ورده عبدالرازق — وحدة الدراسات التركية

شهدت السياسة الخارجية التركية خلال العقد الماضي حالة من الاضطراب؛ فبعد ثورات الربيع العربي، تبنت أنقرة سياسة خارجية توسعية مدفوعة بالرغبة في لعب دور إقليمي أكثر فاعلية، لكنها سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة مفتوحة مع عدد من الدول العربية والغربية؛ إذ توترت علاقاتها مع مصر منذ 2013، ودخلت في خصومة معلنة مع السعودية والإمارات، وتصاعدت خلافاتها مع الولايات المتحدة حول الملف الكردي، فضلا عن التوتر المزمن مع اليونان وقبرص.

ترافق ذلك مع خطاب سياسي قائم على الاستقلالية والتحدي انتهجته تركيا منذ 2016، بجانب تبني سياسات ميدانية توسعية، إلا أن تركيا لم تجني سوى مزيد من العزلة الإقليمية وتدهور اقتصادها، مع تصاعد أزمة الليرة والتوترات المتعاقبة في محيط تركيا المباشر. وبنهاية 2020، بدأت ملامح تحول تدريجي نحو استعادة التوازن في السياسة الخارجية التركية، من خلال سلسلة خطوات تطبيعية مع عدد من الدول الإقليمية، في محاولة لإعادة التموضع وتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية.

محاولة انقلاب يوليو  2016: لحظة فارقة

شكلت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا في يوليو 2016 علامة فاصلة في السياسة الداخلية والخارجية للبلاد؛ حيث دخلت السياسة الخارجية التركية مرحلة اتسمت بقدر من الاندفاع والعسكرة، وذلك كرد فعل مباشر على محاولة الانقلاب في يوليو من نفس العام، إذ رأت القيادة التركية، وعلى رأسها الرئيس رجب طيب أردوغان، أن البلاد محاطة بتهديدات خارجية وداخلية متشابكة، مما دفعها إلى اتباع نهج هجومي حاد في عدد من الملفات، أبرزها سوريا عبر تنفيذ 3 عمليات عسكرية، وليبيا عبر التدخل المباشر في الأزمة ودعم حكومة الوفاق، وفي حرب كاراباخ لدعم أذربيجان ضد أرمنيا ، ونشر قواعد عسكرية في عدد من الدول الأفريقية، بجانب ملف شرق المتوسط، ناهيك عن توتر العلاقات مع قوى دولية كبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، بما أسفر في مجمله عن تكلفة سياسية واقتصادية ضخمة.

لكن مع تعدد الجبهات المفتوحة وتنامي الشعور بالعزلة، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية المتفاقمة، التي تمثلت في تدهور سعر الليرة والإقتصاد التركى  وهروب الاستثمارات الأجنبية وتراجع الاحتياطي النقدي، بدأت القيادة التركية تدرك صعوبة الاستمرار في هذا النهج الصدامي لفترة أطول، خاصة مع تآكل قاعدة الحلفاء الإقليميين وازدياد الضغوط من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

استدارة جديدة للسياسة الخارجية

شهد  أواخر عام  2020، وتحديدا بعد فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، وتراجع نفوذ الإسلام السياسي عربيا، بدأت تركيا في مراجعة هادئة لسياستها الخارجية نحو خفض التصعيد والانفتاح على الفواعل الإقليمين، في محاولة لإعادة التوازن بين مصالحها الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية، مدفوعة بضرورات اقتصادية وسياسية.

ففي الخليج العربي، أعادت تركيا ضبط علاقاتها مع الإمارات العربية المتحدة، بعد سنوات من الخلافات حول ملفات إقليمية مثل ليبيا وقطر، حيث تم تبادل الزيارات رفيعة المستوى منذ 2021، شملت زيارة ولي عهد أبو ظبي إلى أنقرة، ثم زيارة أردوغان إلى أبو ظبي، التي وقعت خلالها اتفاقيات استثمارية واسعة. كما طويت مع السعودية صفحة الخلافات المتعلقة بقضية مقتل خاشقجي، خاصة بعد زيارة الرئيس التركي للرياض في 2022 وزيارة ولي العهد السعودي إلى أنقرة وإعادة تنشيط العلاقات الاقتصادية.

ومع مصر، انطلقت محادثات استكشافية منذ مايو  2021، في مسار تدريجي متحفظ لتطبيع العلاقات، شمل زيارات دبلوماسية وتنسيق أمني منخفض الوتيرة. وفي إطار التنسيق المصري التركي، بدأت تركيا فتح قنوات تواصل مع الشرق الليبي، بما في ذلك استقبال شخصيات محسوبة على البرلمان الليبي وقائد الجيش خليفة حفتر، في محاولة لإعادة التوازن لسياستها الليبية وعدم الاكتفاء بدعم حكومة طرابلس، وبلغت هذه الجهود ذروتها بمحاولة تمرير مذكرة التفاهم بحرية في البرلمان التركي مؤخرا، في خطوة لتأكيد شرعية وجودها في غرب ليبيا، وسط جدل داخلي ليبي واسع. كما لم تُخف أنقرة رغبتها في إعادة فتح قناة حوار مع دمشق، إذ أبدت تركيا مرونة واضحة تجاه المصالحة مع بشار الأسد، إلا أن تلك المساعي ووجهت برفض الأخير، لذا سارعت تركيا إلى ترتيب علاقاتها مع الحكومة السورية الجديدة بعد سقوط الأسد، وبدأت اتصالات غير معلنة لترتيب الوضع الأمني شمال سوريا، خاصة في ظل الانسحاب الأمريكي التدريجي وعودة النفوذ الروسي.

أما بالنسبة للجوار الأوروبي، فقد تجدد التنسيق مع اليونان بعد سنوات من التصعيد في شرق المتوسط، فرغم استمرار الخلافات الحدودية، شهدت العلاقات نبرة أقل حدة منذ زلزال تركيا المدمر في فبراير 2023، حيث سارعت أثينا إلى تقديم مساعدات إنسانية، كما قدمت تركيا الدعم لليونان بعد حرائق الغابات، مما فتح نافذة لتقارب إنساني أعقبته لقاءات وزارية متتالية. كما بدأت خطوات تطبيعية مباشرة مع أرمينيا، شملت افتتاح رحلات جوية بين إسطنبول ويريفان وتعيين مبعوثين خاصين، في محاولة لتجاوز عقود من القطيعة والعداء.

إضافة إلى ذلك، سعت أنقرة إلى الموازنة الدقيقة بين علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا؛ فمن جهة، احتفظت بمنظومات دفاعية من موسكو، ومن جهة أخرى، لعبت دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية وشاركت في مبادرات الحبوب بالتعاون مع الأمم المتحدة، دون الإضرار بعضويتها في الناتو أو بشراكاتها الدفاعية الغربية.

تحديات قائمة لسياسة تركيا الخارجية

يشهد التحول الواضح في سياسة تركيا الخارجية إتجاه  الانفتاح والتطبيع، إلا أن  هناك عدد من التحديات البنيوية أمام استقرار هذا المسار، لتضع تركيا أمام اختبارات متكررة لنهجها الجديد. ففي الملف الليبي، ورغم تحركها للتقارب مع أطراف الشرق الليبي، إلا أن أنقرة لازالت متهمة من بعض الأطراف الداخلية والخارجية بانحيازها لحكومة طرابلس، فضلا عن أن مذكرة التفاهم البحرية الموقعة عام 2019 لا تزال موضع رفض من جانب البرلمان الليبي وقوى إقليمية مثل مصر واليونان، حتى أن الوجود العسكري التركي في غرب ليبيا لا يزال نقطة خلاف دولية، قد تعرقل أي جهود لتقارب فعلي على أرض الواقع .

كما تظل علاقتها بالحكومة السورية الجديدة المواليه لها مليئة بالتحديات ، فوجود قوات تركية في شمال سوريا، ودعمها السابق لفصائل المعارضة، يجعل مسألة المصالحة الكاملة مع دمشق محفوفة بالمخاطر السياسية والأمنية، خاصة مع بقاء الملف الكردي وحركة قسد المسلحة  بمثابة تحدى  في علاقات أنقرة بكلاً من واشنطن وبغداد واسرائيل ، ومن ثم، فإنه يعقد أي مشروع لتسوية شاملة في المنطقة الحدودية.

كما  أن الخلافات البحرية مع اليونان لم تبرح مكانها رغم محاولات عدم التصعيد السياسي، بالذات وأن عمليات التنقيب التركية تواجه تحديات قانونية وسياسية بسبب رفض الاتحاد الأوروبي لأي تحركات أحادية، علاوة على خلافات الطرفين حول ملف اللاجئين.

مؤخرا، بدأت تواجه تركيا صعوبة في تحقيق التوازن بين روسيا والغرب، فعلاقاتها الوثيقة مع موسكو، خاصة في الطاقة والدفاع، تثير قلق حلف الناتو، بينما تظل علاقتها مع واشنطن متوترة بسبب صفقة صواريخ S-400 الروسية  ومخالفات عديده  تتعلق بحقوق الإنسان. على الجانب الآخر، جاءت التفاهمات التركية الأمريكية مؤخرا على حساب العلاقات مع روسيا، وهو ما ظهر جليا بسقوط النظام السوري، وقبله على سبيل المثال حينما رفضت بنوك تركية التحويلات المالية القادمة من روسيا لتسوية مدفوعات بعض البضائع المستوردة، مما أثار حفيظة روسيا.

ختاما: أدركت القيادة التركية أن سياسة العداءات المفتوحة وتعدد الجبهات كلفتها الكثير، لذا اختارت الاستدارة مجددا نحو استعادة الشراكات الإقليمية، في تحول محسوب نحو براجماتية سياسية تحاول من خلالها تركيا تعزيز نفوذها الإقليمي. غير أن نجاح هذا التحول يرتهن إلى عدة عوامل، أهمها استقرار الداخل التركي، خاصة مع استمرار التحديات الاقتصادية والسياسية في الداخل، فضلا عن طريقة إداراتها لعلاقتها مع القوي الكبرى، باعتبارها محددة لمساحات التحرك في ملفات الشرق الأوسط. بما يضع تركيا أما اختبار مزدوج إذا نجحت في تخطي الصدمات السياسية والاقتصادية التي تعرضت لها خلال العقد الماضي، وتحولت إلى دولة مركزية متزنة في محيطها الإقليمي، أم أن التعقيدات الداخلية والإقليمية قد تعيدها مرة أخرى إلى مربع المغامرة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version