شهدت دولة السودان خلال الفترة الأخيرة تهديداً جديداً يؤثر تأثيراً مباشراً على أمنها القومى ووحدة آراضيها، حيث صعدت قبيلة “البيجا” ذات الأغلبية والأصول الأفريقية بولاية البحر الأحمر الساحلية من تهديداتها بانفصال الولاية – التى تتخذ من مدينة بورتسودان عاصمة لها – عن البلاد، فى الوقت الذى مارست فيه الميليشيات التابعة لها حملة مسلحة واسعة ضد المواطنين المنتمين لقبيلة “بنى عامر” ذات الأصول العربية فى إطار سياسة التطهير العرقى التى تنتهجها وسط غياب السلطات الأمنية عن المشهد. وفى هذا الإطار نشرت الميليشيات المسلحة المنتمية لقبيلة البيجا” العديد من الكمائن التفتيشية على الطرق والمحاور للبحث عن المواطنين ذو الأصول العربية وتوقيفهم، وورود أنباء عن اندلاع عمليات تصفية بحقهم، وبدء موجة شملت عشرات الآلاف من النازحين السودانيين العرب.
على المستوى الميدانى، قامت الحكومة الانتقالية بإيفاد وفد حكومى برئاسة وزير شئون مجلس الوزراء ووزيرة الخارجية، كما أرسلت قوات عسكرية للولاية بشكل عاجل في محاولة لإعادة الاستقرار. فيما تبلورت مواقف قيادات قبائل البيجا ذو النزعة الانفصالية فى ثلاثة محاور رئيسية، تتمثل في عدم الاعتراف باتفاق “جوبا للسلام” الذى تم توقيعه مع مختلف فصائل المعارضة السياسية والمسلحة عام 2020، بجانب المطالبة بحق ولاية البحر الأحمر في تقرير مصيرها على غرار دولة جنوب السودان التى نجحت فى الانفصال، فضلاً عن منع تفعيل مشاريع الدولة المستهدفة التى تتبناها الحكومة الانتقالية بما فيها المشاريع الخدمية والتنموية والاستثمارية.
السودان
عبدالفتاح البرهان – صورة أرشيفية
تراجع الأهمية الجيوستراتيجية للسودان
 يأتى ذلك التطور في أعقاب المرسوم الدستورى الذى أصدره رئيس المجلس الرئاسى السودانى الفريق عبد الفتاح البرهان يوم 21/6/2021 الذى منح بمقتضاه ولاية النيل الأزرق المتاخمة للحدود الإثيوبية التي يتزعمها عبد العزيز الحلو (رئيس الحركة الشعبية شمال المسلحة، ذو النزعة الانفصالية والمقرب من إثيوبيا) حكماً ذاتياً، بما يطرح إمكانية تطلع زعماء قبيلة البيجا لأن تحذو ولاية البحر الأحمر حذو ولاية النيل الأزرق، مستغلة حالة الضعف التى يمر بها المجلس السيادى السودانى، الأمر الذى ينذر بمزيد من عوامل التفكك وتحول السودان إلى دولة حبيسة وافتقادها لأحد أهم مميزاتها الجيوستراتيجية وحرمانها من موانئها البحرية سواء التجارية أو العسكرية، وما قد يتبع ذلك من تغيير حسابات القوة الشاملة مجدداً للدولة السودانية حال نجاح ذلك الحراك فى تنفيذ أهدافه، وهو ما يستلزم من السلطات التنفيذية بمختلف توجهاتها تكثيف جهودها لاحتواء ذلك التوجه بشكل عاجل.
تأثر الأمن القومى المصرى..
يكتسب ما سبق أهميته من امتلاك ولاية البحر الأحمر حدود مشتركة مع الأراضى المصرية وإمكانية ظهور دولة جديدة على الحدود الجنوبية لمصر غير معروف توجهاتها ولا تمتلك مقومات أو إمكانيات إقامة مؤسسات تسهم فى توفير أركان دولة مستقرة يتجاوز عدد سكانها النصف مليون نسمه بقليل، وتحظى بتبعية بعض الجزر الإستراتيجية – بما فيها جزيرة سواكن الهامة – بجانب إطلالها على المدخل الجنوبى للحدود البحرية المصرية وقناة السويس، مع عدم استبعاد تصاعد التوجهات العرقية والانتماءات الأفريقية لزعماء ذلك التيار المناهض لكل ما هو عربى، بما فيها إمكانية تبنيه أحد أهم شعارات زعماء وقيادات قبيلة “البيجا” المعروفة والخاصة بالادعاء بأحقيتهم في منطقة حلايب ووضعها على رأس أجندة أى سلطة مقبلة وانتقال التوتر لذلك المثلث الحدودى وتأثيره المباشر على استقرار المنطقة.
تورط جهات داخلية وخارجية..
تجدر الإشارة إلى سابق اندلاع توترات أمنية واسعة بمدينة بورتسودان عاصمة الولاية خلال شهر سبتمبر ٢٠٢٠ بين قبيلتى بنى عامر والنوبة، أدت إلى مقتل نحو ٣٠ شخصاً وإصابة حوالى مائة آخرين وتدخل وفد الحكومة السودانية وقوات الأمن وإلقائها القبض على ٥٨ متهماً بالتورط فى تلك الأحداث وإعلان حالة الطوارئ بالولاية وإقالة الوالى ومدير الأمن، وقد كشف الوفد الحكومى ولجنة التحقيقات المركزية عقب الاجتماعات التى عُقدت بالإدارة المحلية حيال الأحداث السابقة عن تورط جهات داخلية وأخرى خارجية في الاقتتال الداخلى، وضعاً في الاعتبار سابق إشارة بعض المراقبين إلى تورط إحدى قنصليات القوى الإقليمية المتواجدة بالولاية بتزكية ذلك الصراع وتنسيقها مع بعض رموز الحراك.
أيضاً لا يمكن إغفال سعى نظام البشير البائد لزراعة الاقتتال القبلى بين المكونات المختلفة واستغلال وجود امتدادات لقبيلة بنى عامر داخل أراضى دولة إريتريا وتنسيق النظام السودانى السابق مع بعض عناصر قبائل بنى عامر بالداخل الإريترى المناهضين لحكم الرئيس أسياس أفورقى في إطار سياسة البشير الرامية لدعم قوى المعارضة لدول الجوار الإقليمى وزعزعة استقرارها، وهو ما يمكن التقدير معه بعدم استبعاد استثمار أسمره لتلك التفاعلات فى إطار مساعيها الرامية لزيادة حجم الضغوط على النظام الحالى، وضعاً فى الاعتبار سابق تحالف أفورقى مع إثيوبيا وحشد القوات الإريترية المسلحة على الحدود مع السودان بالتزامن مع تفاقم المواجهات العسكرية السودانية الإثيوبية الأخيرة على إقليم الفشقه السودانى مؤخراً.
وبصفة عامة، فإن الدعم الإثيوبى المفترض لأية نزعات إنفصالية داخل المحيط السودانى سوف يكون منطقيًا، لاسيما فى ظل وضوح سياسة أديس أبابا المناوئة للخرطوم على إثر أزمة سد النهضة من جهة، وسابق تقديم إثيوبيا الدعم السياسى للمعارض السودانى عبد العزيز الحلو قائد الميليشيات المسلحة بولاية البحر الأحمر المقرب من النظام الإثيوبى من جهة أخرى، وبما قد يضيف للأخير كروت إضافية للمساومة والضغط على دول المصب.
جزيرة سواكن – صورة أرشيفية
وعلى المستوى الدولى..
نشير إلى أن ولاية البحر الأحمر وعاصمتها ومينائها الرئيسى “بورتسودان” بل وإمتداداته من الجزر التابعة له (جزيرة سواكن) قد شهدوا مزيداً من الاهتمام والتنافس الدولى خلال الفترة الأخيرة، فنجد تعرض الخرطوم لضغوط أمريكية مباشرة أدت إلى تراجع النظام السودانى الهش عن تنفيذ الاتفاق الذى وقعه رئيس مجلس السيادة السودانى عبد الفتاح البرهان خلال زيارته لموسكو عام ٢٠٢٠ بخصوص حصول روسيا على قاعدة بحرية لوجيستية على سواحل البحر الأحمر بالقرب من ميناء بورتسودان، لها القدرة على تقديم الدعم الفنى والنووى لقطعها البحرية المتواجدة فى المحيط الهندى دون الاضطرار لعبور قناة السويس شمالاً وصولاً لميناء طرطوس السورى بشرق البحر المتوسط، وتواصل القطع البحرية الروسية لأول مرة فيما بين المياه الباردة والدافئة والمحيط الهندى. وفى المقابل نجد رد الفعل الروسى الصادم بإحالة ذلك الاتفاق إلى مجلس الدوما للتصديق عليه رغم التراجع السودانى في خطوه يمكن وصفها بالتمسك والإصرار الروسى على التواجد العسكرى والنفاذ لتلك المنطقة الإستراتيجية وفرض الأمر الواقع مع عدم استبعاد وجود خطط روسية بديلة.
الإنذار المبكر والحلول الحتمية
لا شك أن التطور السابق المتمثل فى إعادة تجديد بعض القيادات المحلية بولاية البحر الأحمر مطالبتها بالانفصال عن الوطن الأم وتصعيد مواقفهم بالشأن، وتزامن ذلك مع ظهور العديد من المتغيرات الإقليمية والدولية، يعد بمثابة إنذار مبكر يتطلب أهمية تركيز النظام السودانى بجناحيه المدنى والعسكرى لوضع حلول جذرية لجميع قضايا ما يسمى بالشرق السودانى والوصول لعملية سلام شامل بما يضمن التعايش السلمى ووقف الاقتتال القبلى، من خلال تطبيق مبادرة جمع السلاح والإسراع فى خطط التنمية المستدامة وتنفيذ برامج الحكومة الانتقالية التنموية والاجتماعية والخدمية وتوفير التمويل اللازم لتنفيذها وفق خطة عاجلة تتضمن إنهاء عملية التهميش ودمج مختلف المكونات، لاسيما مع عدالة مطالب مواطنى شرق السودان المتعلقة بالتنمية من جانب، وامتلاك ولاية البحر الأحمر كافة الموارد الطبيعية من جانب آخر، بالتوازى مع تقديم مصر خلال المرحلة الحالية الدعم السياسى والتنموى اللازم لتعزيز جهود السودان نحو تركيز السلطة في يد النظام وتجنب عوامل الانقسام وإنهاء المرحلة الانتقالية واستكمال بناء السودان الجديد.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version