عكست جولة الصراع الأخيرة التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدءا من أحداث حي الشيخ جراح وتبعاتها، وصولا إلى نجاح الجهود المصرية في إيقاف العدوان الإسرائيلي تأثيراتها على الأوزان النسبية للقوى الإقليمية المؤثرة فى أزمات الإقليم، فظهرت قوى إقليمية قادرة على إدارة الأزمات مثل مصر وإيران، فى حين تراجعت قوى أخرى نتيجة تآكل مصداقيتها مثل تركيا بعد أن قضت زمنا في منافسة السعودية وإيران على قيادة العالم الإسلامي.
فكان هناك تمييز واضح بين الدور المصري والإيراني تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من حيث المنطلقات والأهداف، فى ضوء امتلاك الإرادة السياسية حيث تمثل القضية الفلسطينية لمصر قضية أمن قومي، ولكنها تمثل لإيران مصلحة إقليمية ونفوذ استراتيجي، وركيزة من ركائز محور المقاومة، ولديها خطط طموحة لدعمه لدرجة أثارت قلقًا إقليميًا ودوليًا، وجعلته إحدى القضايا الخلافية بين إيران والقوى الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل.
ومن هذا المنطلق بدا موقف إيران واضحا من الأزمة الأخيرة أنه محكوم في جملته بضرورات الداخل؛ وحسابات الخارج، والتي حتمت عدم إثارة الضجيج حوله، أو المبالغة في الدعاية على غرار كل التجارب السابقة؛ استنادا إلى أن ذلك يضر بمصالحها في الوقت الراهن أكثر من نفعها، على الرغم من أن مصالحها الإقليمية، كانت في حاجة ماسة لأن ترتكب إسرائيل أي حماقة من هذا النوع مع الفلسطينيين، كي تؤكد مرة أخرى دور محور المقاومة في بناء معادلات إقليمية وفق تصوراتها الاستراتيجية. ومن ثم تركت مسالة التفاعل مع تطورات الأزمة تسير في حدود الخطابات الإعلامية التي تصدر عن حزب الله بلبنان أو أنصار الله باليمن، وتسوق جيداً للمشروع الإيراني.
الإيراني
شعار منظمة FATF – أرشيفية
أما فيما يتعلق بحسابات طهران الداخلية، فمن المعروف أن الاقتصاد الإيراني يواجه تحديات كبيرة تتمثل في ظل استمرار العقوبات الخارجية، وإدراج إيران على اللائحة السوداء لـ FATF؛ ومن ثم عدم قدرتها على الارتباط بشبكة البنوك الرئيسية بدول العالم، فضلا عن تبعات جائحة كورونا، والتي عززت محصلتها من الأزمة الاقتصادية؛ فازدادت مؤشرات الانكماش الاقتصادي، وارتفعت معدلات التضخم، والبطالة، وعجز الموازنة، وارتفعت معدلات الفقر. وهي العوامل التي تقف اليوم وراء تفاقم الأزمة السياسية بل والأزمات الأخرى ذات المنشأ الاقتصادي والاجتماعي.
وكان من شأن ذلك أن أصبح النظام القائم في موضع المساءلة الشعبية ومحل المحاسبة الجماهيرية، حول أسباب إخفاقه في معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وسوء ترتيب أولوياته. وباتت مهمة إخراج الدولة من أزمتها الاقتصادية وعثرتها السياسية مطلبًا شعبيًا أصيلا، يحث النظام على أن تكون ضرورات الدخل مقدمة على دعمه لفصائل محور المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن. بعد أن ترسخت قناعة شعبية مفادها أن حسابات هذا النظام تعمل لصالح استمراره وليس لرفع المعاناة عن كاهل المواطنين، بدليل أن النفوذ الإقليمي، الذي أهدر المليارات في بنائه، ما هو إلا نفوذ قائم على خيارات أمنية وليس خيارات سياسية أو مصلحة اقتصادية.
ويدرك النظام الإيراني أن إجراءه لأي إصلاحات تمكنه من الحفاظ على التوازن بين ضرورات الداخل، وطموحات الخارج، لن يتأتى إلا برفع العقوبات كافة. وأن رفع هذه العقوبات سيظل رهنًا بنجاح مفاوضاته الجارية مع الأطراف الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. والتي إن تكللت بالنجاح؛ فسوف تتحول إيران الى قوة إقليمية معترف بها دوليا، ويتحقق لها طموح استراتيجي طالما سعت إليه، منذ قيام الثورة عام 1979م، ومن ثم كان لزاما عليه أن يتبنى صبرا استراتيجيا حيال كثير من التفاعلات الإقليمية. ولا سيما في ظل الإدارة الأمريكية الحالية، التي تنتهج أسلوبا يحفزه على التعامل مع إسرائيل بنمط مختلف.
منشأة نطنز النووية – أرشيفية
وفي هذا السياق، تعلم طهران جيدا أنها مدعوة لاستثمار الخلافات القائمة بين واشنطن وتل أبيب حول برنامجها النووي، لصالحها، خاصة أن تل أبيب بدأ ينتابها شعور عميق بأن واشنطن لم تعد مكترثة بشواغلها حيال خطر إيران عليها، بل إنها أخذت توجه إليها انتقادات عنيفة؛ بسبب العمليات النوعية التي قامت بها ضد أكثر منشآت إيران النووية والعسكرية تحصنا ودمرت جانبا مهما منها، بدءً من تفجير منشأة “نطنز” وصولا إلى تفجير مجمع “نارگُستر سپاهان” للصناعات الكيماوية بأصفهان، وآخر لصناعة المسيرات خلال شهر مايو الحالى؛ الأمر الذي يحتم عليها القيام بعمليات انتقامية محسوبة لا تتُخذ منطلقا لإفشال المفاوضات مع واشنطن.
وقد تبنت طهران هذه المرة موقفا هادئا حيال أحداث الصراع بالأراضي المحتلة، قياسًا على مواقفها السابقة؛ حفاظًا منها على استمرار المفاوضات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية؛ نظرا لأن فشلها هذه المرة يعني بقاء العقوبات، وتحويل الملف برمته إلى مجلس الأمن الدولي، واكتفت بإبراز الخطاب الإعلامي الصادر عن ركائز محور المقاومة بلبنان والعراق واليمن، وهو الخطاب الذي يعبر من تلقاء نفسه عن التصورات الإيرانية، ولكنها لم تستطع إظهار إشادات قادة حماس والجهاد بدورها في دعم المقاومة، خاصة التي ذكرت صراحة الدعم المالي لها، كما لم تستطع الإعراب عن سعادتها، بالدور المصري الذي نجح في إنهاء العدوان الإسرائيلي.
ولعل ما يسترعى الانتباه في هذا الشأن أن معظم وكالات الأنباء والصحف الإيرانية تبنت بعض المعالجات المنتقاة، التي نشرتها جريدة الشرق الأوسط، والقدس العربي، وعربي 21، فضلا عن قناة الجزيرة، لأنها كانت تتسق والتصورات الإيرانية تماما. خاصة التي أفادت في مجملها أن ضغوط الشعب الأمريكي والتظاهرات الحاشدة التي عمت المدن الأمريكية الكبرى، هي التي أدت إلى تغيير مسار المعادلات السياسية لصالح الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وأنها تعد المرة الأولى التي تحدث فيها انتفاضة فلسطينية تمتد من الضفة إلى القطاع والقدس والمدن المحتلة، وهذا يعد أهم إنجازات فصائل المقاومة، الذي سيجعل الاحتلال يفكر قبل مهاجمة القدس مرة أخرى، خاصة بعد فشل أنظمة دفاع القبة الحديدية في حماية المدن الإسرائيلية، وأثبتت عدم قدرتها على اعتراض جميع صواريخ المقاومة، وأن التحذير الأمريكي كان دافعًا قويًا وراء عدم قيام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ عملية برية على قطاع غزة.
وبصفة عامة، فقد حرص النظام الإيرانى على صياغة مواقفه وردود فعله إزاء العدوان الإسرائيلى على القطاع، بما يضمن الحفاظ على أمنه القومى ومصالحه الإستراتيجية، وإيصال رسائل لمختلف القوى الإقليمية والدولية، تستهدف لإيضاح ما يلى:-
أولا: فشل سياسة الضغط القصوى التي مارستها إدارة الرئيس الأمريكي السابق ضد إيران، على مدى السنوات الثلاث الماضية وأنها لم تكن ذات تأثير يُذكر على سياسات طهران الإقليمية، أو فى قدرتها على دعم ومساعدة محور المقاومة وحلفائها الإقليميين مع ظهور بصمة إيران فى إيصال صواريخ المقاومة الفلسطينية إلى جميع أنحاء إسرائيل، وعلى رأسها مناطق استراتيجية مثل مطار بن جوريون والمنشآت النفطية في إيلات وعسقلان، الأمر الذي أدى إلى زعزعة ثقة المواطنين الإسرائيليين في قيادتهم السياسية والعسكرية.
ثانيا: إخفاق العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على إيران، على مدى العقود الماضية، فى التأثير على القرار الإيرانى، رغم أنها قلصت من قدرة المواطنين الشرائية وخفضت جودة الحياة، وأثرت تأثيرا ملموسا على الطبقة الوسطى بالمجتمع. ولكنها جعلت إيران في ذات الوقت أكثر تمسكا بسياساتها المختلف عليها مع واشنطن، وأكثر إصرارا على ألا تحقق هذه العقوبات أهدافها، لا سيما التي استهدفت تقليص دعمها للميليشيات والجماعات الموالية لها في المنطقة. بدليل أن أنصار الله الحوثية نفذت، بدعم إيراني وفي ظل هذه العقوبات، أكثر من 150 هجوما نوعيا على المنشآت السعودية المهمة. وعلى الرغم من ذلك رحبت إدارة بايدن بدورها في اليمن.
ثالثا: التلويح بإمكانية قيام إيران، بوصفها قوة إقليمية كبيرة بتغيير كثير من سلوكياتها، وبإمكانها انتهاج مقاربة براجماتية في سبيل التوصل إلى تسويات إقليمية مع المملكة العربية السعودية والبحرين وأبو ظبي، ومصر وتركيا، بل ومع إسرائيل، إذا توفر الظرف المناسب لذلك. ولعل ما يضمن هذا النهج هو الدور الذي أوكلته الصين لها في مبادرة الحزام والطريق، بموجب اتفاقية برنامج الشراكة الاقتصادية الذي سبق توقيعه في مارس 2021م.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version