يحاول الانقلاب فى مالي، بقيادة العقيد عاصيمي جويتا، الرد على قرار فرنسا بسحب قواتها من شمالي البلاد مطلع 2022، وإنهاء عملية برخان العسكرية بالساحل، بالسعي لتعويضهم بنحو ألف مقاتل من “فاجنر” الروسية.
حيث تتعرض القوات الفرنسية في مالي الى ضغوط وانتقادات كبيرة من قبل المنظمات الحقوقية وكذلك من قبل مواطنين ماليين يطالبون بخروج تلك القوات واستبدالها بقوات روسية.
ومن المعلوم أن وصول المرتزقة الروس إلى مالي سيكون “خطًا أحمر” بالنسبة لباريس، وفي حال انسحاب فرنسا وحلفاؤها فلن تجد باماكو سوي الاتفاق مع فاغنر وبالتالى سيزداد تصاعد التنافس بين روسيا وفرنسا، وتستغل الجماعات الإرهابية ذلك الفراغ الأمني لزيادة امتدادها .
ومن ثَم تسعى هذه الورقة لقراءة تحليلية لمعرفة ما هي شركة فاجنر ؟ والتطورات المستجدة فى الاتفاق بين باماكو وفاجنر، والضغوط الأوروبية على باماكو، وتداعيات عمل شركة فاجنر فى أفريقيا
ما هي شركة فاجنر؟
هي شركة عسكرية روسية خاصة، عبارة عن جماعة مرتزقة لها نشاط فعَّال جدًّا في كافة النزاعات التى تتدخل فيها روسيا خاصة النزاع السوري والأوكراني، ولها نشاط في العديد من البلدان الإفريقية، وهى تعمل مع فصائل المتنازعة بالتوازي في وقتٍ واحد، كما في حالة جمهورية إفريقيا الوسطى، فقوات فاجنر موجودة مع كل من المتمردين والقوات الحكومية النظامية، بينما يكون معظم عملها في الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.
من جهة أخرى، تعمل شركة فاجنر على قمع أيّ محاولات للتحقيق في أنشطتها، غير أن كافة المعلومات المتاحة أكدت أنها جماعة تلعب دورًا مهمًّا بشكل متزايد لموسكو في الخارج وفي الداخل، وقد حققت الكثير من النجاحات العسكرية للدولة الروسية دون المخاطرة بفرد واحد من القوات الروسية النظامية (الجيش الروسي).
تعود أصول شركة فاجنر إلى عام 2013م ، عندما انخرطت باسم الفيلق السلافي في أعمال كارثية في سوريا بأمر من رجال أعمال روس مجهولين، ومن بعدها تم الإعلان عن اسم (فاجنر) كاسم يدل على وجود مجموعة مرتزقة مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بوكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، ولتلك الشركة أنشطة بارزة في كل من (ليبيا – جمهورية إفريقيا الوسطى – السودان – موزمبيق – مالى) تمامًا مثل النموذج السوري، وفي كل حالة من تلك الحالات يتشابه الموقف ويتشابه السيناريو؛ حيث يدعم الروس الزعيم المُحاصَر الذي يواجه تحديًا أمنيًّا في بلد استراتيجي جغرافيًّا يمتلك العديد من الثروات والموارد المعدنية أو الهيدروكربونية.
التطورات المستجدة في الاتفاق بين باماكو وفاغنر:
ظلت مالي خلال السنوات الأخيرة تمثل واحدةً من الحالات التي تشهد انخراطًا محدودًا لشركة فاغنر الروسية، ولعل هذا الأمر يبقى منطقيًّا في ظل الوجود الفرنسي المكثف خلال السنوات الماضية في منطقة الساحل والصحراء، فضلًا عما تمثله مالي من أهمية خاصة لنفوذ باريس في المنطقة، وفي هذا الصدد بدأت فاغنر تتحسس خطاها للتغلغل في باماكو في 2019م في إطار اتفاقية تعاون أمني مع الحكومة المالية لمكافحة عناصر “المرابطون” التابعة لتنظيم داعش، بيد أن النفوذ الفرنسي المتنامي هناك حال دون تصاعد الدور الروسي عبر شركة فاجنر.
ولذلك يمكن الإشارة هنا إلى أهمية توقيت إعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في 15 سبتمبر الجاري عن مقتل زعيم تنظيم “داعش في الصحراء الكبرى” “عدنان أبو الوليد الصحراوي ، فتعد تلك العملية بالنسبة لفرنسا، في إطار مساعي باريس للترويج لبعض نجاحاتها في منطقة الساحل وقدرتها على تصفية قيادات تمثل أهدافًا حيوية بالنسبة للولايات المتحدة، خاصةً في ظل تصاعد الضغط الداخلي والخارجي على إدارة الرئيس ماكرون.
لكن، في أعقاب الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في أغسطس 2020م، بدأت مؤشرات النفوذ الروسي تتصاعد، وقد تجسد هذا الأمر في التظاهرات التي شهدتها باماكو خلال هذه الفترة، والتي كانت تظهر الدعم لخطوة الانقلاب، فقد شهدت هذه التجمعات رفع شعارات داعمة لموسكو والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، فضلًا عن رفع البعض للأعلام الروسية، وفي هذا الصدد، حتى وإن كانت بعض التقارير قد فسرت هذه المتغيرات باعتبارها رفضًا شعبيًّا للنفوذ الفرنسي في مالي ومعاقبتها بدعم روسيا، بيد أنه في المجمل لا يمكن التقليل من الدلالات التي تحملها هذه الأحداث من استعداد مالي (شعبي وقيادي) للتقارب مع الكرملين.
على الرغم من المعطيات السابقة، إلا أن النفوذ الروسي في مالي ظل محصورًا بسبب الوجود الفرنسي، لكن مع إعلان الأخيرة استعدادها لتقليص انخراطها في منطقة الساحل الإفريقي، عزز ذلك من التخوفات الإفريقية بشأن احتمالات تخلي الغرب عن دعمهم في أيّ وقت، وهو ما شجع مزيدًا من الدول إلى بحث إمكانية التقارب مع موسكو كبديل أكثر موثوقية، الأمر الذي عمدت روسيا لاستغلاله عبر توظيف أدواتها غير الرسمية (متمثلة في فاجنر) لخلخلة النفوذ الفرنسي –المتراجع بالفعل- في المنطقة، خاصةً في ظل التراجع الذي هيمن على العلاقات بين فرنسا والمجلس العسكري في مالي خلال الفترة الأخيرة، خاصةً منذ الإطاحة بالرئيس “أبو بكر كيتا” في أغسطس 2020م، وهو ما دفع باماكو لتعزيز اتصال الانقلاب مع الكرملين.
وفي هذا الصدد، نشرت وكالة “رويترز” أن ثمة اتفاقًا وشيكًا بين الحكومة المالية وروسيا سيتم بمقتضاه نشر نحو ألف من مرتزقة فاجنر في باماكو؛ حيث يفترض أن تساهم هذه العناصر في مكافحة الجماعات الإرهابية، وتقديم التدريب للجيش المالي، فضلًا عن توفير الأمن والحماية لبعض المسئولين في البلاد، وفي المقابل تحصل فاجنر على 6 مليارات فرنك إفريقي (10.8 مليون دولار) شهريًّا مقابل هذه الخدمات، وعلى حقوق استغلال عدة مناجم معدنية بينها الذهب، وهذا ما يعوق توقيع الاتفاق، ولكنها خطوة ستعزز كثيرًا النفوذ الروسي في مالي.
ويبحث الانقلابيون عن بدائل واقعية لمواجهة الضغوط الفرنسية، وتمثل فاجنر أحد هذه البدائل لإنقاذ بلادهم من الانهيار الأمني على يد الجماعات الإرهابية والانفصالية.
وليس من المُستبعد أن تكون محاولة اغتيال جويتا، في 20 يوليو الماضي أثناء تأديته صلاة عيد الأضحى بالجامع الكبير في العاصمة باماكو علي يد شاب مسلح حاول طعنه من الخلف لكن شخصا آخر أصيب ، ساهمت في تسريع تقدم المفاوضات مع فاجنر.
إذ يحتاج زعيم الانقلابيين في مالي لحماية خاصة من مقاتلين محترفين، لمواجهة المخاطر التي تستهدف حياته، من عدة أطراف معادية، في ظل وضع أمني واقتصادي مضطرب.
وفي حال قررت فرنسا وحلفاؤها الانسحاب بشكل سريع من مالي، فلن يجد الانقلابيون من حل سوى الاستعانة بالشركة لتوفير الحماية
وقد أقرت باماكو بدخولها في مفاوضات مع الشركة الروسية، لكنها ألمحت إلى أنها لم تقم حتى الآن بالتوقيع على الاتفاق.
الضغوط الأوروبية على باماكو:
تراجُع النفوذ الفرنسي في مالي لصالح روسيا، ليس وليد اليوم، بل سبقته مظاهرات صاخبة في باماكو حتى قبل انقلاب أغسطس 2020، تطالب باريس بالرحيل، وتدعو لاستبدالها بالتعاون مع روسيا.
لذلك فالأجواء مهيأة أمام موسكو شعبياً ورسمياً للتواجد عسكرياً عبر شركة فاجنر، خاصة أن باماكو كان يربطها تعاون عسكري متين مع الاتحاد السوفيتي عقب استقلالها عن فرنسا عام 1960، خاصة في عهد الرئيس موديبو كيتا (1960 -1968).
وباريس لم تتأخر في إبداء قلقها من تعاون انقلابي مالي مع فاجنر، وهددت بسحب قواتها بشكل كامل و سريع من كامل مالى وليس شمالها فقط.
واعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الثلاثاء 14 سبتمبر 2021، أمام لجنة الشؤون الخارجية بالجمعية الوطنية (الغرفة الأولى للبرلمان) أن مشاركة فاجنر في مالي ستكون “غير متوافقة” مع الإبقاء على قوة فرنسية.
كما حذر لودريان من أن مشاركة فاجنر في العمليات العسكرية ضد التنظيمات المسلحة في مالي “لا يتفق مع عمل شركاء مالي الساحليين والدوليين”، في إشارة إلى إمكانية سحب مجموعة الساحل الخمس (تشاد النيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا علاوة على مالي) لقواتها من البلاد.
بالإضافة إلى القوات الخاصة الأوروبية ممثلة في عملية “تاكوبا” والتي أعلن عنها ماكرون مع نهاية عملية “برخان” الحالية وتقليص القوات العسكرية بالمنطقة في يونيو ، ليصير الوجود الفرنسي جزءً من تلك العملية، والتي تتكون من 600 عنصر نصفهم فرنسيون، بالإضافة إلى عشرات من الإستونيين والتشيكيين ونحو 140 سويديًا مع إنضمام عدد من الدول المشاركة في العملية مثل ايطاليا والدنمارك واليونان والمجر.
وتكاد تشاد تكون الدولة الوحيدة في مجموعة الساحل الخمس التي تتواجد قواتها في مالي بمنطقة الحدود الثلاثة المشتركة مع النيجر وبوركينا فاسو، والتي قلّصتها إلى النصف مؤخراً، بعدما بلغت 1200 جندي في فبراير الماضي.
كما لوّحت ألمانيا هي الأخرى بسحب قواتها من مالي، والبالغة 1500 عسكري ضمن عملية “تاكوبا”، وأيضاً ضمن القوات الأممية في شمالي البلاد.
وحذرت وزيرة الدفاع الألمانية آنجريت كرامب-كارينباور، على تويتر، من أنه “إذا وقّعت حكومة مالي مثل هذه الاتفاقات مع روسيا، فهذا يتناقض مع كل ما فعلته ألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في مالي منذ 8 أعوام”، وسيشكك” في تفويض الجيش الألماني في مالي.
وهذه الضغوط الفرنسية الألمانية التي قد تنضم إليها تشاد، من شأنها إما تقويض الاتفاق المالي مع فاغنر، أو سحب سريع للقوات الفرنسية وقوات تاكوبا الأوروبية، وأيضاً الوحدات التشادية من البلاد، لإحداث فراغ أمني من الصعب على السلطات العسكرية المالية ملؤه، حتى ولو توصلت إلى اتفاق مع فاجنر، ومن شأن ذلك التأثير على القوات الأممية في شمال مالي، والتي تضم قوات ألمانية وتشادية، ما قد تستغله الجماعات الإرهابية الموالية للقاعدة أو داعش في مضاعفة عملياتها ضد القوات الحكومية، لاسيما مع ايقاف الدعم المالي والمساعدات الإنسانية لسلطات باماكو، بهدف خنق النظام الانقلابي، ودفعه إما للتنازل أو الانهيار.
تداعيات عمل شركة (فاجنر) في إفريقيا:
من الواضح أن عمل الشركات الأمنية أو العسكرية الخاصة آخِذٌ في الاستمرار، باعتباره أداة لتحقيق مصالح دولة وأهدافها خاصة إذا كانت هذه الدولة قوى كبرى ودولة من الطراز الأمني والعسكري الرفيع مثل روسيا الاتحادية التي أصبحت تبحث لها ليس عن موطئ قدم فقط، وإنما تعمل على بسط نفوذها الشامل على مقدّرات الدول الإفريقية بديلًا عن الاحتلال التقليدي (فرنسا – بريطانيا)، ولكن بثوب جديد ظاهره الرحمة من سياسات الاستعمار التقليدي وباطنه تكرار نفس السياسات.
إن اهتمام روسيا بتأمين الوصول إلى الموانئ في البحر الأحمر يُوسّع من قدرتها على أن تكون قوة مُعطِّلة للممر البحري على طول الساحل الشرقي لإفريقيا أيضًا؛ حيث سيتيح النفوذ الروسي في ليبيا ومنطقة الساحل لروسيا الوصول إلى النقاط الرئيسية للهجرة الإفريقية وطرق الاتجار بالبشر، وبالتالي فإن روسيا لديها القدرة على إثارة أزمات إنسانية وسياسية لأوروبا وهي تتحدَّى مجالات النفوذ الأوروبي التاريخي (الفرنسي في المقام الأول) في إفريقيا، مما سيزيد من حدة الصراع بين فرنسا وروسيا خلال الفترة المقبلة.
يُعتبر إضعاف الديمقراطية أيضًا من أهمّ التداعيات الاستراتيجية الأخرى للانخراط الروسي في إفريقيا؛ حيث تعمل روسيا على ضم القادة الأفارقة من خلال اتفاقيات غامضة غير مواتية للبلدان الإفريقية، وفي هذه العملية، يتم تهميش المشاركة الشعبية والوكالة الإفريقية بشكل عام، ممَّا يُعزّز الاستبداد، ويترتب على تدهور المعايير الديمقراطية انعكاسات مباشرة على الأمن والتنمية في إفريقيا، فجميع النزاعات في إفريقيا تقريبًا نشأت من الحكومات الاستبدادية، وبالتالي فإن المحاولات التي شهدتها القارة الإفريقية –على مدار السنوات السابقة- من الاستقرار والنموّ المستدام وسيادة القانون والسيطرة على الفساد والظروف المعيشية، سيتم دحرها جميعًا بفضل الجهود الروسية لدحر معايير الحكم الديمقراطي، وسيكون لها تأثيرات بعيدة المدى على الاستقرار والأمن في إفريقيا والمنطقة . كما أن انتشار فاجنر بالدول المحيطة بمنطقة الساحل، يمهّد لتوغّلها في المنطقة انطلاقاً من مالي، إلا أن فرنسا لا تبدي رغبة سريعة في التخلي عن هذه المنطقة بسهولة، مما قد يؤجل انسحابها منها، أو تتركها تنهار تحت ضربات التنظيمات الإرهابية والحركات الانفصالية.