قصف الطيران الإسرائيلي مؤخراً أهدافًا سورية يالقرب من القصر الرئاسي في العاصمة دمشق، في خطوة غير مسبوقة من شأنها إشعال الصراع بين سوريا وإسرائيل وإقحام أطراف أخرى بما يُنذر بأزمة إقليمية ودولية جديدة.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعة يسرائيل كاتس قد هددا النظام السوري بالتدخل العسكري لحماية الأقلية الدرزية في سوريا، وأعلن نتنياهو وكاتس في بيانهما المشترك أن الهجوم الأخير يعد رسالة واضحة للنظام السوري مفادها أن إسرائيل لن تسمح بوجود قوات سورية جنوبي دمشق أو بأي تهديد للطائفة الدرزية هناك.
رسائل إسرائيلية!
أعلن مسؤولون إسرائيليون بعد القصف الأخير بالقرب من القصر الجمهوري في دمشق، إن تلك العملية العسكرية تتضمن رسالة واضحة للنظام السوري كما سبق، فيما يعكس التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير إصرار تل أبيب على زعزعة الاستقرار في سوريا وعدم تمكين الرئيس أحمد الشرع من إخضاع كل الطوائف والفصائل السورية لسيطرته ونفوذه. وتصر إسرائيل على تقسيم سوريا بذريعة حماية الأقليات وعلى رأسها الأقلية الدرزية في سوريا التي تربطها أواصر نسب وقرابة مع الطائفة الدرزية في الداخل الفلسطيني والتي تخدم في الجيش الإسرائيلي وتدين بالولاء لحكومة تل أبيب.
مخاوف تل أبيب!
بحسب المحللين الإسرائيليين، فإن نظام الحكم الجديد في دمشق لا يمكن أن يكون متسامحًا لأن هرم السلطة السورية يتبنى نهج الجهاد والتطرف، ولأن الرئيس أحمد الشرع لا يمكن أن يغير جلده مهما بدا للعالم في ثوب جديد. لذا فإن حكومة تل أبيب ترى أن بقاء قواتها العسكرية في الجنوب السوري هو أمر ضروري لحفظ أمن إسرائيل خاصة في ظل تغير الأوضاع في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد وتولي الحكومة الجديدة بقيادة الشرع ذي الخلفية الجهادية. ورغم أن نظام الحكم الجديد في سوريا قد وجه رسائل مطمئنة لدول الجوار والمجتمع الدولي إلا أن حكومة تل أبيب لا تزال متخوفة منه لا سيما في ظل تقاربه الشديد وتنسيقه الدائم مع النظام التركي برئاسة رجب طيب أردوغان.
إسرائيل ومأزق الدروز!
تراقب إسرائيل ما يحدث في سوريا وتدرس حساباتها المستقبلية. وفي ظل الضغوط التي يمارسها الدروز داخل الخط الأخضر، والذين يدينون بالولاء للدولة اليهودية، تجد حكومة نتنياهو نفسها أمام إمكانية منح الحماية للإقليم الذي يضم الأقلية الدرزية في جنوب سوريا وهو إقليم واسع النطاق يمتد من جنوب سوريا وحتى جبل الدروز. ولا يُعد فرض الحماية الإسرائيلية مهمة سهلة لأن منطقة الدروز تضم عرقيات وفصائل مختلفة وبعضها مُسلح لا يوالي الدروز. كما أن الدروز انفسهم لم تراودهم من قبل فكرة الانفصال وكانوا دومًا يدينون بالولاء لنظام الحكم في دمشق.
وحتى الآن لم تحدد إسرائيل خطة تعاملها مع ملف الدروز في سوريا، لأن الدروز هناك لا يعلمون طبيعة نظام الحكم الذي يمكنهم الانصياع له بعد فقدان ثقتهم بنظام أحمد الشرع. فهل سيقررون تأسيس سلطة مدنية خاصة بهم تحت الحماية الإسرائيلية؟
ترامب تخلى عن سوريا!
ترى حكومة تل أبيب أن الرئيس السوري أحمد الشرع هو شخصية جهادية متطرفة مهما بدا في ثوب الحمل الوديع بعد توليه منصب الرئاسة، ولذلك فإن إسرائيل تزيد من هجماتها لزعزعة الاستقرار في سوريا وعدم تمكين نظام الشرع من بسط سيطرته على كامل التراب السوري حتى لا يشكل خطرا على إسرائيل. ولكن ما يزعج تل أبيب هو أن القرار بشأن من يحكم سوريا قد حُسم في مكان آخر وهو البيت الأبيض حيث يقبع زعيم العالم دونالد ترامب. ولقد حُسم الأمر تحديدا خلال اللقاء الذي أجراه الرئيس الأمريكي ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. فحينما توجه نتنياهو إلى الرئيس الأمريكي ليشكو له من التدخل التركي المتزايد في سوريا، فاجأه ترامب بأنه على علاقات جيدة بالرئيس أردوغان بل وعرض عليه المساعدة في حل مشاكله مع الرئيس التركي. لقد كانت تلك هي البداية لإعلان آخر من جانب الرئيس الأمريكي بأن ” سوريا باتت من نصيب أردوغان”. ولقد تمكن أردوغان بالفعل من بسط سيطرته على سوريا وهو ما لم يقدر أي زعيم أن يفعله منذ ألفي عام.
إن سوريا في حقيقة الأمر لا تُعني الرئيس ترامب، الذي يعتبرها مكانا للقتل والفوضي، لذلك فقد أوكلها للرئيس أردوغان شريطة الحفاظ على المصالح الأمريكية. أما مسألة الأقلية الكردية ومخاوف إسرائيل من التدخل التركي في سوريا فهي لا تزعج الرئيس ترامب.
وعليه، فإن سماح ترامب لأردوغان ببسط سيطرته على سوريا، يُعدُّ فرصة جيدة لإسرائيل كي تُعيد حساباتها وتُصحح سياستها في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وهي السياسة التي لم تجلب لها الأمن، بل أغرقتها في دوامة من المشاكل الجديدة.
سيناريوهات فرض الحماية!
يقع جبل الدروز على بعد 82 كيلومتر من إسرائيل، ما يعنى أن الدروز يشغلون مساحة كبيرة، لكن حدود تلك المساحة غير واضحة أو لا تكاد تكون قائمة. وكانت إسرائيل قد احتلت هضبة الجولان السورية عام 1967 وبذلك وفَّرت العمق الاستراتيجي للمستوطنين الإسرائيليين في الجليل، وزادت من مساحة إسرائيل بضم هضبة الجولان وجعلها منطقة مأهولة ومُنتجة.
وفي حال أعلنت إسرائيل فرض حمايتها على منطقة الدروز، فسيعني ذلك اتساع حدود إسرائيل بشكل كبير، ولكن ذلك سيكون محفوفًا بالمخاطر والتحديات الصعبة سواء على المستوى الأمنى والعسكري أو على المستوى السياسي، لأن المجتمع الدولي سيعتبر تدخل إسرائيلي في جنوب سوريا احتلالًا غير مشروع.
وهناك جزئية أخرى يجب التنويه إليها وهي أنه عندما احتلت إسرائيل هضبة الجولان فرَّ منها المواطنون العرب وبقيت خالية. ومن الصعب أن يكون الوضع مشابها في الجنوب السوري، إذ كيف سيتم ترحيل أو طرد مواطني العشائر المختلفة وإبقاء المواطنين الدروز.
فيما يرى المحللون الإسرائيليون أن حكومة نتنياهو لا بد أن تسارع باتخاذ قرارات مفصلية مهما كانت صعبة. فالحماية الإسرائيلية للدروز عبر استخدام سلاح الطيران ستكون محدودة. كما أن السيطرة الميدانية عبر اقتحام القوات البرية واحتلال منطقة الدروز، تُعد مهمة معقدة وستوقع الخسائر في الأرواح، فضلا عن التكلفة المادية الهائلة. أما احتمال أن يتمكن الدروز من السيطرة بأنفسهم على المنطقة التي يعيشون بها بدعم إسرائيلي عن بُعد، فهو احتمال وارد لكن بنسبة ضئيلة، لأن غالبية الدروز ينقصهم التأهيل العسكري.
إمكانية التوصل إلى تفاهمات!
إن الصدمة التي تعيشها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر 2023 قد تبدلت بشعور مختلف وهو الشعور بالقوة، وكأن إسرائيل باتت قادرة على كل شئ خاصةً في أعقاب إنجازاتها في الحرب، وذلك الشعور الوهمي هو الذي قادها إلى معاداة سوريا واحتلال المزيد من أراضيها – وهو ما لم يعزز أمن إسرائيل، بل أوقعها في نزاع مع السكان المحليين؛ وسيدفعها للصدام المسلح مع دمشق، وحتى مع أنقرة.
ربما يحق لإسرائيل أن تتخوف مما قد يحدث في سوريا، وعليها أن تتابع التطورات السورية بحذر، لكن في المقابل، يجب عليها أن تتذكر أن أي محاولة من جانبها لمنع تركيا من السيطرة على سوريا سيكون محكومًا عليه بالفشل. لذا يجب على إسرائيل أن تحاول فتح قنوات اتصال مع دمشق ومع أنقرة أيضا، من خلال وساطة الولايات المتحدة وكذلك أذربيجان، والتوصل إلى تفاهمات قد لا تلبي جميع مطالب تل أبيب، لكنها ستمنع التصعيد الذي لا تريده إسرائيل ولا تركيا.
خلاصة القول‘ إسرائيل في ظل حكومتها اليمينية الدينية المتطرفة، ستواصل نهج التصعيد العسكري ضد سوريا، مُستغلةً ورقة الأقليات وخاصة الأقلية الدرزية المقيمة في المناطق المجاورة لحدود الدولة العبرية.
وتدرك حكومة تل أبيب أن التقارب السوري التركي يشكل أخطر تهديد على أمنها القومي، بسبب التقارب الديني والأيديولوجي بين الفكر الجهادي في دمشق والإسلام السياسي في أنقرة. وذلك التهديد سيدفع إسرائيل لبذل كل الجهود لإفشال نظام الحكم الحالي في سوريا عبر ضرب الاستقرار وإشعال ملف الأقليات سواء الدروز أو الأكراد أو العلويين او المسيحيين، للحيلولة دون تمكين النظام السوري الجديد من بسط هيمنته وإعادة بناء سوريا وتعزيز تعاونه مع تركيا وحتى مع الدول العربية.
وختامًا، سيكون من الصعب على إسرائيل أن تواصل تدخلها العسكري في سوريا، لأنه بمرور الوقت سيعمل النظام السوري على تسوية خلافاته مع الأقليات وسيعزز تعاونه العسكري والأمني مع تركيا بما يمكنه من الدفاع عن سوريا وإفشال المخططات الإسرائيلية.
وفي المقابل، يٍٍجب على الدول العربية لعب دور أكبر لمنع العدوان على سوريا، وإبداء مزيد من التعاون مع دمشق حتى لا تخضع بالكلية لقرار أردوغان والهيمنة التركية.