ربما يشعر كل مسافر إلى إسرائيل وكأنه في دولة كسائر دول العالم. ولكنه إذا أمعن النظر جيدًا سيرى أن الأمر مُختلف تمامًا. إذ سيلاحظ أن القواعد والمناطق العسكرية والأمنية تحيط به من كل جانب، وأنها منتشرة في المدن والقرى والمناطق المأهولة وغير المأهولة، لدرجة أن تلك القواعد والمناطق العسكرية تشغل ما يقرب من نصف مساحة إسرائيل.

“دولة أمنية”!

نشأت إسرائيل منذ تأسيسها باعتبارها “دولة أمنية”، وبحسب عقيدتها العسكرية، فإن الأراضي والمناطق المفتوحة فيها مُستغلة لخدمة الأغراض الأمنية والعسكرية. وخلال السنوات الأولى لقيام إسرائيل كان بن جوريون يؤمن بأن الاستيطان الصهيوني في المناطق النائية والحدودية يُعد جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الأمنية والعسكرية التي تحمي الحدود، ولذا فقد تم إنشاء إدارة خاصة داخل الهيئة العليا للأركان تقوم بالتخطيط للاستيطان الصهيوني.

كما تدخّل الجيش الإسرائيلي في التخطيط لإقامة شبكة طرق تخدم الأهداف العسكرية، وتراعي الاعتبارات الأمنية المختلفة لضمان سُرعة نقل القوات أثناء الحروب. وحتى الغابات، تم استغلالها أمنيًا, فتم غرس الأشجار في المعسكرات وعلى طول الطرق وحول الوحدات العسكرية بغرض التمويه وحتى تكون بمثابة عوائق طبيعية.

العقيدة العسكرية والعقيدة الدينية..

يعاني المجتمع الإسرائيلي من تَغَوُّل المؤسسة العسكرية، وبسط هيمنتها على كل مفاصل الدولة، وفرض مفاهيم جديدة لاتتفق بالضرورة مع الشريعة اليهودية, لدرجة أن المؤسسات الدينية اليهودية باتت عاجزة عن مواجهة ذلك.

ولعل المعارضة الشديدة والمستمرة من جانب كثير من الحاخامات لتجنيد الفتيات في صفوف الجيش الإسرائيلي، تكشف مدى الصدام بين العقيدتين المهيمنتين في إسرائيل ألا وهما: العقيدة اليهودية والعقيدة العسكرية. فحسب الشريعة اليهودية, يحرم على الفتيات أداء الخدمة العسكرية. أما العقيدة العسكرية, فترى ضرورة السعي لتوسيع دائرة المجندين في صفوف الجيش حتى لو كان ذلك من خلال تجنيد الفتيات، وهو ما يعارضه الحاخامات، وخاصة المنتمين للتيار الحريدي، حيث يرون أن الجيش الإسرائيلي، وإن كان يبدو مؤسسة وطنية, إلا أنه في واقع الأمر ينهش في جسد الدولة ويبتلع ميزانياتها ويدمر مواردها. فضلا عن أنه يُهدر زهرة شباب المجندين والمجندات، ويبدد طاقاتهم وأوقاتهم طيلة فترات الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية.

هيمنة العقيدة العسكرية!

إن أكثر ما يؤجج غضب الحاخامات في إسرائيل هو أن عقيدة الجيش باتت تسيطر على عقول النخبة، بزعم أنها أكثر عمليةً ومرونةُ من الشريعة اليهودية, رغم أن تلك العقيدة تقوم على محو أوجه التباين والاختلاف بين الرجل والمرأة, ضمن المخطط العلماني الذي يُفسح المجال لإلحاق الفتيات المجندات ضمن صفوف الوحدات القتالية.

ولقد فرضت العقيدة العسكرية الإسرائيلية هيمنتها على الأيديولوجية الدينية اليهودية مثلما فرضت هيمنتها من قبل، على تيار الصهيونية الدينية، بعدما أحسنت استغلال ما لديه من نزعة قومية متطرفة وإيمان بفكرة الخلاص الديني.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تمكنت العقيدة العسكرية الإسرائيلية من استقطاب الحركة النسوية والفكر التنويري بكل ما يحمل من قيم ومبادئ مثل قيمة تكافؤ الفرص، حيث باتت الخدمة العسكرية للنساء تبدو الآن وكأنها إنجاز للحركة النسوية في إسرائيل, فيما أصبحت الخدمة العسكرية للشواذ وكأنها أهم إنجاز للحركة الليبرالية.

العقيدة العسكرية فوق الجميع!

لم تعد العقيدة العسكرية الإسرائيلية تترك شيئًا إلا وأتت عليه, فهي تبتلع كل ما يصادفها حتى الحق في ممارسة الحياة السياسية. إذ تعالت مؤخرًا بعض الأصوات التي تنادي بجعل أداء الخدمة العسكرية شرطًا ضروريًا لنيل حق الانتخاب للكنيست. والنتيجة المتوقعة هي تعزيز التمييز العنصري, وسلب حق الانتخاب، سواء من فلسطيني مناطق الـ 48، أو من الحريديم (الأصوليين اليهود) الذين لا يخدمون في صفوف الجيش. وتأتي تلك الأصوات متناغمةً مع عقيدة الجيش الإسرائيلي الذي أصبح فوق الجميع، والذي يرى أن من لا يخدم في الجيش لا يخدم “الدولة” ومن لا يخدم “الدولة” لا يمكنه الانتخاب للكنيست.

العقيدة الدينية قبل قيام الدولة!

في واقع الأمر، لا يمكن تجاهل حقيقة أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية قد اعتمدت منذ البداية على المرجعية الدينية اليهودية التي تربط بين حروب إسرائيل و”رب الجنود” باعتبارها حروبًا دينية مُقدسة. ولأهمية العقيدة الدينية لدي الجنود الإسرائيليين فقد تم إنشاء الحاخامية العسكرية قبل قيام الدولة وقبل تأسيس الجيش الإسرائيلي، فكان ذلك ضمن قوات منظمة “الهاجاناه” الصهيونية. وكان الهدف من إنشاء الحاخامية العسكرية هو الحفاظ على الشعائر والطقوس الدينية اليهودية لدى الجنود، وغرس العقيدة القتالية في نفوسهم وإحياء فكرة الخلاص والعودة إلى أرض الميعاد. واستمر دور الحاخامية العسكرية  في الجيش الإسرائيلي لتحريض الجنود على القتال ضد الفلسطينيين والعرب لا سيما في الحروب الأولى التي شنها الجيش الإسرائيلي في أعوام 48 و56 و67.

ورغم قِدم العقيدة الدينية وأهميتها إلا أنها باتت هامشية مقارنةً بالعقيدة العسكرية، خاصة بعد انتهاء الحروب مع دول الطوق وإبرام اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية.

 

خلاصة القول، إن إسرائيل دولة عسكرية في المقام الأول، ويُعدُّ الجيش فيها صاحب الكلمة العليا في كل شئ، فيما أصبحت الشريعة اليهودية المحافظة تواجه تحديًا خطيرًا في ظل هيمنة العقيدة العسكرية التي تستغل الدين لخدمة مصالحها. كما أصبحت كل التيارات والمؤسسات خاضعة للعقيدة العسكرية، بما في ذلك الحركة النسوية أو الديمقراطية أو الديانة اليهودية أو الليبرالية.

ولا يقتصر الأمر على عدم الفصل بين الديانة اليهودية والدولة, بل ليس هناك أيضا فصل بين العقيدة العسكرية والدولة، لأن تلك العقيدة أصبحت مرتبطة عضويًا بكيان الدولة العبرية, فلا يمكن لأي شأن أن يتم خارج إطار الجيش.

وختامًا،  فإن الدول العربية والسلطة الفلسطينية يجب أن تتعامل مع إسرائيل من منطلق أنها دولة أمنية أو كيان عسكري، وأن العقيدة العسكرية هي الأساس في كل علاقاتها وتحالفاتها واتفاقياتها مع الدول العربية، سواء دول الطوق أو الدول الإقليمية مثل الدول الخليجية أو المغرب والسودان. وهذا يعني أن إسرائيل لن تتخلى عن طموحاتها العسكرية والتوسعية في منطقة الشرق الأوسط، لأن كل قادتها العسكريين والسياسيين نشأوا على المرجعية الأمنية ولن يتخلوا عن هواجسهم الأمنية والأيديولوجية العسكرية مهما أبرموا من اتفاقيات للتطبيع مع الدول العربية.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version