفاوضية جديدة حول الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز، بالإضافة إلى دور كل دولة في الملف الليبي. لذا، قد تعمل المناورات على إعادة تشكيل المشهد الإقليمي بشكل تكتيكي، حيث يتم استغلال التدريب العسكري كأداة لتوجيه الرسائل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية للجهات المعنية، دون الانخراط في صراع مباشر.

ويتزامن هذا التحرك مع توقيع اتفاق الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان، وهو ما يوسع دائرة إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية خارج النطاق التقليدي، إذ يشير إلى اتجاه قوى إقليمية كبرى (السعودية) نحو تعزيز شراكاتها الدفاعية مع قوى إسلامية آسيوية، في مقابل تنامي التعاون العسكري بين قوى إقليمية متوسطية مثل مصر وتركيا. هذا التوازي في التحركات يؤشر إلى أن المنطقة تدخل مرحلة جديدة من التعددية الأمنية، حيث تتحرك القوى الإقليمية الكبرى لإعادة صياغة ترتيباتها الدفاعية بما يتناسب والتغيرات الجيوسياسية وظروف الطاقة والأمن البحري.

وإجمالا، فإن المناورات البحرية بين مصر وتركيا تحمل أبعادا سياسية تتجاوز الجانب العسكري، إذ تعكس رغبة البلدين في إعادة صياغة معادلات شرق المتوسط عبر التعاون بدلا من التنافس، كما قد تكشف عن مشهد إقليمي جديد يتسم بتعددية أمنية متشابكة. في هذا السياق، يمكن قراءة التعاون المصري التركي كأداة دبلوماسية لإعادة توزيع النفوذ بعيدا عن المواجهة المباشرة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version