بتقييم النتائج الأولية للحرب الأهلية التى خاضها الجيش الإثيوبى ضد أقلية التيجراى التى تعد إحدى مكونات الدولة متعددة العرقيات، يتضح أنها طرحت العديد من الإيجابيات الملموسة على دول الجوار مثل السودان وإريتريا والصومال على المستويات الأمنية والسياسية والإقتصادية، وذلك خصماً من النفوذ الإثيوبى بالمنطقة، وبما يصب فى مجمله لصالح تعزيز عوامل الأمن القومى المصرى فى الإتجاه الإستراتيجى الجنوبى الذى تتحرك كافة مؤسسات الدولة حالياً لتعظيم حجم مكاسبها على المدى المتوسط.

على مستوى السودان، تمكنت الفرقة الثانية مشاه من الجيش السودانى من بسط سيطرتها لأول مرة منذ خمسة وعشرون عاماً على إقليم الفشقة الصغرى التابع لولاية القضارف السودانية التى إعتاد أن يشن عليها المزارعين الإثيوبيين المدعومين من الميليشيات والقوات الأمنية المحلية المنتمية لإقليم التيجراى العديد من الهجمات خلال موسم الحصاد أخرها خلال شهرى مايو ويونيو الماضيين والتى أسفرت عن مقتل عدد من العسكريين والمدنيين السودانيين، وضعاً فى الإعتبار سابق إلغاء أديس أبابا إتفاق ترسيم الحدود بين البلدين خلال شهر سبتمبر الماضى، بالتوازى مع مطالبة الرأى العام الإثيوبى بضم الإقليم الذى يضم نحو مليون فدان من الأراضى الخصبة.

وفى هذا الإطار، إستثمر الجيش السودانى الفراغ الأمنى الناجم عن لجوء قيادات الجبهة الثورية لتحرير تيجراى لسحب ميليشياتها المسلحة من داخل إقليم الفشقة السودانى وتوجيهها لداخل إقليم التيجراى لتعزيز قواته فى محاولة لصد هجوم الجيش الفيدرالى الإثيوبى، فى إعادة الإنتشار داخل الآراضى السودانية، وإلقاء القبض على زعيم تلك الميليشيات المدعو/ هلجا عصار، الأمر الذى أسفر فى مجمله عن تخفيف حجم الضغوط على الخرطوم من جهة، وإمتلاكها فرص مطالبة أبى أحمد للحد من دعمه السياسى والأمنى المعروف لمختلف التيارات السياسية والحركات المسلحة السودانية لأول مرة، مقابل التجاوب مع بعض الإحتياجات الأمنية الإثيوبية الملحة خاصة إحكام السيطرة سواء على الحدود المشتركة بين البلدين أو على مخيمات اللاجئين التى تضم بعض القيادات السياسية والأمنية التابعة لحكومة التيجراى المحلية التى تسعى لإعادة تجميع عناصرها من جهة أخرى.

ومن المتوقع خلال الأسابيع المقبلة إمتداد إنتشار الجيش السودانى ليشمل منطقة الفشقة الكبرى وإستكمال خطة نزع سلاح المدنيين، والذى سيسهم فى دعم وضعية المجلس العسكرى السودانى – بشكل نسبى – أمام الرأى العام الداخلى بمختلف توجهاته السياسية، بجانب ما قد يحققه ذلك من إحداث قدر من التوازن مع فصائل المعارضة السودانية الموقعة على إتفاق جوبا للسلام مؤخراً، والتى تسعى للحصول على بعض المناصب الوزارية والسيادية بالدولة خلال التعديل الوزارى المرتقب، لاسيما مع عدم تنفيذهم الشق الخاص بتسليم تلك الفصائل أسلحتها أو إعادة دمج عناصرها وكوادرها داخل صفوف الأجهزة والمؤسسات الأمنية حتى الأن، نتيجة عدم وفاء الدول الإقليمية الراعية لإتفاق السلام بتعهداتها المالية الخاصة بالتعويضات.

آبى أحمد ورئيس اريتريا – المصدر رويترز

وفيما يتعلق بإريتريا، فرغم تكرار نفيها الرسمى لإتهامات تيجراى لها بالمشاركة فى المواجهات المسلحة أو إنضمامها لجانب القوات الإثيوبية، إلا أن تقديم أبى أحمد الشكر للجيش والقيادة الإريترية على تقديم الدعم للجيش الإثيوبى وحصار إقليم تيجراى من جهة الشمال لتسهيل مهام الجيش الإثيوبى خلال الجلسة البرلمانية الإستثنائية التى عقدت مؤخراً فى أديس أبابا، يعكس رغبته فى إبراز الدعم الإقليمى الذى تتلقاه بلاده، فضلاً عن محاولة زيادة حجم الخلافات فيما بين تيجراى وإريتريا مستقبلاً.

ولا شك أن تأثر القدرات القتالية سواء للجيش الفيدرالى الإثيوبى أو لقوات التيجراى سلباً جراء مواجهاتهما المسلحة – والمستمرة حتى الأن بشكل متقطع – وما أسفر عنه من تشتت عناصرهما وتراجع قدراتهما العسكرية، مع تركيز أولويات زعيم التيجراى دبرصيون جبرميكائيل على إستعادة وضعيته فى مواجهة أبى أحمد، قد ساهم – بشكل كبير – فى الحد من حجم التهديدات الإثيوبية التى تواجه أسمرة، رغم إنتهاء الحرب التى إستمرت بين البلدين لمدة ثلاث سنوات (1998 – 2000) على خلفية النزاع على تبعية مدينة “بادمى ” الإريترية التى تحتلها إثيوبيا حتى الأن، وقرار محكمة العدل الدولية عام 2002 بتبعيتها لإريتيريا، وتوقيع رئيسى البلدين أبى أحمد وأسياس أفورقى إتفاق سلام عام 2018.

ورغم تعرض العاصمة أسمرة وأحد السدود والمطار الرئيسى بجانب القصر الرئاسى للقصف الصاروخى من قبل قوات تيجراى، إلا أن إختيار إريتريا عدم التورط المباشر فى الإشتباكات الأخيرة، يشير إلى حرص النظام الإريترى على تحقيق أهدافه الإستراتيجية المتمثلة فى توفير المناخ الملائم لإستعادة الجيش الإريترى مدينة بادمى الحدودية خلال المرحلة القريبة المقبلة، والذى إرتبط إستمرار إحتلال المدينة برفض القوات المسلحة التابعة لإقليم تيجراى التى تسيطر عليها تسليمها لأسمرة على خلاف قرار أعلى سلطة فى الدولة الإثيوبية.

كما تجدر الإشارة إلى نجاح الجيش الإريترى فى إستغلال تلك التطورات فى التوغل داخل إقليم تيجراى الإثيوبى ونقل العديد من عناصر المعارضة الإريترية التى كانت تتخذ من معسكرات اللاجئين الإريتريين بالإقليم نقطة إنطلاق لتحقيق أهدافها المعادية للنظام، فى الوقت الذى قد توجه فيه إريتريا أولوياتها خلال المرحلة المقبلة لتعزيز قدراتها الإقتصادية المحدودة والسعى لتنفيذ البرامج التنموية الملحة والسابق تأجيلها نتيجة التوتر السياسى والعسكرى مع أديس أبابا المستمر منذ إنفصال إريتريا عن إثيوبيا عام 1993.

وفيما يتعلق بالصومال، لجأت أثيوبيا لسحب نحو ثلاثة ألاف جندى وعتادهم العسكرى من البعثة الإفريقية لحفظ السلام المتواجدة بمقديشيو (أميصوم) والتى تمثل غالبية القوة الأفريقية بالبلاد، وأعادت توجيه تلك القوات التى تنتمى غالبيتها لسلاح المشاه للداخل الإثيوبى لتعزيز موقف الجيش الذى مازال يترقب إنتهاج تيجراى إسلوب حرب العصابات فى مواجهة قواته، وهو ما أدى إلى حدوث فراغ أمنى بالداخل الصومالى ( مقتل أحد ضباط النخبة التابعين للولايات المتحدة بالصومال مؤخراً، وشن واشنطن غارتين جويتين على معاقل حركة الشباب يوم 10/12/2020 لأول مرة منذ فترة طويلة).

وإرتباطاً بما سبق، فمن غير المستبعد أن تتأثر وضعية النظام الصومالى الهش بقيادة الرئيس “فرماجو” المدعوم من إثيوبيا، لاسيما مع قرب عقد الإنتخابات البرلمانية والرئاسية خلال الشهر القادم، ومواجهة فرماجو الذى يسعى للحصول على ولاية جديدة عدد من المنافسين المدعومين من قبل بعض القوى الإقليمية – خاصة الإمارات – التى تتسم علاقاتها مع فرماجو بقدر من التوتر نتيجة كونه محسوب على النظام القطرى ومقرب من تركيا التى أقامت قاعدة عسكرية على الأراضى الصومالية.

وقد تتيح تلك المعطيات للنظام الصومالى القادم – بغض النظر عن توجهاته – هامش للحركة بعيداً عن الضغوط الإثيوبية المباشرة، وقد يزيد فى الوقت نفسه الإنشغال الإثيوبى والفراغ الأمنى من أصوات بعض زعماء إقليم “أوجادين” (سبق أن ضمته إثيوبيا لأراضيها) الساعين للإنفصال والعودة للصومال، لاسيما مع شعورهم بالإضطهاد من قبل الحكومة الإثيوبية.

على المستوى الإقليمى، من المتوقع أن يطرح مجمل ما سبق تأثيراته السلبية على مكانة ووضعية إثيوبيا بمنطقة شرق إفريقيا خلال الفترة القادمة كما أسلفنا، لاسيما حال عدم قدرة الجيش الإثيوبى على حسم المعركة بشكل كامل لصالحه حتى الأن (تصريحات الأمم المتحدة المتكررة التى أشارت إلى إستمرار المعارك)، وعدم إمتداد سيطرته على كافة الأراضى بشمال البلاد، وإستمرار وجود عشرات الألاف من الجنود المسلحين التابعين لقوات تيجراى خارج السيطرة، وهو ماقد يؤدى إلى إستنزاف الموارد الإقتصادية والقدرات العسكرية وإثارة المزيد من الحساسيات العرقية، خاصة مع إستبعاد تجاوب أبى أحمد مع الدعوات الرامية لإجراء إنتخابات برلمانية بالنظر لتحسبه من عدم قدرته على حسم نتائجها.

وبصفة عامة، تصب تلك المتغيرات فى مصلحة الموقف المصرى الذى سبق أن تأثرت سياساته بتذبذب الموقف السودانى نتيجة تعرضه لضغوط مختلفة منها الضغوط الإثيوبية المباشرة، بالإضافة إلى سابق رفض الصومال – بجانب قطر – لبيان جامعة الدول العربية الداعم للموقف المصرى من قضية سد النهضة، بجانب تأثر الإستقرار الإقليمى بإفساح الصومال المجال لتواجد كل من قطر وتركيا بترحيب غير مباشر من إثيوبيا التى تدعم النظام الحالى بمقديشيو، الأمر الذى قد يطرح مستقبلاً معطيات جديدة إذا أحسن إستغلال الظروف الإستثنائية الراهنة.

وإرتباطاً بما سبق، تجدر الإشارة إلى إتسام رد الفعل المصرى إزاء الأزمة الإثيوبية الأخيرة بالموضوعية والإتزان، وهو ما تمثل فى عدم الإعلان عن دعم أى من طرفى المواجهات المسلحة، مع الدعوة لمواصلة مفاوضات سد النهضة رغم تلك التطورات لإبراز إلتزام مصر أمام المجتمع الدولى والمراقبين بالنهج التفاوضى، وتشير التحركات المصرية فى مواجهة إثيوبيا إلى على عدم التجاوب مع الإستفزازات أو التصعيد والإلتزام بسياسية التفاوض وإشراك المجتمع الدولى فى جهود التسوية للإلتزام بمسئولياته وعدم التورط فى النزاع الداخلى.

رئيس جنوب السودان أثناء استضافته للرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى – المصدر: رويترز

كما وضح تكثيف مصر من تحركاتها تجاه دول الطوق المحيطة بإثيوبيا، وذلك على المستويات السياسية والعسكرية والإقتصادية والتى شملت قيام الرئيس السيسى بأول زيارة لجنوب السودان والإتفاق على نقل الخبرات المصرية وتعزيز التعاون فى مجالات الطاقة والمياه والتعليم والصحة والتبادل التجارى وزيادة الإستثمارات ودعم جهود السلام بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار بما يسهم فى إستكمال خطوات عملية الإنتقال السياسى وتعزيز عوامل الإستقرار، كما أكدت جوبا على تأييدها لمصر فى قضية سد النهضة.

بالإضافة لما سبق، فقد تزايدت مظاهر التقارب المصرى / السودانى لتشمل التنسيق الأمنى والعسكرى وهو ما عكسته مشاركة قوات البلدين فى مناورات نسور النيل/1 التى شاركت فيه القوات الجوية من الجانبين، ومشاركة السودان فى مناورات سيف العرب بقاعدة محمد نجيب التى تطل على البحر المتوسط، ووضوح الرسالة الضمنية الخاصة بإعتزام الطرفين دعم كل منهما فى مواجهة أية تهديدات خارجية، بإلإضافة إلى إستقبال القاهرة ليمانى جبر المستشار السياسى للرئيس الإريترى الذى حرص على إطلاع مصر على أخر تطورات الصراع الداخلى بإثيوبيا وموقف أسمره من تلك الأحداث.

وبالتوازى مع تلويح مصر بما يمكن تسميته بالردع الخشن الذى يعكسه قيام القوات المسلحة بأكبر عدد من المناورات العسكرية المشتركة فى تاريخها خلال عام 2020، فقد وضح إستخدام مصر لسلاح أخر أكثر فاعلية لمواجهة التهديدات الإثيوبية للمصالح المصرية بالمنطقة، وهو اللجوء لطراز حديث من القوة الناعمة وهو ما وضح فى إعطاء مصر الأولوية لربط المصالح الإستراتيجية لدول الجوار المؤثرة من خلال التركيز على المشاريع التنموية والخدمية والبنية الأساسية (طاقة – سكة حديد – مياه – سدود – صحة ..) بجانب تعزيز إجراءات بناء الثقة بما فيها التعاون الأمنى، لإنشاء أمر واقع جديد يعزز مصالح دول المنطقة بعيداً عن إسلوب الصراعات والمؤامرات.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version