قراءة في الانتخابات الرئاسية الإيرانية ..

في انتخابات رئاسية تعددية نزيهة ومهندسة مسبقا، فاز آية الله سيد إبراهيم رئيسي في المنافسات الانتخابية، التي أجريت يوم 18 يونيو 2021م، وذلك وفقا للبيان الذي أعلنه “عبد الرضا رحماني فضلي” زير الداخلية، وذكر فيه أن الجنة التنفيذية للانتخابات اعتمدت نتيجة الانتخابات الرئاسية الثالثة عشرة في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية.
وقد حملت أرقام هذه النتيجة مؤشرات دالة على عمق الأزمة السياسية التي تعتري النظام في الوقت الراهن، خاصة أن عدد الأصوات التي شاركت بالانتخابات بلغت 28 مليونا و933 ألفا و4 صوتا، من إجمالي عدد 59,310,307، بما بشير إلى تدني نسبة المشاركة إلى 48.8%، حصل منها المرشح الفائز إبراهيم رئيسي على 61,94%، بينما حصل منافسوه الثلاثة محسن رضائي وعبد الناصر همتي وقاضي زاده هاشمي على أصوات تعد أقل من عدد الأصوات الباطلة التي بلغت 3 مليون و726 ألف و870 صوتا. وبهذا يكون “خادم الإمام الثامن” إبراهيم رئيسي هو الرئيس الثامن لجمهورية إيران بعد كل من: الحسن بني صدر، ومحمد على رجائي، وعلي خامنئي، وهاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، ومحمود أحمدي نجاد، وحسن روحاني. وخامس رئيس معمم منتم للمؤسسة الدينية.
أولا: دواعي الاختيار
يتمتع إبراهيم رئيسي بمؤهلات وسمات شخصية جعلته مرشح الولي الفقيه الذي اجتمعت على ترشيحه تقديرات الأجهزة السيادية، وعلى رأسها مؤسسة الحرس الثوري، للفوز بأعلى منصب تنفيذي بعد المرشد الأعلى، وهي ذات التقديرات التي أخرجت أحمدي نجاد من غيابات المحليات الى كرسي الرئاسة واسقاط منافسه مير حسين موسوي. لتكتمل بذلك سيطرة التيار الأصولي المتشدد على جميع مؤسسات الدولة، بعد فوزه بمعظم مقاعد مجلس الشورى الإسلامي، في الانتخابات التي أجريت في فبراير من العام الماضي.
ولما لا وإبراهيم رئيسي يعد في نظر النظام نموذجا للفقيه الأصولي المتشدد الذين يعتمر العمامة السوداء ويتمتع بدهاء سياسي كاف لتدبير الحكم؛ أهّله لنيل ثقة المرشد الأعلى للثورة. كما إنه يبلغ من العمر اثنتين وستين عاما (ولد بمدينة مشهد عام 1960م) وتتلمذ على يد كبار الفقهاء من أمثال آية الله بروجردي، آية الله مشكيني، ونوري همداني، وفاضل لنكراني، وعلي خامنئي، ومرعشي نجفي. ومتزوج من ابنة آية الله أحمد علم الهدى إمام جمعة مشهد وممثل المرشد الأعلى بمحافظة خراسان رضوى. وحاصل على الماجستير في القانون الدولي الخاص، والدكتوراه في الفقه من جامعة الشهيد مطهري. والأهم أنه حظي بثقة المرشد الأعلى وأصبح مقربا منه ومحط ثقته. فضلا عن نيله ثقة كبار قادة الحرس الثوري وأجهزة الأمن وأعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور.
الانتخابات
الرئيس الإيرانى المنتخب إبراهيم رئيسى – أرشيفية
ويتمتع إبراهيم رئيسي أيضا بخبرة قضائية طويلة، إذ تقلد عددا من المناصب القضائية، على مدى الأربعين عاما الماضية، منها:
المدعي العام للثورة الإسلامية بمدينة كرج.
– المدعي العام للثورة الإسلامية بمحافظة همدان.
– نائب المدعي العام للثورة الإسلامية بطهران.
– المدعي العام للثورة الإسلامية بطهران.
– عضو اللجنة المركزية لرابطة علماء طهران المناضلين اليمينية.
– رئيس محكمة رجال الدين.
– المفتش العام.
– النائب العام لجمهورية إيران الإسلامية.
– النائب الأول لرئيس السلطة القضائية.
– عضو بمجلس الخبراء، ونائب رئيسه، وأحد أعضاء هيئة الأحد عشر التي ستتولى اختيار وتعيين المرشد القادم للثورة.
– المشرف العام على مؤسسة الإمام الرضا، التي تعد أغنى مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، وتتكفل بإدارة أهم مزارات إيران الشيعية، فضلا عن إنها جهة التمويل الرئيسية لمعظم أنشطة نشر المذهب الشيعي في العالم، وتمويل الجماعات الأصولية المتطرفة بالمنطقة.
– رئيس السلطة القضائية، منذ 7 مارس 2019م.
وفضلا عما سبق، يضع إبراهيم رئيسي يده على عدد من ملفات الفساد الكبرى داخل دائرة المقربين من النظام؛ وبالتالي فمن المحتمل، بما أنه رفع شعار مواجهة الفساد والفقر، أن يدفع ببعض هذه الملفات إلى العلن بالتنسيق مع الأجهزة والمؤسسات السيادية؛ تحقيقا لأحد الأهداف المرحلية المهمة للنظام، التي تتمثل في محاولة التطهر من الفساد الذي شاب معظم أجهزة الدولة ومؤسساتها ورموزها. ناهيك عن ضرورة حسم عدد من الملفات المصيرية الأخرى العالقة، التي جعلت إبراهيم رئيسي هو المرشح المثالي لمنصب رئيس الجمهورية في المرحلة الراهنة، ويصبح هو الحصان الذي يراهن عليه المرشد الأعلى لقيادة إيران في المرحلة القادمة. وذلك على الرغم من إدراجه على قائمة العقوبات الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 4 نوفمبر 2019م، ناهيك عن السمعة السيئة التي تلاحقه بسبب مشاركته في إصدار أحكام بالإعدام، على الآلاف من أعضاء مجاهدي خلق وحزب توده، المعروفة بمجزرة 1988م.
ثانيا هندسة الانتخاب:
أدار النظام الإيراني، بما له من باع طويل في هندسة الانتخابات، الدفع بإبراهيم رئيسي إلى قمة السلطة التنفيذية، وفقا للخطوات التالية:
1. اتباع الضوابط القانونية
إذ يمنح دستور جمهورية إيران الإسلامية، بموجب المادة 115، لكل إيراني من أصول إيرانية، متمتع بالجنسية الخالصة، معتقد بالمذهب الشيعي الجعفري، مؤمن بنظام الجمهورية الإسلامية، الحق في التقدم لخوض أي من المنافسات الانتخابية التي يتم إجراؤها بالبلاد. ولكنه جعل هذا الحق رهنا بقرارات مجلس صيانة الدستور، طبقا للمواد 99، و110، و118، فجعله المخول الوحيد بالإشراف الكامل على جميع الانتخابات، ومنها انتخابات رئاسة الجمهورية، والمنوط حصرا بمنح أي من المتقدمين صلاحية الترشح من عدمه، فضلا عن تصديق مرسوم تنصيب الرئيس الفائز في هذه الانتخابات، بعد موافقة المرشد الأعلى للثورة. وفي هذا الإطار منح مجلس صيانة الدستور إبراهيم رئيسي صلاحية خوض الانتخابات الرئاسية دون اعتراض؛ وعلينا أن نأخذ في الاعتبار هنا أن نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور من رجال القانون هم من عينهم إبراهيم رئيسي بنفسه من قبل بوصفه رئيسا للسلطة القضائية، وفقا للمادة 99 من الدستور.
2. مراعاة الحسابات السياسية
تخضع عملية تحديد صلاحية مرشحي الرئاسة، على وجه الخصوص، لحسابات سياسية دقيقة واعتبارات داخلية تراعي التوزان المطلوب بين الأثقال الحزبية المختلفة؛ بما يضمن للنظام قواعده الشعبية. انطلاقا من أن الانتخابات الرئاسية تعد إحدى الوسائل الفعالة لتجديد حيوية النظام عبر تفعيل المشاركة الشعبية. وهنا لا يأبه النظام كثيرا بحساب الفارق بين من تم التصويت له بالقبول أو الرفض، قدر اهتمامه الشديد بتكثيف نسب إقبال الجماهير على المشاركة في التصويت.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن قرارات مجلس صيانة الدستور المتعلقة بمنح صلاحية خوض هذه المنافسات الانتخابية من عدمه، تمثل واجهة دستورية لقرارات المرشد الأعلى للثورة، بالتنسيق مع الاجهزة السيادية الأخرى، كما سبق الإشارة، ومن ثم فإن قرار الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية هو بالدرجة الأولى قرار سيادي صدر وفق حسابات دقيقة. ولذا فمن الممكن أن تجد أحمدي نجاد كان صالحا لخوض انتخابات في مرحلة ما، ولكنه لم يعد مناسبا لمرحلة أخرى، وذلك وفقا للحسابات التي تستهدف حماية النظام وبقاء حيويته.
الرئيس الإيرانى الأسبق أحمدى نجاد – أرشيفية
3. تصفية المرشحين
بما أن الدستور قد منح كل إيراني تتوفر فيه الشروط اللازمة للترشح، فقد تقدم 45 شخصا من مختلف الانتماءات الحزبية الإصلاحية والأصولية بأوراق ترشحهم إلى اللجنة العليا للانتخابات بوزارة الداخلية؛ تمهيدا لخوض المنافسة الانتخابية على منصب الرئاسة، غير أن مجلس صيانة الدستور، بصلاحياته الدستورية، اكتفى بمنح سبعة منهم فقط صلاحية خوص هذه المنافسة، هم:
1. أمير حسين قاضي زاده هاشمي (العضو بمجلس الشورى الإسلامي).
2. عبد الناصر همتي (رئيس البنك المركز الإيراني).
3. محسن رضائي (أمين عام جمع تشخيص مصلحة النظام، وقائد قوات الحرس الثوري الأسبق).
4. سعيد جليلي (الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للأمن القومي).
5. سيد إبراهيم رئيسي (رئيس السلطة القضائية والمشرف العام على مؤسسة الإمام الرضا).
6. محسن مهر علي زاده (محافظ أصفهان الأسبق).
7. علي رضا زكاني (رئيس مركز دراسات مجلس الشورى الإسلامي).
بينما لم يحصل بقية المرشحين على هذه الصلاحية، وفقا للاعتبارات سالفة الذكر، إذ تمت إزاحة كلا من محمود أحمدي نجاد، وعلي لاريجاني، ومصطفی تاج‌زاده، بوصفهم أقوى المنافسين المحتملين لإبراهيم رئيسي، والمدعوم من مظلة حزبية أصولية واسعة هي ائتلاف الثورة ومجلس الوحدة ورابطة علماء الدين المناضلين الأصولية.
4. توجيه الرأي العام
إذ عادة ما يطلق الجهاز الدعائي حملة مخططة لتوجيه الرأي العام وتهيئة المناخ المناسب لإجراء العملية الانتخابية بسلام، عبر وسائل الإعلام التقليدية المختلفة إضافة إلى منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الاليكترونية المتنوعة التي تستهدف الناخبين داخل إيران وخارجها. وتتعالى الدعوات التي تحض الجماهير على المشاركة في الانتخابات طرديا كلما اقترب موعد التصويت، وتتكاثر الأخبار والموضوعات المتعلقة بالمرشحين وانتماءهم السياسية وبرامجهم الانتخابية التي تغازل طموحات الأغلبية العظمى من المواطنين. إلى جانب التركيز على نشر إعلانات تأييد الائتلافات السياسية والتيارات الحزبية للمرشحين. ثم تقوم مراكز قياس الرأي المختلفة، بتوجيهات من أجهزة الأمن، بإطلاق العشرات من عمليات استطلاع الرأي الموجهة، والتي تظهر عادة نيل المرشح المقصود أعلى نسب هذه الاستطلاعات. وفي خط مواز، تستعر حرب افتراضية عبر وسائل التواصل والمواقع الاليكترونية المختلفة بين مؤيدي النظام ومعارضيه حول دعوات المشاركة بكثافة في الانتخابات تأكيدا على وجود حاضنة شعبية للنظام، أو المقاطعة الكاملة لها بغرض سحب الشرعية عنه داخليا وإحراجه خارجيا.
5. المساومات الانتخابية
لقد بات من المعهود أن تتم تفاهمات جادة بمعرفة أجهزة النظام، إما لإشعال المنافسات الانتخابية، مثلما فعل هاشمي رفسنجاني ونافس محمود أحمدي نجاد عام 2005م، على الرغم من يقينه التام بالترتيبات التي أجرتها الأجهزة السيادية لترجيح كفة نجاد بوصفه رجل المرحلة في ذلك الوقت، أو أن تتعلق هذه التفاهمات بانسحاب مرشح لترجيح كفة آخر أو لعدم تفتيت الكتلة التصويتية. وفي هذا الإطار أعلن ثلاثة مرشحين انسحابهم من المنافسات الانتخابية الأخيرة، إذ أعلن محسن مهر علي زاده، انسحابه لصالح عبد الناصر همتي، بينما انسحب كل من سعيد جليلي وعلي رضا زاكاني لصالح إبراهيم رئيسي؛ لتنحصر المنافسة بذلك بينه وبين محسن رضائي وعبد الناصر همتي وقاضي زاده، الذين لا يتمتعون بأي قبول شعبي على الإطلاق. وبالتالي كان من الطبيعي أن تكون الأصوات الباطلة أكثر من الأصوات التي حصلوا عليها.
6. إدارة التصويت
وفقا للنظام الانتخابي في إيران، يمتلك الولي الفقيه، بما له من سلطات دستورية وروحية، كتلة تصويتية واسعة تتمثل في أصوات جميع أفراد المؤسسة العسكرية بالجيش والحرس الثوري ورجال الأمن والشرطة والبسيج الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات، فضلا عن جميع العاملين بالأجهزة والهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للمرشد الأعلى أو الخاضعة له وموظفي الإدارات الحكومية، الذين يتم توجيههم للوقوف بالشكل المطلوب أمام عدسات مصوري وسائل الإعلام والمراسلين أثناء تصويتهم لصالح المرشح المتفق عليه؛ لإرسال رسائل للعالم تثبت أن الانتخابات تمت دون حدوث ما يعكر الصفو، وأن الإقبال على التصويت كانت مرتفعة على الرغم من دعوات المقاطعة.
7. إدارة الصورة الذهنية
إذ نجحت حملة إبراهيم رئيسي الانتخابية، اعتمادا على أحد عشر ألف شاب وفتاه، في رسم صورة ذهنية متعددة الأبعاد، منها روحي استهدف المماثلة بين مجيء سيد رئيسي الذي اقتضته “الضرورة” ومجيء سيد خميني الذي اقتضته “الثورة”، والتأكيد على فكرة التحالف الاستراتيجي المقدس بين فقهاء المؤسسة الدينية وقادة المؤسسة العسكرية، عبر نشر صورة يُقبّل فيها قاسم سليماني جبين رئيسي، وأخرى تجمعه مع محسن فخري زاده. ناهيك عن إطلاق لقب “الرئيس ذا القوتين” عليه، على وزن “ذي القرنين” استنادا إلى أنه أول رئيس للسلطة القضائية يتبوأ مقاليد السلطة التنفيذية. وهي صورة تحمل دلالة مهمة لكون ذي القرنين يماثل في المخيلة الايرانية كورش العظيم رمز إيران البطولي وفاتح العالم، وإيران اليوم متعطشة لصورة البطل في ظل المعارك التي تديرها على المستويين الاقليمي والدولي.
وقد آتت هذه الحملة أكلها، عندما أظهرت المؤشرات الواردة من اللجان الانتخابية فوز إبراهيم رئيسي بمنصب رئيس الجمهورية على منافسيه، وعندها تبارت جميع المواقع الإليكترونية التابعة للأصوليين والمؤسسات والهيئات التابعة للمرشد الأعلى في رفع قول الله تعالى﴿ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ليس للتعبير في حقيقة الأمر عن نشوة الانتصار الذي حققه النظام بفوز مرشحه، بقدر سروره أيضا بالتغلب على دعوات المقاطعة، التي كانت تستهدف وضع مشروعية النظام على المحك داخليا وإحراجه خارجيا. وهو أمر يشير إلى احتمالات عودة تبني الخطاب المؤدلج الموجه للاستهلاك المحلي.
ثالثا: دواعي الفوز داخليا:
ينطوي فوز إبراهيم رئيسي على أهمية بالغة بالنسبة للنظام الإيراني في الوقت الراهن، خاصة أنه يعيش أضعف مراحل عمره، حتى أن كل يوم يمر عليه، في ظل التحديات الداخلية والخارجية، تعد خصما من قدرته على الصمود أو الاستمرار؛ وبات منشغلا بكيفية الحفاظ على شرعية بقائه داخليا، وإلا فإنه سيلقى مصير نظام الشاه، فأصبح الإصلاح الاقتصادي والسياسي مطلبا مصيريا لإعادة إنتاج النظام لنفسه من جديد. وبالتالي تتزايد احتمالات تبني النظام الإيراني سياسات داخلية وخارجية تعيد له قوته، على النحو التالي:
الرئيس الإيرانى السابق حسن روحانى – أرشيفية
1. استعادة تماسك النظام
إذ سوف يكون إبراهيم رئيسي مطالبا بمجابهة كثير من التحديات الداخلية، أولها استعادة تماسك النظام وتعزيز قوته عبر إعادة التناغم، أو بالأحرى التماسك بين أركان الدولة وسلطاتها الثلاث، بعد أن عانت تفككا غير مسبوق وصل حد التنافر الذي أفضى إلى إهدار طاقات الدولة وعدم قدرتها على ترتيب الأولويات بين بقاء النظام وأمن كيان الدولة. خاصة أن النظام يعاني من ازدواحية فريدة في مؤسساته افضت في أحيان كثيرة الى تقاطع الاختصاصات بينها ناهيك عن تضارب قراراتها؛ فإيران لديها جيش وحرس ثوري، ولديها وزارة استخبارات واستخبارات تابعة للحرس واستخبارات تراقب الاستخبارات، فضلا عن الإدارات الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، ولديها أيضا وزارة عدل وسلطة قضائية .. الخ، وهو الأمر الذي هيأ المناخ المواتي لاختراق بعض أجهزة الدولة وتهديد منشأتها الحيوية.
وفي هذا السياق المتضارب، كان يُنظر إلى الرئيس السابق روحاني ووزرائه على أنهم خرجوا عن الخط العام الذي رسمه الولي الفقيه. وهو الأمر الذي كان ذلك مدعاة لصدام معظم الأجهزة السيادية التابعة للمرشد معه في أحيان كثيرة، بل والحرص على إفشاله حتى لا يصبح نموذجا يحتذى مثل سلفه محمد خاتمي، الذي يقبع بدوره تحت الظل الإجباري. على الرغم من أن روحاني بذل جهودا كبيرة لتقليل تداعيات العقوبات القصوى التي فرضها ترامب على إيران، وواجه الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي قامت ضد قرار رفع سعر البنزين، وحافظ على بقاء النظام.
2. المحافظة على ولاية الفقيه
سوف يكون ابراهيم رئيسي، بوصفه فقيها وسيدا ورجل قانون، وعضو مجلس خبراء القيادة وعضو لجنة الأحد عشر المكلفة بفتح وصية المرشد الأعلى واختيار خليفته، له دور بارز في وضع حل لجدلية خلافة الولي الفقيه حال وفاة المرشد الحالي من منطلقين: الأول أن المرشد الأعلى جعله مؤتمنا على استمرار ولاية الفقيه مع السماح له بإيجاد صيغة توافقية، ربما يدخل من خلالها بعض التعديلات الدستورية على صلاحيات المرشد القادم. وبناء عليه، يمكن القول إن النظام قد أعد الترتيبات اللازمة لحل معضلته الكبرى، منذ اليوم الأول لدفع رئيسي إلى رئاسة السلطة التنفيذية، مثلما نجح الرئيس رفسنجاني من قبل وبحكم الدستور في ترجيح كفة خامنئي لخلافة الخميني. أي أن رئيسي ربما ينجح في إعادة انتاج النظام نفسه من جديد.
3. حل الأزمة الاقتصادية
لقد أصبح إبراهيم رئيسي، منذ اليوم الأول له بالرئاسة، مسئولا أمام الشعب عن وضع حل للأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية الخطيرة، ومطالبا أيضا بتحقيق وعوده الانتخابية التي قطعها على نفسه بالقضاء على الفقر، بحيث يقوم خلال عامه الأول بـ: بناء ٤ ملايين وحدة سكنية، وتوفير مليون فرصة عمل، وكبح معدلات التضخم، ووضح حد لارتفاع أسعار السلع الأساسية، وإصلاح أزمة النقد الأجنبي الذي تحول إلى سلعة بيد علية القوم وبعض قادة الحرس، وتخفيض تكاليف العلاج للمواطنين إلى النصف، وتجديد البنية التحتية المنهارة في كثير من مرافق الدولة، وتقليص معدلات التهريب التي يتورط فيها مسئولين كبار ورجال أمن، وتوفير الانترنت مجانا للشعب.
وفي المقابل، سوف يعمل النظام على تحويل رئيسي إلى بطل قومي أمام الرأي العام، على اعتبار أنه الفقيه الذي سوف يخلص الشعب من جميع صور الفساد ويضرب بيد من حديد على المفسدين. وبهذا يكو النظام قد أكد على أن أحد أبناء المؤسسة الدينية وتلميذ المرشد الأعلى الوفي هو الذي قاد ثورة ضد من نهب أمول الشعب وتلاعب بمقدراته حتى وصلت أوضاعه إلى هذا الحد. عندئذ يكون الشرط الأول اللازم توافره في الولي الفقيه قد تحقق وهو العدل وحسن التدبير، الذي لن يطول سيفهما بطبيعة الحال أيا من كبار رجال الدولة الموالين للمرشد ولا كبار قادة الحرس الثوري، بالأحرى أبناء المرشد الأعلى أيضا.
4. حل معضلة أقليات العرقية
لقد وعد إبراهيم بحل معضلة الأقليات العرقية القاطنة بمناطق إيران الرخوة خاصة في مناطق خوزستان واذربيجان وبلوشستان وكردستان. بعد أن تقاعس النظام في وضع حل لهذه المعضلة داخل البنية الاجتماعية. بل إن سياساته على مدى العقود الأربعة الماضية، قد أدت إلى زيادة التنافر بين هذه الأقليات وبين المركز، حتى باتت أقرب إلى الانفصال والتمرد أو الاحتجاج الدائم على السياسات الظالمة المتبعة معها. فضلا عن هذه العرقيات تحولت إلى أرضية خصبة لاختراق أجهزة الاستخبارات الأجنبية، وتتخذ مناطقها منطلقا لتنفيذ عمليات نوعية ناجحة طالت المنشآت النووية والعسكرية واعتالت بعض علماء البرنامج النووي والصاروخي، كان آخرهم الدكتور محسن فخري زاده أبو البرنامج النووي والصاروخي الإيراني. وربما يقود إبراهيم رئيسي مساع جادة لمصالحة الأقليات العرقية الكبرى في البلاد وترضيتها.
5. إصلاح الحياة الحزبية
إذ أصبحت الحياة الحزبية الإيرانية تعاني فجوة وتنافرا بين التيارات والأحزاب السياسية لسببين، الأول: أن الممارسة الحزبية خرجت عن مسارها الصحيح وأصبحت أقرب إلى تحقيق المكاسب الشخصية والصالح الخاصة. والسبب الآخر هو تغول الحرس الثوري، بكل ما تحيطه من شبهات الفساد الاقتصادي والقهر السياسي، على معظم مناحي الحياة في البلاد واستئثاره بكل السلطة بطريقة تشبه إلى حد ما هيمنة البعثيين على السلطة والثروة في وقت من الأوقات في سوريا والعراق، مع الفارق النسبي. ومن ثم فمن المحتمل أن يحاول إيراهيم رئيسي احتواء أجنحة المعارضة وجماعات الضغط الداخلية، فضلا عن دعوته لإيراني المهجر للعودة بحرية لوطنهم دون أي مساءلة قانونية، خاصة بعد أن تحول كثير منهم في الاتجاه المضاد للثورة الإسلامية وللنظام بشكل عام. وريما يستدعي ذلك إعلان لمؤتمر للم الشمل الداخلي.
رابعا: دواعي الفوز خارجيا:
من المعروف أن إيران تقع في حيز ديناميكي نشط، تلعب فيه العناصر الجيوسياسية المكونة له دورا مهما في التأثير المتبادل بينها، وبالتالي لم تكن إيران بمعزل عن جميع المتغيرات التي حدثت داخل هذا الحيز، بل كانت جزءا من الصراعات التي شهدها أيضا، إذ خاضت صراع قوة إقليمي مع العراق مدة ثمان سنوات، خرجت منه قوة مهددة للبنية الإقليمية تعمل على تحويل موقعها الجغرافي إلى مركز انطلاق عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط. وقد ساعدها في ذلك سقوط الاتحاد السوفييتي الذي أحدث فراغا جيوسياسيا وجيواقتصاديا واسعا على جميع اتجاهاتها الاستراتيجية، ناهيك عن تداعي البنية العربية التقليدية التي بلغت ذروتها بغزو العراق للكويت، ثم قيام تحالف دولي بتحرير الكويت ثم غزو القوات الأمريكية لأفغانستان وإسقاط نظام طالبان العدو الأيديولوجي للنظام الإيراني، وغزو العراق وإسقاط النظام العراقي العدو التاريخي اللدود لإيران.
وقد فرضت الدروس المستفادة من هذه المتغيرات وتلك الصراعات على إيران تصورات استراتيجية تنتهج فيها جميع السبل للحفاظ على عمقها الاستراتيجي الذي بنته بالقوة الناعمة تارة بالقوة المسلحة تارة أخرى. وأن تمتلكك قدرات استراتيجية تمكنها من صون كيانها من الدخل وحماية هذا العمق المكمل له من الخارج، وقد تمثلت هذه القدرة في ضرورة امتلاك إيران قدرات صاروخية ونووية تحقق لها التفوق الإقليمي أمام أي قوة تهدد أمنها أو مصالحها. خاصة أنها أصبحت تدرك تماما أن التوازنات الإقليمية الكبرى قائمة على القوة والقدرة على فرضها لتحقيق النفوذ واستمرار الدور وحماية المصالح.
غير أن تصورات إيران الاستراتيجية فيما يتعلق ببرنامجها النووي والصاروخي ونفوذها الإقليمي، قد جلبت عليها تحديات هائلة تمثلت في استعداء المجتمع الدولي إضافة إلى أنها باتت تعاني من حالة اغتراب جيوسياسي شديد. ناهيك عن أزمة اقتصادية عميقة من جراء فرض حزمة واسعة من العقوبات الأممية والدولية والأمريكية عليها. وفي هذا السياق بات على الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي مدعوا لإنجاز عدد من المهام، أهمها إتمام مفاوضات البرنامج النووي ومن ثم رفع العقوبات الاقتصادية، والحفاظ على العمق الاستراتيجي الإيراني. وذلك على النحو الموضح أدناه:
اتفاق لوزان النووى 2015 – أرشيفية
1. إتمام مفاوضات جنيف النووية
خاصة أن دفع النظام لإبراهيم رئيسي لتقلد رئاسة الجمهورية سوف يعزز من مؤازرة السلطة التشريعية للسلطة التنفيذية في المفاوضات الجارية بجنيف حول برنامج إيران النووي، وسيسهم في صياغة خطاب دبلوماسي موحد يوحي للأطراف الدولية أن إيران لم يعد لديها إلا صوت واحد، فضلا عن أنه سيساعد في تقديم أوجه الدعم اللازم للفريق الإيراني حتى إتمام المفاوضات الجارية؛ وحل الخلافات حو الملفات الفرعية والإقليمية الأخرى، والخروج منها بأكبر قدر ممكن من المكاسب الإقليمية والدولية. إلى جانب رفع العقوبات الاقتصادية الذي سيدعم قدرة النظام على ضخ الأموال اللازمة لإجراء الإصلاحات التي تلبي مطالب الجماهيرية الملحة، الامر الذي ربما يخفف من حدة الاحتقان الداخلي الذي يوشك على الانفجار في أي وقت من الأوقات.
2. الحفاظ على العمق الاستراتيجي
الحقيقة أن استراتيجية إيران في بناء العمق الاستراتيجي قد فشل في تحقيق الأمن الذاتي لايراني، بل وتحول إلى عبء سياسي واقتصادي هائل عليها، بدليل أن وحدات الموساد الميدانية قامت بتنفيذ عمليات مهينة لأجهزة النظام داخل المعدة الإيرانية نفسها وفي وضح النهار وفي اكثر منشأتها سرية، واصبحت تؤكد أن مامن مسئول إيراني يعيش في مأمن من عملياتها. والاهم من ذلك هو فقدان أجهزة الأمن الثقة في نفسها، وتحول الأمر الى التخوين المتبادل بينها حتى وإن كان بشكل غير معلن. ناهيك عن تزايد الدعوات الشعبية إلى ضرورة إلى يكون حل معضلات المواطنين مقدم على تقديم الدعم السخي لفصائل ومليشات إيران في الخارج، وأن يكون الإيراني مقدم على اللبناني أو الفلسطيني في قائمة أولويات النظام.
وبما أن إبراهيم رئيسي، يترأس أضخم وأغنى مؤسسة خيرية في العالم الإسلامي والمسئولة عن تحصيل الهبات والنذور والتبرعات وأنصبة الخمس من أثرياء الشيعة في العالم، التي كان الجنرال قاسم سليماني يُأخذ من صناديقها ما يشاء وقتما يشاء لوضعها تحت تصرف من يشاء من قادة المليشيات والجماعات المكونة لمحور المقاومة الإسلامية. فسوف يكون رئيسي شريكا نافذا في تعزيز هذا المحور وممولا مباشرا لتحركات الحرس الثوري الخارجية، خاصة بعد عودة التدفقات المالية الهائلة المتوقعة بموجب قرار رفع العقوبات المنتظر. وعلى الرغم من ذلك، فمن المحتمل أن يواجه العمق الاستراتيجي الإيراني بتحول دراماتيكي على المدى المتوسط في ظل المتغيرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، لا سيما أن هذا العمق يعاني من نقطة ضعف كبيرة تتمثل في أنه قائم على مصالح أمنية وليس مصالح اقتصادية أو حتى مصالح سياسية قوية. بدليل أنه بات يعاني من تصاعد القوة المناوئة له في كل من العراق واليمن ولبنان. ناهيك عن أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سوف يؤدي إلى صعود طالبان من جديد بوصفها قوة أيديولوجية معادية لأيديولوجية النظام الإيراني.
وبالتالي، من المحتمل أن يقوم إبراهيم رئيسي باتخاذ التدابير التالية:
‌أ. البدء في تسوية كثير من الملفات الخلافية مع القوى العربية الكبرى وعلى راسها السعودية، وربما الاتفاق معها على الاعتراف بجماعة أنصار الله الحوثية بوصفها قوة يمينية شرعية تتمتع بكيان سياسي يمثله حزب يمني، وكيان عسكري محكوم بضوابط داخلية وخارجية يضم الفصائل والجماعات المنضوية تحت لوائه.
‌ب. العمل على عرقلة عودة العراق إلى الحاضنة العربية، وذلك من خلال احتواء الاتجاهات العراقية المناوئة للنفوذ الإيراني بالمجتمع العراقي والذي بات صنوا لكل أشكال القتل والإرهاب ونشر الجريمة بكل أنواعها، وربما الموافقة على تطويع المليشيات منضوية تحت لواء المؤسسات العسكرية والأمنية، على غرار ما تم لفصائل الحشد الشعبي، ثم القبول بتحويل الجماعات الأقوى منها إلى أحزاب سياسية تخضع لضوابط العملية الحزبية العراقية المعقدة بطبيعتها.
‌ج. العمل على الحفاظ على حزب الله بوصفه قوة موازية للدولة اللبنانية وبعيد عن سلطتها، حتى تظل ممسكة بسلاح يمكن توجيهه إلى إسرائيل من على بعد آلاف الكيلومترات وقت اللزوم، ولكن مع الحصر على عدم الزج به في صراع يودي بقدراته إلى الأبد.
‌د. أما بالنسبة لأفغانستان، فسوف يحرص إبراهيم رئيسي على عدم استعداء طالبان في وقتٍ لا ترغب فيه طهران فتح نقاط اشتباك على حدودها الغربية، وترغب في الحفاظ على الأقلية الشيعية والنأي بها عن استدراجها لأي صراع مسلح مع طالبان. فضلا عن الحفاظ على الاستقرار النسبي في أفغانستان، بالقدر الذي لا يؤدى إلى تكرار تدفق الهجرات الأفغانية إلى أراضيها، ومحاولة الاستمرار بإمساك بعض خيوط الأثقال السياسية في أفغانستان، بما يُسهم في عدم نشوب صراع يؤدى إلى إهدار المصالح الإيرانية، وفى الوقت نفسه عدم تقسيم أفغانستان.
وختاما، يمكن القول إن الدفع بإبراهيم رئيسي إلى مقعد رئاسة الجمهورية الإسلامية هو نتاج لتحالف المؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية، ليكون هو السيد الفقيه الذي سوف ينقذ النظام من الانهيار أو تفجر الوضع الداخلي، بعد أن أخفق الرئيس السابق روحاني في تحقيق وعوده وبرامجه لتحسين الأوضاع المعيشية بالبلاد. ولكي يحصد التيار المحافظ أهم إنجازات إيران التاريخية وهو توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات والحصول على اعتراف دولي ببرنامجها النووي وبعمقها الاستراتيجي الذي حققته في غرب أسيا وفي أفغانستان وباكستان.
وعلى الرغم من ذلك، ينتهج النظام الإيراني ذات الخطيئة بتحميل حكومة روحاني المنصرفة (حكومة التدبير والأمل) مسئولية جميع إخفاقاته السياسية والاقتصادية، يعيد ويكرر ذات الخطأ برقعه سقف الطموحات الشعبية المتوقعة من الرئيس الجديد. لسبب بسيط أن أزمات الدولة باتت أكثر تعقيدا من أن يحلها رئيس في غضون ٨ سنوات هي فترتي رئاسته، بل وأخطر من أن يصرح بها للشعب.
وفي ضوء كل ماسبق، من المحتمل تأتي اختيار إبراهيم رئيسي للحقائب الوزارية في سياق الحرص على إثبات أن التوجه الاصولي هو الحل الوحيد لكل أزمات البلاد؛ تأكيدا لوعود آية الله خميني التي مضى عليها أربعة عقود دو أن يتحقق منها شيء سوى أوهام القوة وضلال العقيدة. خاصة أن كل رئيس إيراني أتى بوعود كبيرة ولكنه ذهب بخيبات أكبر، وذلك منذ أبو الحسن بني صدر الذي منحه النظام لقب منافق، وصولا إلى حسن روحاني الذي وصمه النظام بالفاشل، مرورا برفسنحاني الذي منحه لقب أعمى البصيرة. تُرى ماذا ينتظر رئيسي من ألقاب في نهاية رئاسته الثانية عام 2030م؟
شاركها.

تعليق واحد

  1. عامر سلطان on

    نادرة هي القراءات التي تتعامل مع الشان الايراني دون تسييس. فلكي نفهم دولة مهمة في الشرق الاوسط مثل ايران، نحتاج الى عقول مفتوحة مستعدة لان تتعامل مع الواقع وان خالف المعتقدات والصور النمطية والمصالح احيانا.
    هذا الشرح ، بعين باحث خبير ، اجاب لي عن تساولات مهمة عن انتخابات ايران الاخيرة .
    تحياتي وشكري دكتور الصباغ.

اترك تعليقاً

Exit mobile version