كثيرا ما تحدث الإعلام العبري عن العلاقات المتوترة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف جالانت، حتى قبل شن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ردًا على عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023.
ولقد وصلت تلك الخلافات ذروتها في مارس 2023 عندما قرر نتنياهو إقالة الوزير جالانت، لكنه تراجع على الفور بضغط الشارع الإسرائيلي الذي خرج في مظاهرات عارمة ضد القرار. غير أن عودة جالانت لمنصبه لم تبدد رواسب الخلافات بينهما، بل إنها تفاقمت مع استمرار الحرب بين إسرائيل والفصائل المسلحة في غزة وجبهات أخرى. ورغم عدم ثقة نتنياهو بوزير دفاعه إلا أنه بات مُكرَهًا على بقائه في السلطة بسبب الاعتبارات السياسية والأمنية الراهنة.
بداية الخلاف!
بدأ الخلاف بين نتنياهو وجالانت على خلفية الأجندة السياسية للحكومة الدينية المتطرفة بزعامة نتنياهو، والتي سعت لتمرير “تعديلات” قضائية بهدف إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، لكن جالانت – رغم انتسابه لحزب الليكود والائتلاف الحاكم- قد اعترض بشدة على تلك “التعديلات” مما أوقعه في خلافات شديدة مع رئيس الحكومة نتنياهو. ومع حلول “كارثة” طوفان الأقصى تفاقمت حدة تلك الخلافات مما أدى لانعدام الثقة بين الرجلين وهو ما انعكس بوضوح خلال جلسات المحادثات بشأن العديد من القضايا السياسية والأمنية. وكما عارض جالانت سياسة نتنياهو بشأن تمرير التعديلات القضائية، فقد عارضه أيضا في العديد من الإجراءات التشريعية وعلى رأسها سن قانون “تجنيد” الحريديم.
محاور الخلاف:
قد لا يمكن حصر محاور الخلاف بين نتنياهو ووزير دفاعه جالانت، لكن يمكن ذكر بعض تلك المحاور مثل: مسألة صفقة تبادل الأسرى، والتي يؤيدها جالانت ويماطل فيها نتنياهو، وكذلك مسألة “اليوم التالي” في قطاع غزة، حيث يؤيد جالانت اتخاذ قرارات لتحديد مستقبل القطاع رافضًا عودة الحكم العسكري في غزة، بينما يُماطل نتنياهو تحديد مستقبل القطاع.
وبشأن التعامل مع حزب الله في الجبهة الشمالية، يبدو جالانت أكثر صرامةً فيما يبدو نتنياهو مترددًا. وحول الوضع في الضفة الغربية نجد أن جالانت يحذر من اشتعال فتيل الأزمة هناك، بينما يسمح نتنياهو لبن جفير وسموتريتش للعربدة والممارسات الاستفزازية ضد الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية. وعن قانون التجنيد، فإن جالانت يعتبر التحاق الحريديم بصفوف الجيش ضرورة عاجلة لكن نتنياهو يماطل في تجنيدهم حفاظا على تماسك الائتلاف الحاكم. أما بشأن حملات تحريض السياسيين ضد القيادات العسكرية والأمنية، فإن جالانت يدافع عنهم لكن نتنياهو يتطاول عليهم عبر الأذرع الموالية له.
اتساع دائرة الخلافات!
لقد أدى الخلاف المستمر بين نتنياهو وجالانت إلى اتساع هوة الانشقاق الداخلي، خاصةً بعد تردد أقوايل حول إمكانية إقالة جالانت مرة أخرى، حيث سارع ألاف الناشطين الإسرائيليين عبر شبكات التواصل، للإعلان عن استعدادهم للخروج في مظاهرات حاشدة لدعم جالانت وإحباط إقالته أو حتى إقالة المستشارة القضائية للحكومة “جالى باهراف ميارا”.
كما اتسعت دائرة الخلافات لتشمل أيضًا تبادل الاتهامات بين القيادتين السياسية العسكرية، حيث وجه المتحدث العسكري الإسرائيلي العميد دانيال هاجري انتقادات ضمنية للسياسيين في مجلس الحرب، قائلا إن فكرة القضاء التام على حماس هى تضليل وذر للرماد في العيون، مؤكدا أن حركة حماس بمثابة فكرة مغروسة في نفوس الناس، ومن يظن أن الجيش الإسرائلي قادر على اقتلاعها فإنه مُخطئ. أما الشيئ الوحيد الذي يمكن تحقيقه فهو إيجاد كيان بديل لحماس. كما انتقد هاجري الفكر المتطرف للقادة السياسيين الإسرائيليين، مؤكدًا استحالة إعادة المختطفين الإسرائيليين بالقوة العسكرية.
خلاف أم حرب؟
يدرك الإسرائيليون مدى خطورة الخلاف المحتدم بين نتنياهو وجالانت باعتبارهما أهم شخصيتين في إدارة الحرب الحالية ضد “أعداء” إسرائيل. وهناك في تل أبيب من يعتبر أن ذلك الخلاف يمثل جبهة سابعة تهدد أمن إسرائيل ومستقبلها، فضلًا عن جبهات الحرب الأخرى في غزة ولبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق. وفي الوقت الذي تترقب فيه تل أبيب الرد الإيراني على اغتيال اسماعيل هنية، وبعد عشرة أشهر على بدء الحرب غير المسبوقة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، يتساءل الإسرائيليون عن أخطر السيناريوهات الحالية: هل هو التصعيد الوشيك بين إسرائيل وإيران أم هي “الحرب” المشتعلة بين رئيس الحكومة نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت؟
ورغم أن إسرائيل شهدت الكثير من الخلافات والتوترات بين رؤساء الحكومة ووزراء الدفاع، مثل ما حدث بين إسحاق رابين وشمعون بيرس، وبين إهود أولمرت وعامير بيرتس، وأيضا بين نتنياهو ووزير دفاعة إهود باراك. إلا أن الحلقة الأخيرة من تلك التوترات والتي تشهدها إسرائيل حاليا بين نتنياهو ويوآف جالانت، تُعد هي الأخطر لأنها تأتي في ظل أزمة داخلية وحرب دموية وهزيمة معنوية غير مسبوقة في تاريخ الدولة العبرية.
مستقبل جالانت!
بحسب الإعلام الإسرائيلي، فإن نتنياهو كان يعتزم إقالة جالانت- عقب انتهاء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة- لكن بسبب الهجوم الدموي على مجدل شمس وعميلتي الاغتيال في بيروت وطهران، فقد أرجأ نتنياهو قراره في هذا الشأن، على الأقل حتى انتهاء الاستعدادات لصد الهجوم المحتمل من جانب إيران وحزب الله ردًا على اغتيال إسماعيل هنية. وفي الوقت الذي يتابع فيه الإسرائيليون بخوف “الحرب” الدائرة بين نتنياهو وجالانت، فإن نتنياهو يبدو أكثر خوفا من البيت الأبيض، وهو الآن يترقب حلول الخامس من نوفمبر المقبل لعله يتمكن من إقالة جالانت.
ويرى مسؤولون إسرائيليون أن نتنياهو في جميع الأحوال، لن يتردد عن إقالة جالانت إذا سنحت الفرصة لذلك، وبعدها سيُقيل أيضا كلا من رئيس الأركان هيرتسي هليفي ورئيس جهاز الأمن العام رونين بار، بما يعني أن نتنياهو يسعى للهيمنة على المؤسسة الأمنية بعد تعيين قيادات اخرى تدين له بالولاء.
لكن على الجانب الآخر، هناك من يرى أن جالانت سيسعى لتشكيل قيادة جديدة باستقطاب بعض أعضاء حزب “الليكود”، ولكن جالانت نفسه قد نفى ذلك مؤكدًا حرصه على البقاء في حزب الليكود وعدم الرحيل عنه. وسوف تكشف الشهور المقبلة لمن ستكون الغلبة داخل الحزب الحاكم هل ستكون لنتنياهو أم لوزير دفاعه جالانت.
يتبين مما سبق:
1- استحالة رأب الصدع وإنهاء الخلافات بين نتنياهو وجالانت، لأن الأمر يتعلق بالعديد من القضايا السياسية والأمنية الشائكة مثل التعديلات القضائية ومستقبل قطاع غزة وأسلوب التعامل مع حزب الله وقانون التجنيد وغير ذلك، مما أفضى إلى انعدام الثقة بينهما.
2- الدعم السياسي والشعبي الذي يحظى به جالانت سيجعله يواصل تحديه لرئيس الحكومة والائتلاف الحكومي الفاشي الذي يضم بن جفير وسموتريتش. كما أن ذلك الدعم – الذي أرغم نتنياهو على التراجع عن إقالته في مارس 2023 – سيجعله أيضا مرشحًا للمنافسة على منصب رئيس الحكومة في أول انتخابات برلمانية مُقبلة.
3- بعد انسحاب جانتس وإيزنكوت من حكومة الطوارئ، أصبح جالانت هو الوزير الإسرائيلي الأقرب للتعامل مع إدارة بايدن في البيت الأبيض، في ظل تعنت نتنياهو وتسويفه في كثير من ملفات الحرب الدائرة منذ عشرة أشهر.
4- الخلافات السياسية في إسرائيل ستؤدي لمزيد من الانشقاقات داخل المجتمع الإسرائيلي لا سيما بين الحريديم والعلمانيين وبين اليمين واليسار وبين القيادتين السياسية والعسكرية، وستكون الأمور مرشحة للتصعيد كلما اقترب موعد الانتخابات المقبلة.
5- بعد عشرة أشهر من الحرب على غزة، أدركت القيادة العسكرية الإسرائيلية استحالة القضاء على فصائل المقاومة، وعليه فإن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لن يتحقق إلا بالطرق السلمية.